عندما كان جيفري بريستون يورجنسن في الثالثة من العمر، يُقال إنه فكّك أذرع سريره بِمِفك براغٍ، لأنه يريد أن ينام في سرير ملائم. وفي حين أن هذا أزعج بلا شك والديه، اللذين ربما أصيبا بالذهول، لكن فعلته تلك قد تكون أولَ دليل على أن الشاب الصغير "جيف" لم يكن مثل سائر الأطفال في مدينة ألباكيركي في ولاية نيومكسيكو.
تصف السير الذاتية للرجل البالغ من العمر الآن 55 سنة براعته الميكانيكية اللافتة للنظر في سن مبكرة جداً. بعد حادثة السرير، يقال إنه صنع جهاز إنذار كهربائي لإبقاء أشقائه الصغار خارج غرفة نومه، وفي وقت لاحق قام بتحويل مرآب والديه إلى مختبر لمشاريعه العلمية الغريبة.
تحوّل طموحه وإبداعه إلى تميز أكاديمي. التحق جيف بمدرسة ثانوية في ميامي، وتخرج وهو في صدارة صفه، ثم التحق بجامعة برينستون، حيث حصل على شهادة في علوم الكمبيوتر والهندسة الكهربائية، وهو مؤهّل سرعان ما ضمن له وظيفة في أحد البنوك الكبرى في وول ستريت.
وكان في الإمكان أن تنتهي القصة إلى هذا الحد. كان جيف خبيراً مالياً ماهراً وسرعان ما صعد سلم تراتبية الرأسمالية. ومع إلمامه بالكمبيوتر، كان في إمكانه ركوب موجة الطفرة التكنولوجية وربما كان لينجح في الحؤول دون الانهيار وتحقيق الأرباح وتأمين مستقبل فاخر لزوجته وأولاده. لكن هذا ما لم يُقيّض له. وحال الإنترنت دون ذلك أو عرقل الإنترنت مساره، إذا جاز التعبير، وأصبح اليوم واحداً من أغنى الناس على وجه المعمورة على الإطلاق. وقيمة إمبراطوريته، أمازون، في السوق تقارب تريليون دولار، وهي واحدة من أكبر الشركات التي وجدت في التاريخ، ولا يبدو أن السماء هي حدوده القصوى.
البداية
في عالم اليوم المهووس بالشركات الناشئة، فإن قصة أمازون هي بصيص أمل واعد. كان جيف بيزوس، الذي أخذ اسم زوج والدته المهاجر الكوبي عندما تزوجت أمه في العام 1968، يقود سيارته من نيويورك إلى سياتل في العام 1993 عندما بدأ يرسم الخطوط العريضة لمخطط عمل.
لم تكن شبكة الإنترنت، على رغم نموّها الضخم، تُستخدم لأغراض تجارية، وهذا ما يتقبله بيزوس. فقام بتحليل أبرز الأعمال التي تبيع سلعها بواسطة البريد في البلاد، وقام بتقييم تلك التي قد تكون قادرة على العمل بشكل أكثر كفاءة بمساعدة شبكة الإنترنت العالمية. استنتج بيزوس أن الكتب مثالية لهذا الغرض. هناك الكثير منها في العالم ويمكن إدراجها في سجل شامل، والإنترنت منصة مناسبة لعرضها من دون شك.
في السنة التالية استقال بيزوس من عمله في صندوق التحوّط "دي شو"، حيث ارتقى إلى منصب نائب الرئيس، وبدأ مشروعه. طُرحت العديد من الأسماء واستقر في نهاية المطاف على كادابرا المشتقة من أبراكادابرا. ويُقال إن محامي بيزوس، في وقت لاحق، رفض هذا الاسم بسبب تذكيره لسوء الحظ بكلمة cadaver، الجثة. ووُلدت شركة Amazon.com - وُقال إنها مستوحاة من نهر الأمازون ولأن الاسم يبدأ بالحرف الأول من الأبجدية. لكن ولعه باسمRelentless ، بلا هوادة، وكان من الأسماء المقترحة، دفعه لشراء هذا العنوان الإلكتروني كذلك. وإلى يومنا هذا، يؤدي عنوان www.relentless.com إلى منصة عملاق التجارة الإلكترونية أمازون.
