بعدما تأخرت عمليات التنقيب والاستكشاف عقوداً من الزمن نتيجة تداخل العوامل الجيوسياسية في هذا الملف، بفعل النقاط الحدودية المشتركة مع إسرائيل، التي تُعرف بالمنطقة الاقتصادية المشتركة بين لبنان والأخيرة، هل تدخل البلاد قريباً نادي الدول المنتجة للنفط، وهل أُعطي الضوء الأخضر الأميركي لبدء هذه الخطوات؟
فمع إعلان وصول سفينة الحفر العاملة تحت شركة "توتال" الفرنسية إلى الشاطىء اللبناني، تكون بيروت قد سلكت أولى خطواتها الجدية والعملية على طريق استكشاف النفط والغاز الكامنين في الجوف اللبناني أو في المياه.
نزاع قديم مع إسرائيل
وشركة "توتال" التي ستهتمّ بأعمال الحفر، هي واحدة من مجموعة الشركات التي فازت في دورة التراخيص الأولى لاستلام هذا العمل، إلى جانب شركتَيْ "إيني" الإيطالية، التي ستتولّى تقديم الخبرات أيضاً، و"نوفاتيك" الروسية التي ستتولّى في مرحلة لاحقة التسويق والتوزيع.
وفي خريطة الشركات، يظهر الطابع الغربي الأوروبي – الروسي، في الشراكة مع لبنان في هذا الملف، فيما تغيب الشركات الأميركية، علماً أنه من المفيد التذكير أن المعوقات التي أخّرت إطلاق التنقيب، تعود إلى الخلاف الناشئ حول البلوك النفطي رقم 9 المشترك مع إسرائيل، الناتج من النزاع الحاصل على ترسيم الحدود، والذي دخلت واشنطن أخيراً في وساطة بين البلدين لمعالجته، من دون الوصول حتى اليوم إلى حلّه، في ظل إعلان الوسيط الأميركي ديفيد شينكر، أنه لا يزال ينتظر جواب بيروت، بينما قال الجانب اللبناني إنه هو نفسه من ينتظر الجواب الإسرائيلي عبر الوسيط الأميركي.
والمعلوم أن لبنان يخوض نزاعاً قديماً مع إسرائيل على هذه المنطقة من البحر المتوسط، البالغة حوالى 860 كلم مربعاً، وتُعرف بالمنطقة رقم 9 الغنية بالنفط والغاز، فيما أعلن في بيروت في يناير (كانون الثاني) إطلاق دورة التراخيص الأولى في البلوك البعيد من منطقة النزاع، والمعروف بالبلوك رقم 4، على أن يستكمل في مرحلة لاحقة إنجاز الترتيبات للبدء بالأعمال في البلوك موضع النزاع. لكن وزير الطاقة ريمون غجر رفض الكشف عن أي موعد في هذا الشأن، وقد يكون السبب عائداً إلى عدم اكتمال التفاهم مع الجانب الإسرائيلي على هذا الموضوع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا الوقت، وفي انتظار بلورة صورة ملف الترسيم، بدأت الحكومة اللبنانية أولى الإجراءات العملانية. وقد أعلنت شركة "توتال" أمس الثلاثاء 25 فبراير، أن "سفينة الحفر Tungsten Explorer وصلت إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة في لبنان، لبدء عمليات الحفر لأول بئر استكشافية في البلوك رقم 4، الواقع قبالة الشاطئ اللبناني على بعد حوالى 30 كيلومتراً من بيروت". وكشفت عن أن "حفر البئر الاستكشافية سيكون على عمق 1500 متر من سطح البحر، والهدف منه معرفة مكامن تقع على عمق يتخطى 2500 متر تحت قعر البحر. ويُقدّر أن تستمر أعمال الحفر لمدة شهرين وبعدها ستغادر السفينة لبنان".
