في الوقت الذي كانت فيه جماعة "أنصار الله" تثبّت مواقعها العسكرية داخل المحافظة صنعاء وفي أطرافها، وتجري تفاهمات مع القبائل المحيطة بها، كان التناقض الطبيعي بين شخصيتي هادي وبحاح، لفارق الخلفية الثقافية والعمرية، يلقي بظلاله على الأداء الحكومي، خصوصا أن تشكيلتها لم تكن في معظمها من عناصر قادرة على التعامل مع أوضاع استثنائية خانقة، ولم يكونوا على قدر من المهارة السياسية والإدارية المطلوبة في مرحلة كانت كل مؤشراتها تدلّ على عجز الرئيس وضعف حكومته وارتباك القوى السياسية مجتمعة، وفي المقابل كانت هناك جماعة شابّة منضبطة وذات عقيدة ولها هدف محدد.
حصلت حكومة خالد بحاح على الثقة من مجلس النواب في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2014، إلا أن ذلك كان إجراءً روتينيا بموجب المبادرة الخليجية التي تحتّم التوافق حول كل القرارات الصادرة منه، وكان الجميع يرغب في تفادي نزاع سياسي بعد التوقيع على "اتفاق السلم والشراكة الوطنية، وفشلت محاولات عدد من أعضاء "المؤتمر" ربط تصويتهم برفع العقوبات المفروضة على الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، وكان ردّ بحاح بأنه أمر ليس في يد الحكومة، وكان لافتا في ردوده على أعضاء مجلس النواب إشادته بالاتفاق الموقع بين الحوثيين وبقية القوى السياسية، حيث قال "تعتزم الحكومة الشروع الفعلي وبعزيمة لا تلين في السير قدما نحو تنفيذ اتفاقية السلم والشراكة ومخرجات مؤتمر الحوار".
عجز جماعي
في ظل التوتر المتصاعد داخل العاصمة وتحذيرات العارفين بطبيعة العلاقات القبلية والتفاهمات التقليدية، إلا أن الرئيس هادي بقي متمسكا بنهجه في عدم المواجهة والمصارحة، وتمسّك بحصر نفسه في دائرة ضيقة لم يتمكن أحد من اختراقها سوى مدير مكتبه أحمد بن مبارك والمبعوث الأممي جمال بنعمر، وانقطع عدد من الوزراء عن ممارسة أعمالهم بعد أن أصبح "المشرف" هو صاحب الكلمة الأولى في المؤسسة، وبقي كبار قادة الجيش في بيوتهم، وعاش المواطنون أوقاتا عصيبة لا يفهمون مساراتها المقبلة.
كانت فترة قلق وترقب وحيرة واضطراب لم يشهدها اليمن حتى في خضم أقسى معارك الدفاع عن النظام الجمهوري 1962 -1970، باستثناء حصار صنعاء الذي استمر سبعين يوما، ولكن الفارق الأساسي في المستوى الذهني والقيادي الذي كانت عليه قيادات تلك المرحلة العصيبة من تاريخ اليمن، وإيمانها بقضية وتمسكها بعقيدة قتالية وسياسية وثقافية جمعت كل أطياف اليمنيين الذين وقفوا إلى جانب النظام الجمهوري.
في شهر مارس (آذار) 2014، أصدر الرئيس هادي قرارا بتشكيل لجنة فنية لإعداد دستور الدولة الجديد، وبعد عدد من الاجتماعات في صنعاء بدأت زيارات قام بها أعضاؤها إلى عدد من الدول للتعرف إلى تجاربها في تطبيق النظام الفيدرالي والحكم المحلي، ثم انتقلت بكامل أعضائها إلى أبو ظبي في نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول)، وصرح رئيسها إسماعيل الوزير حينها بأن الغرض هو "الابتعاد عن الضغوط وتأثير الأطراف السياسية المختلفة"، وأضاف أن اللجنة ستبقى لمدة شهر في الإمارات.
