لا يبتعد كثيراً الحيز الغرائبي في واقعية أميركا اللاتينية السحرية، عنه في سحر الواقع في القارة السوداء "أفريقيا"، سواء علي مستوى القيمة أوالأهمية. فعلى رغم اختلاف المقاربة الجمالية في كلٍ من القارتين؛ فإنهما يشتركان في زخم التجربة وفرديتها مقارنة بالتجربة الإبداعية على وجه العموم. ربما يرجع ذلك إلى تقارب المناخين، جغرافياً وسيسيولوجياً، وقد يكون هو السبب أيضاً في تقارب الأدب الروسي مع المصري تحديداً، على سبيل المثال، ونشوء علاقة زمنية ممتدة لعقود من التأثير المتبادل.
إلا أن ذلك يقودنا إلى منطقة أخرى، وهي احتكارية أسماء بعينها لبعض المدارس الكتابية أو الفنية، علي مستوى الوعي الجمعي لمجتمع الثقافة والأدب العربي، فتبرز أسماء تشيكوف وديستوفيسكي وتولستوي حين يذكر الأدب الروسي، وماركيز وجيله مع الواقعية السحرية، وينفرد الثنائي الأشهر كواباتا ومشيما كممثلين للأدب الياباني، ومن ثم أسماء مثل وولي سوينكا ونادين غورديمير وكويتزي، أو حتى توني موريسون– جميعهم حاصلون على نوبل في الأدب- عند ذكر الأدب الأفريقي. ونلمس هذه الإشكالية أيضاً على مستوى الرواية في الأدب العربي، فيسطع اسم نجيب محفوظ والطيب صالح، أو جبرا إبراهيم جبرا وإلياس خوري ومحمد شكري في مجال الرواية العربية، أو يوسف إدريس علي سبيل المثال في القصة المصرية... وما إلى ذلك.
وإذا كان ذلك الوضع علي مستوى عالمي–من خلال النقل من لغة إلى أخرى- فهو يمثل إشكالية كبيرة في نتاج المنقول إلى اللغة العربية أو المكتوب بها، على مستوى مصر والعالم العربي وإن اختلفت النسب بالطبع، في طريقة التعرف الأمثل على الثقافات الأخرى عبر الترجمة. حين نتبع "الأدب الأفريقي" على سبيل المثال، نجد أننا بصدد تفريعات أخرى في تقصي الموضوع: هل يعني الأدب الأفريقي الحديث ما تمَّ إنتاجه في العقود القليلة الماضية؟ وهل يقودنا ذلك إلى حتمية تصنيف "المُعاصِر" أيضا في عملية البحث؟
أفارقة و"مستفرقون"
أما على مستوى البحث عن تعريف لمصطلح الأدب الأفريقي، فهناك إشكالية جديدة منبعها الجغرافيا والسياسة، بحيث يقول الناقد علي شلش في كتابه "الأدب الإفريقي- سلسلة عالم المعرفة": "هناك إجماع عام بين جمهور "المستفرقين" على أن "الأدب الأفريقي" مصطلح يعني أدب المناطق التالية جنوباً للصحراء الكبرى حتى التقاء القارة بالمحيط في أقصى الجنوب. وقد نشأ هذا الإجماع من إجماع سابق على أن أفريقيا قارة تقسمها الصحراء الكبرى إلى قسمين مختلفين كل الاختلاف؛ قسم يقع شمالها؛ أفريقيا العربية الإسلامية، وآخر يقع جنوبها؛ أفريقيا جنوب الصحراء أو أفريقيا السوداء". ومع ذلك إذا صحَّ أن نأخذ بالقسمة الجغرافية السابقة كقسمة مجردة من الأغراض السياسية وغيرها، فلا يمكن الأخذ بها على صعيد الأدب، لأن انتشار الثقافة العربية والإسلامية جنوب الصحراء الكبرى، وتغلغلها في ثقافات الشعوب الزنجية هناك، قد شكلا مؤثراً مهماً من المؤثرات في الثقافة والأدب".على جانب آخر، يقول الروائي النيجيري تشينوا أشيبي؛ صاحب "الأشياء تتداعى": "لا يمكن أن نحصر الأدب الأفريقي في تعريف واحد، فأنا لا أنظر إلى الأدب الأفريقي بكونه وحدة واحدة؛ بل أراه مجموعة من الوحدات المرتبطة ببعضها، تعني في الحقيقة الصورة الكلية للعراقة الأفريقية".
