بالتعاون مع الصحفية إيمانويل أنيزون، قدّمت الشابة إنغريد ليفافاسور شهادة مثيرة ومشوّقة في كتابها "كن كريماً ـ لماذا أنا أقاتل؟"، باعتبارها واحدة من الناشطين في حركة "السترات الصفراء" الاحتجاجية التي عمّت مظاهراتها شوارع المدن الفرنسية العام الماضي، ما جعل الكتاب يحقّق نجاحاً كبيراً في مكتبات فرنسا فور صدوره قبل أشهر قليلة عن دار "Flammarion".
وأنيزون التي رافقت حركة السترات الصفراء منذ انطلاقتها، وكانت أحد الصحفيين النشطين في تغطية تطوراتها ورصدت تفاعلات الأوساط المختلفة حولها، صاغت صفحات الكتاب وأعدّتها للقراءة معتمدةً على ما روته "ليفافاسور" من أحداث وشهادات، جمعت فيها بين الشخصي والشأن العام الفرنسي. فقد لفتَ "كن كريماً"، أو بترجمة أخرى "ابقَ كريماً"، أنظارنا إلى الدوافع الكامنة وراء تلك التظاهرات من وجهة نظر إنغريد باعتبارها مواطنة فرنسية يتشابه وضعها مع أوضاع كثيرين غيرها.
وإذ عبّر الكتاب ـ كما أشرناـ عن وجهة نظر شخصية، ساعدنا في الوقت نفسه على فهم وتحليل ما كنا نراه على شاشات التلفزيون وأجهزة الاتصال الأخرى، بخاصةً وأنه تضمّن نقداً ذاتياً للحركة من داخلها، وتحديداً لمظاهر العنف التي سيطرت على عدد من المظاهرات في عدة مدن فرنسية وأكثر من مرة.
ما قبل العاصفة
لمعت الإثارة في الكتاب من مقدمته التي انطلقت فيها إنغريد من رسالة يائسة كانت قد كتبتها وهي في بيتها الصغير في النورماندي على حساب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على "إنستغرام" بتاريخ 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2018، أي قبل شهر واحد من بدء ما يسمى الآن "حركة السترات الصفراء". وقد استهلتها بـ"السيد رئيس الجمهورية، اليوم، أسمح لنفسي بالمجيء إليك لأنك تبدو قريباً جداً من الناس".
ثم استطردت في رسالتها، لتحكي عن وضعها الاجتماعي: مطلقة، أم لطفلين، إيما في الثالثة عشرة، ومايل ثمانية أعوام، عملت كممرضة مساعدة لنحو 4 أعوام. دخلها لا يتجاوز 1300 يورو على الرغم من أنها تعمل 6 أيام في الأسبوع وتضطر إلى السفر 900 كيلو متر شهرياً للوصول إلى مكان عملها. ولديها ما يكفي من المصاريف الهائلة والضرورية من دون شك.
لكن الفكرة التي أثّرت بها كثيراً وتوقفت عندها مطولاً في رسالتها للرئيس، أنها وفي حال لم تعمل وظلت جالسة في البيت إلى جانب أطفالها، ستكسب من المال أكثر مما تكسبه وهي تعمل، وذلك بفضل التعويضات التي ستحصل عليها من الدولة. وهنا سألته: ما الذي يجب عليها أن تفعله؟ الجلوس في المنزل مع الأطفال دون عمل والحصول على المال الكثير، أم مواصلتها الذهاب إلى العمل وهي قلقة على أن ثلاجتها فارغة وقد لا يكون بإمكانها أن تملأها الأسبوع المقبل؟
إنغريد لم تتلقَ رداً
بعدها، في 17 نوفمبر (تشرين الثاني)، أي بعد شهر من رسالتها التي لم يجب عليها أحد، تم توجيه دعوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي لسائقي السيارات من أجل الاحتجاج والتظاهر ضد ارتفاع أسعار المرور ورسوم المواصلات في جميع أنحاء فرنسا. وليتعرّف المحتجون على بعضهم البعض تقرّر أن يرتدي كل واحد منهم السترة الصفراء "النيون" الموجودة في سياراتهم جميعاً.