في بداية العام نفسه، كانت اللجنة التي شكّلها الرئيس هادي لإعداد تصور لتقسيم البلاد إلى عدة أقاليم، قد توصلت إلى نتيجة أثارت ضجة سياسية حول الطريقة التي توصلت بها إلى تحديد ستة أقاليم، من حيث توزيعها السكاني والثروات وعزل إقليمين منهما عن البحر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان مشهد التوقيع في فبراير (شباط) 2014 على الوثيقة مثيرا للدهشة، إذ وقّع ممثل الحزب الاشتراكي عليها رغم إعلان حزبه إصراره على تقسيم البلاد إلى إقليمين. وبالمثل فعل من فرضهم الرئيس هادي ممثلين للحراك الجنوبي، كما أن المؤتمر الشعبي أعلن رفضه فكرة التقسيم من حيث المبدأ، إلا أن الدكتور عبدالكريم الإرياني وقّع باسم التنظيم، لأنه كان مقتنعا بأن القبول بإقليمين يعني ما كان يصفه بالانفصال المؤجل.
وبالعودة إلى لجنة إعداد الدستور، فإنها انتهت من أعمالها بأبو ظبي في مطلع يناير (كانون الثاني) 2015، وعادت فورا إلى صنعاء، وسلّم رئيسها إسماعيل الوزير المسودة النهائية إلى الرئيس هادي رغم رفض ممثل جماعة "أنصار الله" في اللجنة، الدكتور عبد الرحمن المختار، التوقيع عليها بمبرر أن التأكيد على الأقاليم الستة في المسودة غير مقبول لأنهم كانوا يشترطون أن يكون للإقليم الذي يخضع لهم منفذ بحري، وهو ما كان مرفوضا إقليميا ومن بعض القوى السياسية التي كانت تعتبر أن هذا سيمنح جماعة "أنصار الله" مجالا بحريا مجاورا للسعودية، مما يشكّل خطرا استراتيجيا عليها، خصوصا مع تزايد الإعلان صراحة عن ارتباط الجماعة بالنظام الإيراني.
من الواضح أن الرئيس هادي كان مستعجلا لإقرار مسودة الدستور وفرض وثيقة التقسيم، ليكونا منجزه التاريخي، فأحال المسودة إلى لجنة شكلها في نهاية شهر أبريل (نيسان) 2014 برئاسته لمراقبة تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، وكانت مشكلّة من 82 عضوا مناصفة بين الشمال والجنوب، وهو تصرفٌ يثبت مرة أخرى أنه لم يكن يدرك تماما حدود قدرته على تمرير ما يريد، وما كان مقدرا لرد فعل "أنصار الله"، وغفل عن أن الإقليم والعالم كان قد ملّ من عجزه على تسيير الأمر بصورة سلسلة وآمنة، فتركوه وحيدا ليواجه الحوثيين، ومعهم الرئيس الراحل علي عبد الله صالح.
استمر الرئيس هادي في محاولاته إرضاء "أنصار الله"، فأصدر قراره في نهاية ديسمبر 2014 بتعيين "العقيد" زكريا الشامي نائبا لرئيس الأركان وترقيته إلى رتبة لواء، ففتح أبوابا لمطالبات غير قانونية، وتواصلا لمسلسل التخلي عن التراتبية داخل المؤسسة العسكرية. وأياً ما كانت مبررات الرئيس حينها فإنه لم ينتظر طويلا قبل أن يصبح في مواجهة مباشرة مع "أنصار الله"، الذين واصلوا خلق مراكز نفوذ تتبعهم مباشرة داخل المؤسسات، وكانوا غير مؤهلين ومن دون خبرة كافية، وجرى ذلك دون مقاومة من قيادة البلاد.
كانت البلاد تسير نحو هاوية بسرعة قصوى، بينما الرئيس هادي منشغل بتسريع إقرار الدستور والانتقال إلى الاستفتاء عليه، ثم الدعوة إلى انتخابات عامة رئاسية ونيابية بموجب الدستور الجديد، لكن ما كان يدور على الأرض كان شديد الاختلاف.