وحتى لا تجرفنا تفريعات التأويل، كيف يمكن أن يحتل الأدب الأفريقي في قارة أفريقيا نفسها المكانة ذاتها التي يحتلها عالمياً، والتي ازدادت في السنوات الأخيرة، بازدياد الكثير من العناوين في لغات مختلفة؟ وإلى أي مدى تستشعر الأوساط والمؤسسات الثقافية حجم الهوة الكبيرة بين الانتشارين؛ الأفريقي والدولي أو العالمي؟ وهل هناك حلول إزاء ذلك؟ أظن أن الأمر يستدعي تكاتفاً ممنهجاً مِن المجتمع الثقافي –بمختلف تجلياته- على مستوى القارة السمراء جميعها.
مقاربة مصرية
اختارت إدارة معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته هذه السنة، عنواناً قد يكون موضوع الأدب الافريقي ضمن فروعه: "مصر أفريقيا... ثقافة التنوع". وهكذا زخر البرنامج الثقافي للمعرض بالكثير من الفعاليات التي كانت أفريقيا علي رأسها، المحاور الفكرية في القاعة الرئيسية وقاعة ضيف الشرف، المقهى الثقافي وملتقى الإبداع، قاعة المستقبل وقاعة الفنون التشكيلية، وخُصصت قاعة بعنوان "شباب أفريقيا"، بجانب المسرح والسينما والمعارض الفنية، فضلاً عن نشاطات قاعة ضيف الشرف- السنغال.
ولسنا بصدد تتبع أو إحصاء محتويات البرنامج الثقافي، ولكن بتأمل كمّ هذه التفريعات والمحاور المقامة علي مدار أسبوعين من العاشرة صباحاً وحتى الثامنة مساءً، حيث تجتمع حشود من جميع بلدان القارة تقريبا، بالإضافة إلى ضيوف أجانب، نكون أمام بيئة مؤقتة صالحة لطرح هموم القارة من مثقفيها وكتابها وتفعيل دور القوى الناعمة الاجتماعي والثقافي. ولن ننسى في ذلك أن مصر هي البلد التي لديها معهد للبحوث والدراسات الإفريقية وكلية للدراسات الإفريقية العليا، الأمر الذي يستقطب جنسيات مختلفة على مستوى العام لدراسة الشأن الإفريقي وفروعه. وبالتالي تمثل مثل هذه التجمعات قوة إضافية لزيادة إقبال الجمهور على تلك الفعاليات. إلا أننا في معظم فعاليات المحافل الدولية، تهون علينا حبَّة المِلح التي قد تظبط الطبخة بالفعل، ونضيع هذه البيئة المؤقتة في الفعاليات الكرنفالية إذا جاز التعبير.
"الدبلوماسية الثقافية الأفروعربية، الثقافة الأفريقية: الواقع والتساؤلات، الروافد الثقافية وحضارة التنوع، الأدب السنغالي بالفرنسية، وباللغة العامية، آداب إفريقيا وآداب العالم، حصاد الاتحاد الافريقي...، عشرات العناوين المنتقاة والمبرمجة من قبل متخصصين لكنها تبدو في النهاية عشوائية إلى حد كبير. فليست الإحاطة هي ما نبتغيه في إشكاليتنا الثقافية أو الاجتماعية حتى، بمعنى أن هذا التعدد العشوائي في الفروع لن يصل بنا إلى الإحاطة التي يطرحها البرنامج الثقافي، وكيف يصبح ذلك في النهاية مجرد كرنفالية سنوية لا يخلو منها أي محفل دولي عربي.أما عن التفاعل المباشر مع الجمهور، فقد تكفَّلت به الفرق الفنية للفنون الشعبية، وعروض دار الأوبرا، وفرق المحافظات، وبعض العروض المسرحية لفرق قصور الثقافة والبيت الفني. وكان من السهل تلمس مدى فعالية كل ما يجري على أرض الواقع، وملاحظة التكرار والروتينية في وضع محاور الندوات أو جدولة لمجموعة من الأسماء المؤثرة ثقافياً وفنياً؛ بحيث تغطي هذه الأسماء كافة الفروع الثقافية أو ما يتاح منها علي قدر الإمكان، حتى لا تمحو عشوائية البرنامج أهدافه المفترضة من الأساس.وفي ما يخص الإصدارات، فلم تتوافر إصدارات جديدة للأدب الإفريقي، وشارك المركز القومي للترجمة ببعض الطبعات القديمة لبعض الروايات والمجموعات القصصية المترجمة، وهيئة الكتاب بعدة عناوين في سلسلة الجوائز، كما اقتصر التمثيل الإفريقي بالمعرض على استضافة حفيدة الزعيم نيلسون مانديلا في لقاء مفتوح مع الجمهور.لذلك، نثمن بعض البرامج -وإن كانت قليلة جداً- التي استطاعت استغلال البيئة المؤقتة لبرنامج المعرض وتقديم تفاعل جمهوري مباشر، مثل برنامج "شباب أفريقيا" وبعض الاسكتشات التي كانت تقام على مدار اليوم من فرق المحافظات وزيهم الرسمي، بالإضافة إلى البرنامج السينمائي الذي يحسب له عرض الفيلم السوداني "ستموت في العشرين"، حيث تمثل حالة الفيلم صورة مهمة جداً في العلاقة بين الأدب والسينما، وهو مقتبس من قصة "النوم عند قدمي الجبل"، للكاتب السوداني حمور زيادة.
