Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الدواء السوري يختفي من الصيدليات ويظهر في السوق السوداء

من مصدر لـ56 دولة إلى شح يهدد حياة المرضى بسبب الحصار والعقوبات الدولية وغلاء الأسعار

رفعت الحكومة السورية نهاية 2023 سعر الدواء حتى 100 في المئة وكانت هذه الزيادة الثالثة خلال عام واحد (اندبندنت عربية)

ملخص

العقوبات الدولية المفروضة على سوريا أسهمت في انقلاب الحال الدوائية داخل البلاد، لا سيما مع سحب الشركات الأجنبية لأكثر من 58 امتياز إنتاج دوائياً من معامل دوائية سورية

منذ أيام، يبحث الشاب أحمد عمّار (29 سنة) المقيم في دمشق، عن دواء أساسي في رحلة علاجه النفسي للتعافي من مرض ألمّ به وشُخص له قبل سبعة أعوام، وهو ما يعرف بـ"الاضطراب ثنائي القطب" الذي يعتبر من أخطر الأمراض النفسية – العقلية لما ينطوي عليه من أخطار صحية جمة، تحول حياة صاحبه إلى جحيم مطلق، عادة ما ينهيها بالانتحار لو لم تتم معالجته بعناية وحرص على يد طبيب نفسي متمرس يدرك متى يجب أن تزاد جرعات الدواء ومتى يجب أن تبدل.

وعلى رغم حملات الحكومة التوعوية، لا يزال الطب النفسي في سوريا يعتبر رفاهية أحياناً وعاراً في المجتمع أحياناً أخرى، علماً أن مئات الندوات والفعاليات الطبية والتعريفية لا تجد فرص شرح أخطار المرض النفسي على الإنسان وحياته وإنتاجه وسلوكه وطباعه ويومياته وآلامه، وتنقله بحسب مرضه من منتهى جنون الثقة بالنفس إلى أقصى درجات احتقار الذات والبكاء القهري سرّاً أو جهاراً.

علاج مركب ومفقود

ولسوء حظ أحمد، فإن مسار علاجه مكون من جملة أصناف دوائية تداخلها لا يؤمن له علاجاً مستداماً في مرضه المزمن بقدر ما يؤمن استقراراً عقلياً شبه طبيعي، وتلك الأدوية غالباً ما تجمع بين مركبات الليثيوم وفالبروات الصوديوم وكيوتيابين وكلونازيبام وزولام وريسبيريدين وفلوزاك ولاميكتال... إلخ، وغالباً لا تستخدم جميعها معاً، بل يجري التدوير بينها ودمج بعضها بحسب شدة الحالة ودرجة تطورها ومعاندتها للعلاج وتفاوت نوباتها بين الفرح المرضي أو الكآبة القاتلة.

أحمد كما الآلاف ممن يعانون الاضطراب نفسه هم في رحلة بحث مستمرة عن معظم تلك الأصناف، فأحمد يبحث بلا كلل عن دواء "كلونازيبام" الضروري والأساسي لعلاجه، فالدواء ليس باهظ الثمن وينتج بوفرة في الداخل السوري عادة، ولكن انقطاعه المفاجئ خلق انتكاسة كبرى في علاجه، وهو الذي أسهم لعامين متتاليين في استقرار حاله النفسية. وبحسب أطباء، ذلك الدواء مسؤول بصورة مباشرة عن ضبط نوبات الغضب ويستخدم كمهدئ، إذ ينتمي لفئة المهدئات الشديدة التي تسيطر على الصرع ونوبات الهلع والقلق والخوف.

البحث مع أحمد

بحث أحمد في أكثر من 15 صيدلية عن الدواء ولم يعثر في إحداها على مراده، ولا حتى على بديل له باسم آخر ومن شركة أخرى، ولا حتى تركيبة مماثلة له، مما وضعه في مأزق دفعه إلى التواصل مع طبيبه الذي أكد له أن الدواء فعلاً مقطوع وأن إمكان البحث عن بديل ممكن ولكنه أكد أنه لا يضمن أن يحقق الدواء البديل النتيجة السابقة من الاستقرار الذهني، وهذا بحدّ ذاته مغامرة بعلاج استغرق أعواماً طويلة.