وبالفعل ارتدت إنغريد سترتها الصفراء والتحقت بـ300 ألف شخص في ذلك اليوم، هم من العمال الفقراء الذين لا يستطيعون بأجورهم ملء ثلاجتهم يومياً، وهم من سكان الضواحي الذين يشعرون بازدراء البرجوازيين لهم في المدن، وهم أولئك المواطنون الذين لم يعودوا يثقون بالسياسات التي من المفترض أنها تمثلهم.
اعتقدت إنغريد أن هذه الاحتجاجات ستكون لمدة يوم واحد فقط، ولم تكن لتعرف أنها ستستغرق عدة أشهر وتتحول إلى أطول حركة احتجاجية اجتماعية، هي الأهم التي عرفتها فرنسا منذ العام 1968.
قصة تحول
ما أردات إنغريد أن تسلّط الضوء عليه في هذا الكتاب أكثر من أي أمر آخر، هو قصة تحولها الكبير، من امرأة ساذجة وبسيطة وعديمة الخبرة، أنهكتها طفولتها المزدحمة بمشاكل السمنة واضطهاد الأهل، وقد قاست الكثير مع الشريك غير المناسب، وتحمّلت إهانات وتوبيخات مديري العمل المستمرة، إلى واحدة من الناشطين في حركة احتجاجية مهمة، لها أسسها ومطالبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ما يعني أنها أصبحت تدرك حقيقة الإعلام وخطط الاقتصاديين ورجال السياسة. إنها ببساطة، تروي قصة تحولها إلى مواطن حقيقي وإلى امرأة حرة وقوية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكّدت أن قصتها بما فيها من أحداث ومشاكل ومأساة حاصلة، تشبه قصة الكثير من الفرنسيين الذين يعيشون حياةً بائسة لا يستطيعون فيها تقرير مصيرهم أو مصير أبنائهم. حتى أنهم غير قادرين على العيش الإنساني الطبيعي، وأن ينفقوا من المال ما يسدّ حاجاتهم اليومية بشكل منصف. فإنغريد كما هم، لطالما حظيت بوجبة واحدة فقط خلال اليوم بسبب عجزها المادي.. فأين العدالة الاجتماعية؟
شدّدت إنغريد على أنها خرجت للتظاهر من أجلها ومن أجل آلاف الفرنسيين الآخرين من رجال ونساء على حدٍ سواء. لكن هذا لا يمنع من كون تضامنها الأكبر هو مع قضية المرأة ضد جميع أنواع الاضطهاد. فقد خرجت إلى الشوارع لتندّد بسوء معاملة النساء في قطاع العمل، ولتكشف ما يتعرّضن إليه من تحرّش ومضايقات وإهانات طيلة مسيرتهن المهنية. كذلك تظاهرت بهدف تسليط الضوء على معاناة المرأة العاملة التي تحاول جاهدة التوفيق بين بيتها وعملها في ظل ظروف اجتماعية ومادية سيئة جداً. إنها بهذا، تضع تجربتها الشخصية كمثال ودافع في آن واحد، مؤكدةً أن معاناتها جعلتها تشعر بما تقاسيه النساء الأخريات في المجتمع الفرنسي.
ثمة تحول آخر في حياة إنغريد روته لنا في الصفحات الأخيرة من الكتاب. إنه تحوّل من كونها مفعمة بطاقات التغيير والتطوير في هذا المجتمع، إلى دخولها في مرحلة الصدمة أو الانزعاج نتيجة لتقلّص حركة السترات الصفراء دون انتصارات حقيقية تُذكر على أرض الواقع. ولم تستطع إخفاء استغرابها الشديد من أن كاتدرائية نوتردام في باريس قد تلقت تبرعات بقيمة ملايين اليوروهات في غضون 24 ساعة من احتراقها الرهيب، في حين أنه يصعب الحصول على المال من أجل مساعدة البشر في هذا المجتمع.
