عندما عولِجَ بن غرايفستون من اضطراب "إجهاد ما بعد الصدمة"، سمع للمرّة الأولى بـ"بريغايد"، وهو عبارة عن حانة ومطبخ بلمسة مختلفة.
وفي التّفاصيل، دخل غرايفستون إلى مستشفى "مودسلي" للصحة النّفسية حيث مكث قرابة الـ10 أشهر بعد تعرّضه لإنهيارٍ عصبي جراء إصابته بلدغة قرّادة في أفعانستان تطوّرت إلى التهاب "الحمى المشبوهة" البكتيري الحاد، إضافة إلى معاناته فترةٍ طويلة من الأرق والاكتئاب بسبب محاولاته المستمرّة التّعامل مع نهاية حياته المهنيّة الحافلة كمسعفٍ في أرض المعارك. صدّقوا أو لا تصدّقوا، لكن بن غادر الجيش بعد أن خدم في أفعانستان والعراق متمّماً خمس جولات ميدانية في الوقت الذي يُتوقّع لشخصٍ في مركزه ألاً يُتمّم سوى جولة ونصف الجولة. ومع تقدّم مسيرة تعافيه وتفكيره أكثر فأكثر في ما يُمكن أن تكون عليه يومياته خارج جدران المصحّة، بدأ القلق من عدم القدرة على مواجهة الحياة وحيداً، يتسلّل إلى قلب غرايفستون وعقله.
"بصفتي محارب سابق يُعاني من صدماتٍ نفسيّة معقّدة واضطراباتٍ حادة من مرحلة الطّفولة، أرى أنّه من الصّعب على المرء أن يكون أكثر عرضةً منّي للتشرّد"، وفق غرايفستون. ويتضمن كلامه تأييداً واضحاً وصريحاً للتقديرات التي صدرت عن "الفيلق البريطاني" في 2004 واعتبرت أنّ 3% من الأشخاص الذين يفترشون شوارع لندن هم موظفو خدمات سابقون، وكذلك الدّراسات التي كشفت عن أنّ ما يصل إلى 85% من المشردين في إنكلترا ربما عانوا من صدمات نفسيّة في طفولتهم.
في المقابل، لم ينتهِ المطاف بغرايفستون إلى التشرّد، بل على العكس من ذلك. إذ أحاله أحد المعالجين المهنيين إلى مؤسسة "بريغايد" المعروفة بسلسلة برامجها المخصّصة للأشخاص الذين لا مأوى لهم أو على وشك أن يُصبحوا من دون مأوى.
ومع بداية 2020، تُطلق "بريغايد" النّسخة الخامس عشرة من برنامجها الذي تبدأه عادةً باستخدام ما بين 50 و100 شخص من الأوساط الضّعيفة، أو بالأحرى تبدأه بخدمات الشّباب وخدمات السّجون وبرامج إعادة التأهيل من المخدرات والمعالجين المهنيين كما في حالة غرايفستون. وفي الدّورة التّدريبية الأوّلية، تستخدم "بريغايد" الطّعام وسيلة للتحفيز والإلهام، وذلك عن طريق طهو أطباق جديدة وإتمام جولات في السّوق المحليّ وتعلّم ألف باء الوجبات الصّحية والمغذيّة.
وعند هذه النقطة، يستذكر غرايفستون تفاصيل زيارته لـ"سوق بورو" منذ عامين. آنذاك، لم يكن قادراً على التخلّي عن عقليّته العسكريّة، إذ لم ينفك يتحقّق غريزياً من المسارات داخل السوق وخارجه ويتفحّص كلّ شيء وكلّ شخص من حوله.
"بعض الأصوات كانت مروّعة جداً بالنّسبة إليّ"، يروي غرايفستون. "ففي ذلك الوقت، كنتُ قد أمضيت 10 أشهر طويلة داخل مصحّةٍ عقلية وكنتُ خائفاً جداً من العالم الخارجي الفسيح". ويومها، ارتأى جان سيمور، أحد المساعدين في البرنامج، أن يُعطي غرايفستون برتقالة وحفنة من إكليل الجبل كي يُخفّف من توتره ويُعيده إلى أرض الواقع والزّمن الحاضر.
"كان جان حساساً جداً"، يُتابع غرايفستون، "أذكر جيداً أوّل يوم لي في البرنامج وكم كنتُ أعاني بسبب أعداد النّاس المحيطين بي من كلّ جانب وحقيقة أنني لم أكن أعرفهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبعد إنتهاء البرنامج الأوليّ الممتدّ على ثلاثة أسابيع، ينقسم المشاركون إلى ثلاث مجموعات، كلٌّ بحسب احتياجاته. وتُوجّه الأولى للحصول على مساعدات تتناسب مع حاجاتها، والثانية تسعى إلى وظائف بدوام كامل تُحاكي مهارات أفرادها، وتشق مجموعة ثالثة يتكون أفرادها من أمثال غرايفستون، طريقها في مجال الضيافة. وبالنّسبة إلى المجموعة الأخيرة، يحظى كلّ فرد من أفرادها بفرصة إجراء مقابلة تؤهّله لملء أحد المناصب السّتة عشر الشّاغرة في "بريغايد" والموزّعة بالتّساوي بين طهاة ومضيفين يتعاملون مباشرة مع الزبائن. والمعروف عن المشاركين في تدريبات "بريغايد" أنّهم ينهونها وفي حوزتهم مؤهلات مهنيّة من المستوى الثاني، إضافة إلى خبرة عمليّة ضّرورية للعثور على وظيفة بدوامٍ كامل في قطاع الأغذية والضّيافة.