وتجدر الإشارة إلى أنه في فبراير 2018، وقّع ائتلاف عالمي بقيادة شركة "توتال" الفرنسية بصفتها المشغل (40 في المئة) والشركة الإيطالية "إيني" (40 في المئة) والشركة الروسية "نوفاتيك" (20 في المئة)، مع الدولة اللبنانية اتفاقية التنقيب والإنتاج في البلوك رقم 4، في المياه الإقليمية اللبنانية. وتقع أول بئر استكشافية في الرقعة 4 على عمق 1500 متر تحت سطح البحر، بينما سيبلغ عمق البئر 4200 متر. ويقدر إجمالي حجم الاحتياطات البحرية اللبنانية من النفط بـ 865 مليون برميل، ومن الغاز بـ 96 تريليون قدم مكعب.
وفد "توتال" في بيروت
وكان وفد من الشركة الفرنسية زار القصر الجمهوري في بعبدا برئاسة رئيس الشركة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستيفان ميشال ونائب الرئيس الياس قسيس، بحضور وزير الطاقة ريمون غجر ورئيس هيئة قطاع البترول وليد نصر، والتقى رئيس الجمهورية ميشال عون، ثم رئيس الحكومة حسان دياب. وأعرب ميشال عن أمله في أن تسير الأعمال كما هي مقرّرة، بكل أمان وشفافية، متوقعاً انتهاء الأعمال، إذا سارت الأمور كما هو مقدّر لها، خلال شهرين، يجري بعدها إعلان النتائج.
أما وزير الطاقة ريمون غجر، فأوضح عن أن عملية الاستشكاف في البلوك رقم 4 ستحصل على بُعد 21 كيلومتراً من الساحل المُواجه لجبيل والبترون، وستحتاج إلى ما يقارِب 55 إلى 60 يوماً، وبعدها يتسلّم تحالف الشركات (توتال وإيني ونوفاتيك) البيانات التي تكشف عمّا إذا كانت هناك كميات تجارية من الغاز أو لا. لكن هذه النتائج ليست نهائية، إذ سيحتاج التحالف إلى حوالى شهرين إضافيين لإجراء الدراسات والتحاليل العلمية، لأن المسوحات الزلزالية تُعطي مؤشرات لكنها لا تقدم نتائج حتمية.
في هذا الإطار، يشرح نصر أن القاعدة اللوجستية وكل التراخيص القانونية اكتملت، وستكون هناك متابعة يومية وتقارير دورية تصدر عن الهيئة حول تقدم العمل، على أن تواكب فرق من الجيش اللبناني والأمن العام وإدارة الجمارك الأعمال اليومية.
ولم يستغرب نصر احتمال ألاّ يظهر وجود كميات تجارية من الغاز، لكنّ العمل سيُنجز، وسيبدأ بالتوازي التحضير للمرحلة الثانية، المتصلة بحفر آبار جديدة ولا سيما في البلوك رقم 9.
وسئل غجر عمّا إذا كان البدء بعمليات الحفر في البلوك رقم 9 في نهاية الصيف، علماً أن موقعه حساس نوعاً ما، فأجاب "حتى لم يُحدد لا التاريخ ولا الموقع. وفي الفترة المقبلة، ستعمل شركة توتال مع الهيئة على تحديد موقع البئر وتاريخ بدء الحفر فيها، لأن الباخرة التي تقوم بعمليات الحفر لديها برنامج عمل موزع على دول عدّة. وعليها أولاً أن تنجز عمليات تحديد موقع البئر ومن ثم حجز موعد لها كي تأتي مثلما جرى معنا الآن. فلا يمكننا أن نتصل بالشركة ونطلب منها أن تأتي الباخرة غداً. انطلاقاً من هنا واستناداً إلى برنامج عمل الباخرة، يمكنها أن تصل في آخر الصيف وليس في أوله".
ورداً على سؤال حول إمكانية وجود عقبات تحيط بعمليات الحفر في البلوك رقم 4، قال نصر "لقد قمنا بالتحضيرات اللازمة كافة، وشركة توتال أنجزت كل ما هو ضروري لبدء عمليات الحفر. قد نشهد أحياناً عقبات تقنية خلال العمليات، لكننا نأمل في أن لا نواجه صعوبات. وشركة توتال هي من الشركات التي تملك خبرة كبيرة في مجال حفر الآبار، وكل التحضيرات قد اكتملت. وفريق العمل يعرف تماماً ما عليه فعله. وكلنا أمل ألاّ تحصل تعقيدات".