إنها تبدي أسفها أن كل تلك الاحتجاجات التي فاضت بها الشوارع الفرنسية والتي استمرت قوتها لشهور متواصلة، لم تُحدث تغييرا جذريا. ما زالت إنغريد عاجزة مادياً هي وجميع من خرجوا للتظاهر، وما زالت تعاني في عملها من دون فائدة، وغير مستقرة اجتماعياً. ولكثرة ما أحبّت المرأة التي أصبحت عليها بعد انخراطها في الحركة، لم تعد إنغريد قادرة على العودة إلى حياتها السابقة، كامرأة ساذجة لا تهتم إلا بشؤونها اليومية. لقد غيّرت هذه الحركة نمط تفكيرها وزادتها وعياً، وأخذتها باتجاه طريقٍ يصعب الحياد عنه بعد اليوم.
اكتشافات وحقائق
كشف الكتاب عن أهمية وسائل التواصل الاجتماعي في حركة السترات الصفراء. إذ أكّدت إنغريد أن الـ"فيسبوك" بالنسبة إلى الفرنسيين من ذوي حركة السترات الصفراء، كان ساحة نقاش لطالما تخلله الجدال والانتقاد. ما جعلهم يمارسون الديمقراطية كما يجب أن تكون، ويقدّمون أفكارهم الحقيقية التي تعبّر عن معاناة آلاف المواطنين، بعيداً عن تنظير الخبراء والتكنوقراطيين.
لكن من جهةٍ أخرى، وفي شهادتها عن دورها في التظاهرات الشعبية، أشارت إنغريد إلى أن الدخول إلى المطبخ السياسي ليس بالأمر السهل. ثمة قواعد وعلاقات شديدة التعقيد قد لا يستطيع الإنسان حلّ ألغازها أحياناً. وما يزيد الأمر صعوبة تضارب الآراء إزاء بعض الخيارات واختلاف ردات الفعل بين شخصٍ وآخر، والتي تصل في كثير من الأحيان إلى التهديد والكلام البذيء المرعب. فضمن هذه الحياة الصاخبة بالاحتجاجات والتظاهر وباجتماعات العمل السياسي، نشأت نزاعات متوقعة بين أصحاب السترات الصفراء وكان لإنغريد دور أساسي فيها بسبب كونها أصبحت واحدة من شخصيات الحركة الفاعلين اجتماعياً وسياسياً وإعلامياً، ولأنها عملت على دخول الانتخابات الأوروبية في دورتها الفائتة، من خلال ترأس قائمة باسم السترات الصفراء.
بالإضافة إلى هذه الاتهامات العديدة التي توجّهت لإنغريد أثناء انغماسها في العمل السياسي والاحتجاجي، لمست بعض التجاوزات في توجهات الحركة وقد ندّدت بها علناً عبر وسائل الإعلام، الأمر الذي حال بينها وبين السترات الصفراء. لكن ما حدث لم يمنعها من الاستمرار بالعمل من أجل مجتمع أكثر عدلاً، فأسست جمعيتين تمعنان بالشأن الديمقراطي في المجتمع الفرنسي.
نقلت إنغريد مشاعرها إلى صفحات الكتاب. ولم نكن بحاجة إلى قراءة ما بين السطور، فعباراتها كانت واضحة بما تحمله من تضامن وفخر والتفاؤل وغيرها من المشاعر المتضاربة. لقد عبّرت عنها بكل جرأة وصراحة، معلنةً عن تخبّطها بين الأمل ببناء مستقبل حيث الحياة ستكون جيدة وممكنة للجميع، وخوفها من أن الحال يستمر على ما هو عليه اليوم مع انخماد شرارة حركتهم الاحتجاجية.
وفي الختام وجّهت شكرها لأولئك الذين ساندوها منذ تاريخ 17 نوفمبر 2018، وإلى أولئك الذين سيكونون إلى جانبها في المستقبل. أما ابنتها وابنها، فتأمل أن يكونا قويين بما فيه الكفاية ليستطيعان المحاربة من أجل أفكارهما وقناعاتهما.