وبالاستعادة، أسّس سايمون بويل "بريغايد" عام 2011 في آخر عقار فارغ في "مور لندن" على قاب قوسين أو أدنى من "جسر لندن" حيث دار البلدية ومكتب شركة المحاسبة العالمية "برايس ووتر هاوس كوبرز". ويُقال إنّ هذه الأخيرة اتّفقت مع "دي فيري فانتشورز" و"وكالة المنازل والمجتمعات" على توظيف 800 ألف جنيه إسترليني لتحويل الموقع إلى المطعم الذي يُحقّق في الوقت الرّاهن أرباحاً تصل إلى مليوني جنيه إسترليني سنوياً، تتقاسمها المؤسسة ["بريغايد"] مع جمعيات خيرية وشركات اجتماعية مختلفة. وكذلك راودت فكرة إنشاء تلك المؤسسة الطّاهي السّابق بويل قبل ذلك بكثير، أثناء عمله سفيراً لفنون الطّبخ لدى شركة "يونيليفر" في 2004.
آنذاك، "كان ابني في الشّهر الثّالث؛ وفيما كنتُ أُجهّز له الحمام بدأتُ أراقب المياه المتدفقة من الصّنبور وأفكر في الأشخاص الذين اعتدتُ العمل معهم على متن السّفن"، يُخبر بويل. وسرعان ما تملّكه شعور قويّ بضرورة التدخّل لمساعدة الأشخاص الذين يُعانون الأمرين في سريلانكا. "كنّا في الـ"بوكسينغ داي" [يوم عطلة يلي أمسية عيد الميلاد] عندما طرحتُ الفكرة على زوجتي ووافقت عليها. وقد وافقت من دون أن تتوقّع مني (الذّهاب). ولكنّني فعلتها وغادرتُ بعد يومين. وقد قلب ذلك الأمر حياتي رأساً على عقب".
هناك، وعلى مدى ثمانية أسابيع، ساعد بويل في إنشاء مستشفى وصفوف مدرسيّة للأشخاص المتأثّرين بكارثة التسونامي، مستحصلاً على الضّمادات ومواد المطالعة من عابري السبيل. "ولمّا عدتُ إلى دياري وجدتُ نفسي أقول بأعلى صوتي أنني لم أعد أرغب في استثمار جهودي في حملات "بيبيرامي" [الإعلانية الرامية الى الترويج لنوع من النقانق]"، بحسب بويل. نعم، هذا صحيح. "بتُّ مهووساً بفكرة التشرّد وإمكانية تقطّع خيوط الحياة بغمضة عين. وبمساعدة صديق لي، فهمتُ أخيراً أنّ ما يحصل في سريلانكا لا يختلف عمّا يحصل من حولي".
وبناءً عليه، أنشأ بويل وزوجته في 2005 مؤسسة "بيوند فوود" المتخصصة في إدارة الأحداث والفعاليات، وافتتحا معاً النّسخة الأولى من مطبخ التّدريب في "دار النّساء سانت بارنابا" في حي "سوهو" 2006. ويعلم بويل من تجربة مباشرة كيف يُمكن لبعض الأحداث أن تؤول إلى إنهيار حياة المرء مهما كانت مستقرة. إذ خسر زوجته في أبريل (نيسان) 2013 عن عمر 36 عاماً بعد معاناة ثمانية عشر شهراً مع المرض، ووجد نفسه مُجبراً على رعاية ابنهما الصّغير وإدارة الجمعية التي أنشآها سوياً، بمفرده ومن دون سند. "أرى كثيراً من النّاس يأتون إلى هنا وهم على نفس قدر الضّعف الذي كنّا عليه في ذلك الوقت"، على حدّ تعبير بويل.
وخلال الأشهر الستة الأولى التي تلت وفاة زوجته، لم يشأ بويل فتح الرسائل التي وردته في البريد، على أساس أنّها كانت وستظلّ من مسؤوليات زوجته، ما أدّى إلى تراكمها. وظلّت الأمور على تلك الحال حتى قرّر التّواصل مع العائلة والأصدقاء الذين فتحوا عينيه على سهولة فتح رسالة أو دفع فاتورة. "أعتقد أنني لو استمرّيتُ في مراكمة الرسائل أكثر، لما كان من السّهل عليّ أبداً دفع الفواتير أو الاستمرار في سداد القرض السّكني أو الإيجار. ويحدث ذلك تماماً لهؤلاء الناس، بمعنى أن أموراً كثيرة تبدأ بسيطة وتتصاعد"، يُضيف بويل. لغاية اليوم، عملت "بريغايد" مع 3500 شخصٍ معرّض للتشرد ووظفت 121 متدرباً بدوام كامل في مطعمها. وبعد إنتهاء التّدريب، يغادر المشاركون "بريغايد" ليتولوا وظائف بدوامٍ كامل. ويصبح بعضهم عاملاً وفياً ومتفوّقاً في قطاعٍ يدرّ أرباح كبيرة، وينحسب بعضهم قبل وصوله تلك المرحلة بوقتٍ طويل، بسبب عدم القدرة على الموازنة بين صحتهم النفسية وظروفهم الشخصية من جهة وتحمّل المسؤوليات الوظيفيّة من جهة أخرى. وبحسب بويل، يتواصل مشروع "بريغايد" مع ألف شخص لكلّ 20 موظفاً.
وبالعودة إلى غرايفستون، نذكر أنه يمثّل أحد المتدربين النّاجحين في "بريغايد". وفي غضون عامٍ واحد من دخوله الوظيفة، تسنّت له فرصة التنقّل بين "مايفير" [في لندن] وفرنسا والنرويج، ثم تكلل مساره أخيراً بحصوله على ترقية. "الطعام منطقة آمنة لعقلي. وبفضله، تغيّر مسار حياتي بطريقة ثورية"، يختم غرايفستون.
© The Independent