حكايات نشأة أمازون متواضعة بشكل ساحر. ووفقاً لبعض الروايات، عقد بيزوس وزوجته ماكنزي (التي انفصل عنها أخيراً) وأول موظف في الشركة، شيل كافان، اجتماعاتهم الأولى في فرع محلي لمكتبة "بارنز ونوبل". وهناك مفارقة مأساوية في حقيقة أنه بعد ذلك بسنوات، صار أمازون مصدر تهديد رئيس لهذه المكتبة الراسخة التي بدأت بيع الكتب لأول مرة في العام 1873.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أعلنت شركة "أمازون" طرح أسهمها في البورصة في العام 1997، وجمعت 54 مليون دولار بوساطة بيع حوالي ثلاثة ملايين سهم، ما منح الشركة قيمة سوقية بلغت حوالي 438 مليون دولار. وتأكيداً على إقبال المستثمرين الكبير على التكنولوجيا، ارتفعت قيمة الأسهم في الشركة بنسبة 30 في المئة في أول يوم تداول لها، ما وضع الشركة على سكة النمو المطّرد. وفي العام 1998، بدأت شركة أمازون ببيع أقراص موسيقى وفيديو، وتوسعت على نطاق عالمي من خلال الاستحواذ على متاجر الكتب في المملكة المتحدة وألمانيا. ولا يزال هذان البلدان أضخم زبائن أمازون في الأسواق الدولية، ويتقدمان على اليابان. لم يمضِ وقت طويل بعد ذلك، حتى انتقلت أمازون إلى بيع ألعاب الفيديو ولعب الأطفال والإلكترونيات الاستهلاكية والبرامج وغيرها من المنتوجات المتنوعة. وكانت إحدى المراحل المهمة على وجه الخصوص بالنسبة إلى الشركة، إطلاق موقع خدمات أمازون الإلكتروني Amazon Web Services في العام 2002، والموقع هذا مزود منصات حوسبة سحابية cloud))، والتي يسع الشركات والأفراد استخدامها مقابل تسديد اشتراك. وبلغت إيرادات الخدمة الجديدة وحدها أكثر من 17 مليار دولار في العام 2017.
اليوم، تتمدد مجموعة منتجات وخدمات أمازون. فأمازون برايم وأمازون فريش تعملان على تلبية احتياجات الجيل الحالي من المتسوقين الذين يرغبون في تلبية طلبهم فوراً بنقرة زر. ومع أجهزة كندل فاير اللوحية إضافة إلى "أوديبل" و"غودريدز"، استفادت أمازون من إقبال جديد على استهلاك وسائط المعلومات والترفيه. وتعد "أليكسا" و "إيكو" جواب بيزوس على بروز إنترنت الأشياء: المنازل الذكية والعيش الذكي. الشركة لديها أيضاً قسم الروبوتات الكبيرة وتمتلك قاعدة بيانات الأفلام الدولية IMDb. كما تتضمن محفظتها مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام الأخرى أيضاً، بما في ذلك منصة ComiXology وCreateSpace وهي خدمة نشر ذاتي، ومنصة البث المباشر Twitch.
في سبتمبر (أيلول) 2018، التحقت أمازون بشركة آبل لتصبح ثاني شركة تحقق قيمة سوقية تزيد عن تريليون دولار، ما يجعل من بيزوس، الذي كان حينها يملك أكثر من 15 في المئة من الشركة، أغنى شخصية في العالم. ويقدر صافي ثروته الحالية بنحو 132 مليار دولار، متقدماً على بيل غيتس الذي تقدر ثروته بـ 96 مليار دولار، ووارن بافيت الذي يمتك ما يزيد بقليل عن 83 مليار دولار.
الانترنت وما بعده
بالنسبة إلى العديد من الشركات التي تتنافس في عالم متصل بشكل متزايد، قدمت الإنترنت بُعداً جديداً للنمو في وقت شحّت الفرص في العالم الحقيقي. لكن بالنسبة إلى الأمازون، كان العكس صحيحاً.
في العام 2015، افتتح رائد التجارة الإلكترونية متجره الأول لبيع الكتب في سياتل، لكن أكبر رهان له على مستقبل تجارة التجزئة كان في العام 2017 عندما استحوذ على شركة البقالة " هول فودز" مقابل 13.7 مليار دولار، فآلت إليه ملكية أكثر من 450 متجراً في الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة. وفي العام الماضي، فتحت شركة "أمازون غو" أبواب أول متجر لها في سياتل، واليوم له فروع في شيكاغو وسان فرانسيسكو.
وارتبك بعض المحللين أمام لجوء أمازون الأخير إلى متاجر فعلية غير رقمية، لكن ناتالي بيرغ، التي شاركت في تأليف كتاب حديث عن الشركة، تعتبر هذه الخطوة عقلانية. وهي تقول إن أمازون تحب قطع مسار الأمور. ولا يخفى الشركة هذه أن التجربة التي تعرض على المستهلكين حالياً في العديد من المتاجر الواقعية متقادمة وغير فعالة. مثلما فعلت مع الإنترنت، تريد أمازون تحريك عجلة الأمور.