وبناء على رواية أحمد، قررت "اندبندنت عربية" البحث عن الدواء في الصيدليات العادية والمركزية والنقابية وعلى الإنترنت وفي كل مكان متاح، ولكن من دون جدوى.

ودفع ذلك المرضى إلى التساؤل عن أسباب فقدان هذا الدواء، فاحتكاره لن يكون عامل إثراء بأي صورة لتدني سعره، إذ تباع العبوة وفيها 20 حبة على شكل ظرفين بثلث دولار.

وبعد البحث والسؤال في أكثر من 65 صيدلية في دمشق، كان جواب الصيادلة واحداً "الدواء مقطوع منذ أسابيع والمعامل لم تعُد تزودنا به أو تنتجه أقله في الوقت الحالي، وليس هناك بديل له أو آخر بالتركيبة نفسها".

إلى خارج العاصمة

لم تقتصر عملية البحث على دمشق وإنما شملت أيضاً محافظات حمص وحماه وطرطوس ليتبين أن الدواء مفقود في عموم سوريا.

المشترك في صيدليات سوريا أنها مضطرة إلى بيع الدواء النفسي أو العصبي بموجب وصفة طبية تصرف لمرة واحدة فقط، وعلى رغم أن القانون صارم في تطبيق هذه الخطوة، ولكن بعض الصيادلة يتغاضون عنها بالمطلق، فيكفي أن تطلب الدواء الذي تريده وإن كان متوافراً يمكن أخذه من دون وصفة.

البحث في السراديب

وبعد كل ذلك، بدا أن طريقة الحصول على الدواء المقطوع لن تكون متاحة إلا بوسيلتين تحاكيان بعضهما بصورة أو بأخرى، الأولى السوق السوداء حيث طلب وسيط ثمن العبوة عيار 1mg  14 دولاراً أميركياً، مع عرض توفيري بشراء عبوتين بـ 25 دولاراً.

أما الطريقة الأخرى، فهي الحصول عليه من لبنان حيث يباع في الصيدليات بسعر 5.5 دولار أميركي، وليصل إلى سوريا يصبح سعر العبوة 20 دولاراً، ويحتاج المريض بصورة تقريبية إلى ثلاث عبوات شهرياً، أي 60 دولاراً مما يعني 840 ألف ليرة سورية، أي ثلاثة أضعاف مرتب الموظف الحكومي شهرياً.

لا ينسحب انقطاع الأدوية على الحالات المستعصية فقط، بل يتعداها وتعداها سابقاً ليطاول مسكنات بسيطة وأدوية الرشح والزكام والقلب والضغط والجهاز الهضمي والتنفسي وسواها من الأدوية التي لا يمكن سماع سوري لم يضطر في لحظة إلى شرائها من الخارج، عدا عن عدم فاعلية كثير من المركبات الدوائية السورية المصنعة محلياً، بحسب اختصاصيين في المجال.

البحث عن الإبرة

وخلال البحث عن عشرات الأصناف الدوائية المفقودة من السوق السورية، وعن الحال الذي جعلت سوريا تتحول من بلد منتج كان قبل عقد يصدر إنتاجه لأكثر من 56 دولة، إلى بلد يبحث مواطنوه عن حبة مسكن وعن أدنى حقوقهم في التشافي والتعافي، وهم يسألون عن أسباب عدم تكفل دول حليفة بتزويدهم بأدوية ومستلزمات طبية واستشفائية.

بحثنا مطولاً في وثائق الوزارة وعلى ألسنة مسؤوليها وفي متاهات العقوبات الغربية وقانون "قيصر"، ولمسنا تراشق المسؤوليات بين المسؤولين المعنيين ومعامل الأدوية والمصدرين.

الاكتفاء الذاتي

"الصناعة الدوائية ليست بخير"...، جملة كثر سماعها في الأوساط الطبية والصيدلانية، ويعود ذلك لمروحة من الأسباب وجلها يصب في خانة الحرب التي قضت بصورة كبيرة على عمليتي الاستيراد والتصدير وتركت المنتج الوطني وحيداً يصارع في سوق قوامها شعب يعاني الإصابات والحاجات والأوبئة والأمراض.