ميثولوجيا المرأة السمراء
قد تكون هناك مفارقة غريبة بين توقيت العرض الأول للفيلم السوداني "ستموت في العشرين"، للمخرج أمجد أبو العلاء، وعنوان الفيلم، تأتي من أنه أول فيلم روائي طويل للسودان بعد غياب عشرين عاماً. مرَّ الفيلم بمراحل من البدء في التصوير والتوقف حتى انتهي في أيلول (سبتمبر) 2018، عقب أحداث الثورة السودانية، متخطياً حالة الموت الطويلة التي أصابت الفيلم الروائي السوداني خلال العقدين الماضيين. في ذلك يقول المخرج والباحث السينمائي وجدي كامل في كتابه "السينما هرم الدولة المقلوب" (منشورات السودان) إن أهم المشكلات التي أعاقت إنتاج الأفلام الروائية الطويلة في السودان: غياب دور الدولة في التخطيط السينمائي، وعزوف القطاع الخاص عن الاستثمار في هذا المجال، وانهيار دُور العرض في التسعينيات، فضلاً عن الافتقار للأجهزة ومعدات التصوير الحديثة، وعدم وجود متخصصين في الكثير من المجالات الدقيقة للإنتاج السينمائي، إضافة إلى وجود رقابة رسمية متزمتة. هذا بجانب ضعف الإسهام وضعف المهارة الفنية والتقنية في المحاولات المعدودة التي جرت لإنتاج أفلام روائية سودانية طويلة والتي لم تعمل على تنظيف الأرض من شوك التجريب، فواجهت مصائر بائسة من الناحية التطبيقية الحرفية والفنية ونالت سمعة سلبية لدى المشاهد، ما جعل القطاع الخاص غير متحمس للدخول في مغامرات من تلك الشاكلة.
تذهب "سكينة" بابنها الرضيع "مزمل" لمباركته عند أحد أولياء الجبل، لكن تحدث حالة وفاة فجائية فيخبرها الشيخ أن هذا نذير بأن ولدها سيموت وهو في العشرين من عمره. تعيش الأم وابنها هذه العشرين عاماً في ترقب الموت، ما يجعل الطفل عازفاً عن الدنيا وملذاتها كلما مرَّت عليه السنوات في قريته، لا يتفاعل تقريبا إلا مع أمه، كما تفعل الأم تماماً، فينغلقان علي بعضهما في مواجهة غياب الأب، الذي يختفي فور إعلان نبوءة الموت ولا يعود إلا قبل اتمام العشرين بقليل في نهاية الفيلم.
يقدم الفيلم والنص القصصي ثنائية ثقافية تخص القارة السوداء ومناطقها الشرقية تحديداً، من خلال موتيفات الجبل، الموت، النبوءة، ثم إحالة شخصية مريم العذراء وتضفيرها مع الأم سكينة، واقتراب اسمها –السكينة- من مكانة العذراء إلى حد ما، وهو ما يتم تأكيده بتغييب الأب. استخدم المخرج مفردات البيئة الصحراوية استخداماً ملائماً، ملاحقاً عدسته بانسياب يلائم انسيابية الرمال المترامية على مدى البصر. وتتجلى الصورة الجمالية في الفيلم في شخصية الأم "سكينة" التي تمَّ تقديمها في جسد ريَّان وضخم يدل على قدرية الصراع الذي لا بد وأن يلاقيه ذلك الجسد في الدنيا، وهي بمثابة نموذج للأنثى الإفريقية في العموم، كما تتكرر فكرة غياب الرجل كمصدر أمان، إما في صورة الزوج أو الأب أو الابن أحياناً. حصد الفيلم عدة جوائز عالمية وعربية وتم تكريمه في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، كمهرجان فينسيا والجونة وأيام قرطاج، ولاقي استحسان النقاد، وكان الأهم بين ذلك، اجتذاب الجمهور.