هل هناك غاز؟
صحيح أنّ لبنان يعوّل كثيراً على بدء أعمال التنقيب اعتباراً من يوم غد، بحيث شكّل هذا الإعلان بصيص نور للبنانيين الذين يواجهون أسوأ أزمة اقتصادية مالية اجتماعية، ويعلّقون الآمال على أن يؤدي استخراج الغاز إلى تأمين موارد مالية تسدّ العجز وتغطي حاجات البلاد التمويلية، إلاّ أنّ التقديرات في شأن المخزون تبقى مشوبة بالغموض، في انتظار تبين ما يكتنزه الجوف اللبناني، خصوصاً أن الاحتمال العلمي للعثور على كميات تجارية لا يتجاوز الـ 25 في المئة. وهو ما تعكسه تجارب دول أخرى مثل قبرص التي حفرت حوالى تسع آبار، ولم تصل إلى نتائج إلاّ في ثلاث منها.
اكتفاء ذاتي
ويأمل لبنان الذي أصبح قادراً على وضع خريطة طريق لمسار هذا الملف، في أن يبدأ بالاستفادة من مخزونه اعتباراً من عام 2024، وإذا نجح في إطلاق عملية ضخ الغاز، فربّما يكون لديه اكتفاء ذاتي يغذي المعامل المرتقب إنشاؤها على الغاز، ويصبح في إمكانه أيضاً أن يصدّر إلى الخارج عبر أكثر من خط، منها تركيا وقبرص وأوروبا وعبر الخط العربي الذي يمرّ عبر سوريا. ويقول عضو هيئة إدارة البترول وسام شباط إنّ "لبنان لا يمكنه استخدام ثروته النفطية قبل خمس إلى سبع سنوات"، كاشفاً عن أن دورة التراخيص الثانية مرتقبة في أبريل (نيسان) المقبل، وقد بدأت شركات عالمية، ومنها شركات أميركية إبداء اهتمامها، ولكن التحدي يكمن في مَن سيستمر حتى النهاية ويسحب دفتر الشروط ويشارك.
عون: يوم تاريخي يشهده لبنان
وقبيل ساعات على بدء التنقيب، توجه الرئيس اللبناني ميشال عون بكلمة إلى اللبنانيين قائلاً، إن "ساعات قليلة تفصلنا عن الإطلاق الرسمي لأعمال حفر أول بئر نفطية في لبنان، من إحدى نقاط مياهنا الإقليمية، قبالة شواطئنا وأمام قمم جبالنا، التي ستكون شاهدة على أهمية هذا الحدث"، معتبراً أنه "يوم تاريخي سيشهده لبنان في الغد، سيذكره حاضر لبنان ومستقبله بأنه اليوم الذي دخل فيه وطننا رسمياً نادي الدول النفطية، ويسعدني أن يأتي هذا الحدث في السنة التي تشهد فيها الجمهورية اللبنانية المئوية الأولى لإنشاء دولة لبنان الكبير".
وتابع "اليوم، أكثر من أي يوم مضى، مصمّمون على تحمّل مسؤولية مواجهة سياسات اقتصادية خاطئة وتراكمات متلاحقة ومتعددة، ووضع حد لها بهدف وقف المسار الانحداري الذي أوصلنا منذ عقود إلى ما نحن عليه، وإرادتنا أن نواجه من أجل بقاء لبنان وديمومته. الحدث الذي سنحتفل به يوم غد، وإن كان يأتي وسط كل ظروف المعاناة التي نعيشها، إلا أنّه سيشكل حجر الأساس للصعود من الهاوية ومحطة جذرية لتحوّل اقتصادنا من اقتصاد ريعي نفعي إلى اقتصاد منتج يساهم فيه الجميع ويستفيد منه الجميع".