فالإنتاج الدوائي الذي كان حقق نمواً تجارياً وصناعياً، لم يعُد قادراً على مجاراة الحاجات المتنامية لأسباب اقتصادية مرهقة وشروط قاسية كبدته خسائر كبيرة تتعلق أولاً وقبل كل شيء بالارتفاع الكبير في أسعار حوامل الطاقة، بحسب فائض عباس وهو صاحب معمل أدوية سابق أغلقه حين خسره نتيجة الحرب التي دمرته بالكامل، وأعرب عن رغبته في الهجرة إلى مصر والعمل هناك.

أوراق بحثية عدة مرتبطة بوزارة الصحة ذكرت أن الإنتاج الدوائي السوري وعلى رغم الحرب، ظلّ جيداً نسبياً حتى نهايات عام 2014 قبل امتداد المعارك نحو بقع جغرافية جديدة، أبرزها أرياف حلب التي ارتكزت فيها قبل تدميرها مجموعة من أبرز معامل الأدوية على المستوى السوري، إلى جانب معامل أرياف حمص ودير الزور ودمشق ومعظم المحافظات باستثناء الساحل بصورة نسبية الذي لم تلحق بمعامله أزمات عسكرية وإنما أزمات اقتصادية.

وحتى تلك الفترة التي شهدت دماراً جماعياً للمعامل الدوائية، كانت سوريا حققت استقراراً حتى عام 2011 عشية اندلاع الحرب، في إنتاج ما بين 90 إلى 92 في المئة من حاجاتها الدوائية، مكتفية باستيراد ثمانية في المئة من الأدوية.

ووفق معلومات، فإن المعامل المتبقية في سوريا والمستحدثة خلال الحرب وعددها 87 معملاً، رفعت طاقتها الإنتاجية إلى الحدود القصوى بناء على طلب الوزارة، 40 في المئة منها تأتي من معامل حلب و60 في المئة من معامل مستجدة في حمص ودمشق.

أسئلة ملحة

وبحسب وزير الصحة السوري حسن الغباش في تصريحات سابقة، فإن 65 في المئة من الأدوية المزمنة متوافرة في سوريا بينما 35 في المئة مقطوعة ويجري العمل على تأمينها والبحث عن بدائل، مبيناً أن من واجب الوزارة تأمين الأدوية وضبط أسعارها ودفع عجلة إنتاجها وتذليل عقباتها.

والاستحصال على تصاريح رسمية من وزارة الصحة أو أي وزارة أو مؤسسة أخرى في سوريا، يمرّ بجملة إجراءات تبدأ بتقديم طلب خطي لوزارة الإعلام التي تبتّ إذا الأمر ضروري أو لا، وكذلك تحيل المكاتب الصحافية في الوزارات طلبات التصريح إلى موافقة وزارة الإعلام.

لماذا ليس هناك دواء؟

أوضح مصدر مطلع على الملف الدوائي في وزارة الصحة في حديث إلى "اندبندنت عربية" أنهم وخلال لقاءات عدة في الوزارة مع وزير الصحة والمديرين المعنيين تبين أن المشكلة المرتبطة بانقطاع الدواء ليست حكراً على محافظة بعينها بل هي مشكلة عامة ولها أسبابها.

وعن تلك الأسباب يقول إن "المشكلة الأساس هي في توافر سلاسل التوريد الرئيسة التي تنقطع باستمرار بسبب إحجام الموردين في أحيان كثيرة، إلى جانب فشل المفاوضات في إتمام مناقصات دوائية أخرى تقوم بدور مكمل، فضلاً عن إحجام التوريد لمعامل الدواء، مما يؤدي إلى انقطاع الدواء عن المستخدم عبر الصيادلة مروراً بالمعامل".

المصدر بيّن أن "المعامل تتكبد خسائر فادحة خلال إنتاج بعض الأصناف الدوائية على رغم الارتفاعات المتتالية التي نظمتها وزارة الصحة للوصول إلى أعلى نسبة ربحية ممكنة، إلا أن ذلك كله وإن خفف الخسارة، لكنه لم يعطلها بصورة جذرية، فما زال استيراد المواد الأولية إلى سوريا مكلفاً للغاية".

