لقد طبَّقتْ تركيا حتى عام 2010 استراتيجية "اربح- أربح" في العلاقات الدولية، ويمكن القول إنها، على الرغم من بعض الثغرات والعيوب، نجحت في ذلك بصفة عامة.
وبالأخص حققت مقولة "صفر مشاكل مع الجيران" مكاسب سياسية وتجارية لتركيا لدى الرأي العام العالمي.
وكانت هذه السياسة تَلْقَى ترحيباً عاماً لَديْنَا، نحن المتابعين والإعلاميين على اختلاف مشاربنا وتوجهاتنا اليمينية أو اليسارية أو الليبرالية أو المحافظة أو العلمانية الخ.
فقد كانت الحكومة وَعدت بأنها ستتبع خطاً ليبرالياً، وجعلتْنا نؤمن -على الرغم من خلافاتنا معها في الفكر- بأنها ستعمل على توحيد المجتمع في الداخل وتقليل مشاكلنا مع الجيران في الخارج.
ولكن لسوء الحظ، مع اندلاع "ثورات الربيع العربي"، في نهاية عام 2010، بدأت حكومة حزب العدالة والتنمية تخرج -على الرغم من كل تحذيراتنا- عن هذا المسار، وتتجه نحو الرجوع إلى ما يكمن في عقلها الباطن من نوازع الإسلام السياسي، حتى سيطر على جسمها المرضُ الذي نسميه "العثمانية الجديدة".
ومما زاد الطينَ بِلَّةً تلك الأحلام النرجسية التي استولت على قلب الرئيس رجب طيب أردوغان، ما أودى بالبلاد نحو مهاو يصعب الخلاص منها، وكلف المواطنين ثمناً باهظاً.
وكانت علاقات تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، تجري مع روسيا في إطار سياسة التوازن حتى الوقت الذي أسقطت فيه القوات التركية مقاتلة روسية في الأراضي السورية عام 2015.
فكانت التصريحات المتوالية من الطرفين تؤدي إلى تصعيد التوتر بين الجانبين إلى درجة أننا وصلنا إلى حافة الحرب مع روسيا.
وكانت هذه أول "لعبة روليت" يلعبها أردوغان مع فلاديمير بوتين.
فماذا حدث بعد ذلك؟
ذهب أردوغان إلى سوتشي بعد ستة أشهر من هذا الحادث للقاء مع الرئيس الروسي.
ولم يكفِ هذا، بل بدأت مباحثات مع الجانب الروسي بشأن شراء صواريخ (S-400)، التي لا يمكن دمجها مع نظام الدفاع الجوي الذي يستخدمه الجيش التركي.
وباختصار، كلَّفت لعبة الروليت هذه أردوغان شراء صواريخ (S-400) وتغيير النظام في تركيا.
ولكن يبدو أن أردوغان، الذي أصبح يضيق به المجال في السياسة الداخلية، لم يتعلم الدرس جيداً في اللعبة الأولى، بل أخذ يحاول أن يعود إلى "لعبة الروليت" مع بوتين مرة أخرى في إدلب.
ومن الجدير بالذكر أن جيش النظام السوري استولى في الشهر الماضي على معرة النعمان، ومن بعدها على بلدة سراقب.
وهكذا أصبحت تصريحات أردوغان وتهديداته لسوريا في مهب الريح!
حيث قال في تصريح له يوم الأربعاء الماضي، "إذا لم تنسحب القوات التابعة للنظام السوري خلال شهر فبراير (شباط) إلى ما بعد نقاط المراقبة التركية، فستضطر تركيا للقيام بهذا العمل بشكل مباشر".
وتقع سراقب على التقاطع الذي يجمع بين الطريق السريع "M5" الذي يربط حلب بدمشق وبين الطريق السريع "M4" الذي يربط اللاذقية بحلب. ومع سقوط مدينة سراقب بأيدي قوات النظام، لم يبق بين دمشق وحلب أي مدينة أو محافظة كبيرة يستولي عليها المعارضون.
ومن المتوقع أن تتوجه قوات النظام بعد هذه المرحلة نحو الجنوب والجنوب الغربي من أجل السيطرة على الطريق المؤدية إلى اللاذقية.
وإذا نجحت قوات النظام المدعومةُ من روسيا في تطهير المناطق المحيطة بطريق "M4"، فسيستولي على أكثر مما يزيد على نصف مدينة إدلب.
وفي حالة حدوث هذا السيناريو، سيقع ما لا يقل عن ثلاثة ملايين ونصف مليون نازح إلى هذه المنطقة تحت حصار يشبه وضع الفلسطينيين في غزة، التي تحاصرها إسرائيل.