كما تشرح بيرغ أنه في وقت يتدفّق المتسوّقون - بخاصة الشباب - على الإنترنت لأن استخدامها يسير، فإن قلة قليلة من الناس يقومون بجميع عمليات الشراء عبر الإنترنت. ونظريتها مفادها أن مستقبل تجارة التجزئة سيكون مزيجاً من الافتراضي على الإنترنت والواقعي على الأرض، ومن خلال التنويع، يهدف أمازون إلى البيع والشراء في العالمَيْن الافتراضي والواقعي. ولكن بعض فئات السلع، مثل سلع الموضة، يُرجّح ألا تُسلَم حصرياً إلى جمهور الإنترنت.
وقالت بيرغ لمجلة فوربس أخيراً إن "الجودة مسألة شخصية ولا يمكن تحديدها على الشاشة". ولا تستبعد بيرغ أن تكون خطوة أمازون التالية فتح متاجر ألبسة، على الرغم من أنها لم تفتتح أياً منها بَعد. هو المقبل في مخططاتها.
لمسة بيزوس
بالتالي كيف تمكّن بيزوس، الذي يملك أيضاً صحيفة واشنطن بوست، من إنجاز كل ذلك؟ وكيف استطاع جيف المبكر النضوج المتحدّر من ألباكيركي تطوير واحدة من أكبر الشركات في العالم التي تتناول كل أوجه مصالح المستهلكين؟ كيف تمكّن من توجيه دفة أبرز شركة تعمل على شبكة الإنترنت خلال مرحلة الانهيار الكارثي لمشاريع الإنترنت؟ وكيف، على عكس العديد من نظرائه من رجال الأعمال، نجح في التحوّل من مؤسس يتمتع بالرؤية وإقبال كبير على المخاطرة على ما يبدو، إلى قائد إمبراطورية عالمية متعددة الجنسيات عدد موظفيها يفوق نظيره في كثير من المدن؟ قد تكون الإجابة في قدرته الجيدة على معرفة متى ينفق ومتى يوفر، متى يضع حياته على المحك ومتى يطأطئ رأسه، متى يتراجع ومتى يرفع الصوت.
على الرغم من أن مبيعات أمازون ارتفعت من 15.7 مليون دولار في العام 1996 إلى 147.8 مليون دولار في العام 1997، إلا أن الشركة كانت على وشك أن تنحرف عن مسارها بسبب معدلات إنفاقها. وفي العام 1999، بلغت عائدات الشركة 1.6 مليار دولار، لكنها تكبدت خسارة قدرها 719 مليون دولار. وتظهر السجلات المالية أن الشركة كانت على وشك أن تسوّى بالأرض عندما بدأت الفقاعة التكنولوجية بالانفجار، وفي وقت من الأوقات في العام 2000، لم يبقَ هناك سوى 350 مليون دولار من السيولة في خزائنها.
اقترض بيزوس وفريقه ملياري دولار من البنوك لتعويم الشركة، وهي خطوة مؤلمة وشجاعة في زمن يشهد ضغوطًا مالية عالمية، ولكنه في الوقت ذاته كان قراراً ذكياً. كما أن بيزوس رضخ لواقع الأمور وأقرّ بالحاجة إلى الادخار على المدى الطويل: أغلق عدداً من مراكز التوزيع الكبرى وسرّح من العمل واحداً من كل سبعة من موظفيه في العالم. وفي العام 2003، وبينما كان عدد كبير من المنافسين في مجال التجارة الإلكترونية يتعافى من الانهيار، تنفس الأمازون الصعداء بحذر عندما حقق أول ربح له على الإطلاق.
وإلى يومنا هذا، يعد ترشيد الإنفاق أبرز قيم أمازون. ففي العام 1995، عندما كان بيزوس يؤثث مكتبه الأول لاستيعاب حفنة من الموظفين الأوائل، لاحظ أنه في متجر "هوم ديبوت" على الجانب الآخر من الشارع كانت الأبواب تباع بسعر أرخص بكثير من المكاتب. ويروي
الموظف رقم 5، نيكو لوفجوي، أن بيزوس اشترى ببساطة بابًا وركب له أرجل. إن قطعة الأثاث تلك، التي قام بتجميعها ذاتياً هي الآن واحدة من أكثر الرموز الثقافية في أمازون، ووفقًا لمدونة داخلية، لا يزال آلاف الموظفين حول العالم يعملون على نسخة محدثة لما يسمى اليوم بـ "الباب-المكتب". وفي السنوات الأخيرة، أطلقت أمازون جائزة "الباب-المكتب"، وهي جائزة داخلية، للتعرف على الأفكار التي تساعد على تقديم أسعار منخفضة للعملاء. يقول لوفجوي أنه يرى أن الباب-المكتب يمثل "براعة وإبداعاً وخصوصية ورغبة في السير في طريقك الخاص" - كل الصفات التي لا شك في أن بيزوس يتحلّى بها كثيراً.