أسباب إضافية

علاوة على ذلك، يقوم تفاوت سعر الصرف وتهاوي قيمة العملة المحلية أمام الدولار بدور حاسم آخر في هذا الملف، فالمعامل التي تستورد بالقطع الأجنبية تبيع وفق تسعيرة البنك المركزي (أقل من السوق السوداء)، مما يرتب خسارة إضافية حين معاودة الاستيراد مجدداً وفق أسعار عادت لترتفع.

مصدر الوزارة الذي فضل عدم الكشف عن اسمه لأسباب تتعلق بضرورة الحصول على موافقة مسبقة للتصريح، شرح أن "بعض معامل الدواء تتظافر مع بعضها للضغط على الحكومة بغية تأمين رفع مستمر في أسعار الدواء، وعادة تستجيب الحكومة، وحدث ذلك مراراً خلال الأشهر الماضية، وما يفاقم المشكلة هو منع الأطباء من وصف أدوية أجنبية ومنع الصيدليات من حيازة تلك الأدوية تحت خطر مداهمة قوات الجمارك ودوريات نقابات الصيادلة، مما يهدد الصيدلي بعقوبات لا تحمد عقباها، وهكذا لم يعُد الدواء الأجنبي ولا الوطني متوافرين في الصيدليات".

بدورها مستودعات الأدوية لم تكن بعيدة من المشهد، إذ لحقها ضرر فادح هدد وجودها ودفع أصحاب كثير منها إلى الإحجام عن الاستمرار بتلك التجارة، فالمعامل وبهدف تسويق بضائعها، باتت تجبر صاحب المستودع على شراء مواد إضافية مع كل شحنة دواء، وتلك المواد تسويقها صعب وليست مطلوبة بوفرة في السوق الطبية، كالأكسسوار مثلاً وفراشي الأسنان وأغراض كثيرة تجعل مبيعها بالكاد يقارب الربح.

كذلك أجبرت وزارة المالية تلك المستودعات على اتباع نظام "الفواتير المالية"، كما يقول ناصر عيرا العامل في مستودع دوائي، معتبراً ذلك الإجراء "مكبلاً" لأنهم يشترون الدواء من المعامل بتسعيرة أعلى مما هي عليه في جداول وزارة الصحة، ثم عليهم التزام بيعها وفق تسعيرة الوزارة.

"قيصر" لا يحاصر الدواء

المصدر الوزاري أوضح أن العقوبات الدولية المفروضة على سوريا من معظم دول العالم أسهمت بدورها على نحو جذري في انقلاب الحال الدوائية داخل البلاد، لا سيما مع سحب الشركات الأجنبية لأكثر من 58 امتياز إنتاج دوائياً من معامل دوائية سورية.

"اندبندنت عربية" سألت المصدر في الوزارة عن أسباب التوجه المستمر لربط معظم المشكلات القائمة في مختلف القطاعات بالعقوبات الغربية، خصوصاً أنه بعد بحث مستفيض في قانون "قيصر" الأشد وطأة على الواقع السوري تبين أنه لا يشمل حظراً على الدواء أو المواد الغذائية، فأجاب أن المشكلة هي في خوف الشركات الأجنبية نفسها التي تتردد أو ترفض توريد المواد الأولية الدوائية إلى سوريا خشية تبعات قانونية صارمة، فيصير لزاماً على تلك الشركات أن تقدم طلباً مسبقاً إلى وزارة الخزانة الأميركية لتثبت أنها ستورد مواد غير ممنوعة أو مستثناة من العقوبات.

ويختم المصدر حديثه بأن مسألة التوريدات أمر شائك للغاية لثنائية استخدام بعض المواد الأولية في غير غايتها كما يرى الغرب، لتبقى إيران والهند والصين أبرز الموردين الدوائيين وتظهر مشكلة القطع الأجنبي وفروق سعر الصرف وتمويل المستوردات.

وفي أغسطس (آب) 2023، قال رئيس النظام السوري بشار الأسد في حوار تلفزيوني إن "قانون قيصر هو عقبة، لكننا تمكنا من تجاوزه بطرق عدة، العقبة الكبرى هي تدمير البنية التحتية من قبل الإرهابيين".