وقد ألقى أردوغان باللائمة على روسيا، معتبِراً التقدم السريع لقوات النظام نتيجةً طبيعية للدعم الروسي، واتَّهم روسيا بعدم الالتزام باتفاق سوتشي.
ولكن روسيا رفضت ذلك واتهمت تركيا بعدم الوفاء بما التزمته بموجب تلك الاتفاقية من تطهير المنطقة المنزوعة السلاح في إدلب من الجماعات المسلحة، وأن روسيا اضطرت إلى القيام بذلك بنفسها.
وقد أنشأت تركيا في إدلب بموجب تلك الاتفاقية 12 نقطة مراقبة، ولكن بعد هجوم قوات النظام الأخير انقطعت صلة ثلاث من تلك القواعد بالمناطق التي تستولي عليها المعارضة.
ومن غير المعروف ما إذا كان أردوغان قادراً على مهاجمة قوات النظام في الفترة المقبلة على الرغم من الدعم الروسي أو لا.
ومن المعلوم أن أردوغان يستخدم القضية السورية كأداة ترويج لنفسه في السياسة الداخلية، ولكن يبدو من الصعب بعد هذه المرحلة أن يقوم بعملية في سوريا من دون الحصول على إذن من بوتين.
كما أنه من الصعب أن يساعد بوتين أردوغان بعدما تبين أن القوات السورية تسببت في خسائر بشرية في صفوف الجيش التركي، من خلال توفير روسيا الدعم الجوي للنظام السوري.
وقد تعلَّم أردوغان منذ بداية الأسبوع ما ستؤول إليه خطواته غير المصرح بها، بعدما قُتل ثمانية جنود أتراك ومدنيٌ جراء هجوم قوات النظام.
وقد صَرَّحت روسيا بأن تركيا أرسلت قواتها إلى المنطقة من دون إخطارها بذلك، ولذلك أصبحت هدفاً لقوات النظام.
وهذه رسالة تحذيرية، نفهم منها بأن روسيا صاحبة القول الفصل في سوريا.
ومن الصعب التنبؤ بما ستكون عليه الخطوة التالية لأردوغان في ليبيا، بعدما تَلَقَّى هذه الصفعة الأخيرة في إدلب.
وقد شهدت تركيا في الأيام الأخيرة كثيراً من الكوارث الطبيعية والنكسات الاقتصادية التي هزت أركان عرش أردوغان.
ولا ننسى أن من أصل 12 نقطة مراقبة تركية في إدلب، تتموقع ثماني على الجهة الجنوبية من الطريقين السريعين (M4 وM5). فإذا سيطرت قوات النظام على الجنوب ستظل ثماني قواعد تركية تحت سيطرة قوات النظام. ولكن أردوغان يحاول ألا يتراجع في هذه النقاط، لأنه إذا غادرت القواتُ التركية هذه النقاط، سينعكس ذلك على الرأي العام التركي، باعتباره تراجعاً وهزيمة لأردوغان في سوريا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مع ذلك، فمن غير المرجح أن تغادر قوات الأسد المناطق التي طهرتها من المعارضة حتى نهاية فبراير.
ففي هذه الحالة، يحتاج أردوغان إلى صد قوات النظام. ولكن لا يبدو ذلك ممكناً في ظل الظروف الراهنة.
وتطبق أنقرة في قضية إدلب إستراتيجية "الدبلوماسية المجبرة/ القسرية" (coercive diplomacy)، فترفع نسبة الوجود العسكري في إدلب على الرغم من هذا الحصار المحتمل، حتى تجذب بوتين والأسد إلى الطاولة ثم تجبرهما على تنازلات مقابل سحب القوات.
في المقابل، قامت موسكو بإرسال رسالتين من إدلب إلى أنقرة مفادهما:
- "إنك لا تفي بمسؤولياتك، بل على العكس، تفسح المجال للإرهابيين. ولا تنسَ أنَّ تقدُّم الجيش السوري يدخل في نطاق الحرب ضد الإرهاب والمقاومةِ المشروعة، ويتحقق وفقاً للمواثيق التي قمت بالتوقيع عليها".
- نعم، إن خلاصة لعبة الروليت الروسية في إدلب هي أن أردوغان ربما سيلتقي بوتين في غضون ستة أشهر، وقد يشتري -إلى جانب صواريخ (S-400) بعضَ المعدات العسكرية الأخرى، وبهذه الفاتورة الباهظة تنتهي القصة بـ"مصالحة حلوة نسبياً".