حدود جديدة
ومع دخول أمازون في عامها الخامس والعشرين، يُظهر بيزوس مرة أخرى قدرته على تحقيق التوازن بين المخاطرة والطموح وبين الإبداع والتعقل. فخلال السنوات القليلة الماضية، درج على بيع شطر من أسهمه الشخصية التي يملكها في أمازون لجمع أموال لتمويل مشاريع جديدة.
في حفل عشاء أقيم في نيويورك في مارس (آذار) من العام الماضي، قال الرئيس التنفيذي في خطاب له أن "تكلفة ولوج عالم الفضاء مرتفعة للغاية،" ثم تابع: "أنا بصدد تحويل أرباحي في أمازون للمساهمة في خفض هذه التكلفة ليتسنى لنا الذهاب واستكشاف النظام الشمسي". ولم يكن بيزوس يبالغ.
عندما كان في المدرسة الثانوية، أعرب بالفعل عن رغبته في إنشاء مستعمرات للبشر في المدار. وفي العام 2000 أسس شركة طيران فضاء أطلق عليها اسم بلو أوريجن Blue Origin. في البداية نأت الشركة عن الأضواء، ولكن في العام 2006، اشترت مساحة كبيرة من الأراضي في تكساس كمنشأة تجارب. وخبت جاذبية الشركة هذه إلى حد ما في سبتمبر (أيلول)2011 عندما تحطمت إحدى المركبات المسيرة التابعة لشركة بلو أوريجن خلال رحلة تجريبية. لكن الشركة حازت إشادة عالمية بسبب تطويرها نماذج أولية بهذه المواصفات.
بعد سنوات عدة، في نوفمبر العام 2015، أطلقت شركة بلو أوريجن بنجاح مركبة فضائية سميت "نيو شبرد" (الراعي الجديد) في المدار وأعادتها إلى الأرض. أخذ الركاب الوهميون أول رحلة لهم في نيو شبرد في ديسمبر (كانون الثاني) 2017 واستمر التطوير منذ ذلك الحين. تحدث بيزوس صراحة وفي مناسبات عديدة عن طموحاته لاستعمار النظام الشمسي، معتبراً أن هدفه النهائي هو الحفاظ على الموارد الطبيعية للأرض من خلال تمكين الجنس البشري من الوجود على عدد من الكواكب.
علاوة على ذلك، يُظهر بيزوس كذلك قدرة كبيرة على التنقل بين السياسة والأعمال في وقت واحد، وهي صفة أخرى تميّزه كرائد أعمال حقيقي في العصر الحديث.
في أوائل فبراير (شباط)، وفي خطوة تبدو غريبة إذا ما أقدم عليها أي مسؤول تنفيذي كبير، نشر بيزوس تدوينة اتهم فيها ناشر صحيفة "ناشونال إنكوايرر" بالابتزاز. وقال بيزوس إن الصحيفة هدّدته بالكشف عن صور فوتوغرافية له ما لم يؤكد علناً أن تقارير الصحيفة عنه لم تكن بدافع سياسي.
بعد وقت وجيز على إعلان بيزوس طلاقه من زوجته ماكينزي، نشرت مجلة ناشونال إنكوايرر "رسائل نصية حميمة" تكشف عن علاقة الملياردير بمذيعة تلفزيونية سابقة تدعى لورين سانشيز.
ومع نشر تدوينته، انتقد بيزوس "ذي ناشونال إنكوايرر" ومالك شركتها الأم، وهو حليف مقرب لدونالد ترمب، وأعلن أنه لن يتنازل ويدخل في ألعاب السياسة. وأوضح أنه يسمو على ذلك، وسرعان ما أصبح الرجل الطيب في القصص السلبية والمؤسفة لصور السلفي والفضائح.
الرسالة الآن واضحة. على الرغم من أن بيزوس مجرد إنسان، إلا أنه لا ينبغي العبث معه. فهو استولى على الإنترنت. ومهمته التالية هي الفضاء، ومن المستبعد أن تفوز إذا حاولت أن تواجهه. إمبراطوريته الحالية قد يكون اسمها أمازون، لكن تذكر اسم نطاق الإنترنت الذي اشتراه، ومعناه بلا هوادة. وهو لا يزال يملك اسم نطاق الإنترنت هذا، فقط لأنه يحب ذلك. فكل اسم هو نذير، كما يقال.
© The Independent