الصيدليات تفلس

مع الشح الدوائي الحاصل في عموم البلاد، قال صيادلة عدة لـ"اندبندنت عربية" إن وزارة الصحة باتت توزع عليهم الدواء على شكل حصص أسبوعية، عبوة أو عبوتان أو خمس، بحسب الصنف والطلب وتوافره من الأساس، مما جعل بقية أصناف الأدوية تبدو أقرب لأن تكسد أو تنتهي صلاحيتها الزمنية في وقت قريب مع انخفاض الطلب عليها.

مالك إحدى الصيدليات في مدينة دمشق بديع صالي يعرب عن استيائه لتدني قيمة مبيعاته قياساً بأي وقت سابق خلال الحرب السورية، بسبب كمّ الأصناف التي باتت مفقودة لديه والتي بالضرورة شكلت عجزاً في حساب المبيعات لديه.

ويقول صالي إن "عشرات الصيدليات بدأت تغلق أبوابها، وعلى رغم أن ارتفاعات كبيرة طرأت خلال الأشهر الماضية على سعر الأدوية، ولكن ذلك لم يكن لمصلحتنا بالمطلق، فربما يكون خدم أصحاب المعامل والمستودعات، ولكن أجور صيدلياتنا مع تدني مبيعاتنا سبب لاستبعاد هذه المهنة، ومع الوقت بالكاد ستؤمن مصاريفها بعدما كانت بوابة ربح وفير".

معاناة جماعية

وتشتكي الصيدلانية مها نقروس بدورها من كثرة تقديم أعذار إلى الزبائن من انقطاع أصناف الدواء التي يبحثون عنها، مؤكدة أنها لا تتمكن أن تشرح لكل مريض لماذا الدواء مقطوع ولماذا الوزارة تعطيهم حصصاً دوائية "بالتقطير". وتعتقد بأن استمرار الوضع على ما هو عليه سيدفعها إلى إغلاق صيدليتها قريباً، والتفكير الجدّي بالسفر بغية الحصول على فرصة عمل في الخارج.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الصيدلاني ماجد العز الذي أكد أنه خلال الأيام الثلاثة الأخيرة لم يدخل مريض واحد إلى صيدليته، مكتفياً طوال الوقت بالجرد والحساب وإعادة ترتيب رفوف الأدوية غير المطلوبة.

ويقول ماجد في معرض حديثه "لست أدري من يجب أن نسأل عن هذه الكارثة الكبرى التي نعانيها، ولكني أعلم أن استمرار الوضع على ما هو عليه سيدفعنا إلى التعامل بالأدوية المهربة، وتلك ستكون مجازفة كبيرة".

إحجام عن الشراء

في ديسمبر (كانون الأول) 2023 رفعت الحكومة السورية سعر الدواء حتى 100 في المئة، وكانت هذه الزيادة الثالثة خلال عام واحد على الأصناف الدوائية، مما جعل أقلها ثمناً مرهقاً لجيب المواطن الذي كثيراً ما اصطدم بسعر وصفته الدوائية التي تعادل راتبه ربما وتزيد حتى أضعاف وأضعاف.

في مطلع العام الماضي، كان الشاب أحمد سليمان يدفع نحو 200 ألف ليرة سورية شهرياً ثمناً لدوائه (14 دولاراً أميركياً) إثر معاناته انزلاقاً غضروفياً وانفتاق قناة لبية ومشكلة في العضلات، وكان ذلك المبلغ بحسب أحمد مقدوراً عليه، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت ترتفع أسعار الدواء، حتى وجد نفسه مطلع هذا العام، مضطراً إلى دفع مليون ليرة سورية ثمناً للوصفة الطبية ذاتها شهرياً (70 دولاراً)، فقرر إيقافه مرغماً ومتحملاً كل الآلام الناجمة عن ذلك.

يقول أحمد "أنا موظف في سوبرماركت أتقاضى 400 ألف ليرة شهرياً، كيف سأدفع ثمن دواء يعادل أكثر من ضعفي ما أجنيه، فما لم نمت بالحرب نتألم بصمت، لم تكن أمامي حلول سوى تجريب الطب الشعبي علّه يساعد، لم أتخذ القرار بعد، لكنه يبدو الخيار الوحيد".

"تركت الدواء وخرجت"

ليس وحده أحمد سليمان من أحجم عن دخول الصيدليات، فقبل شهر عانت ميادة رويحي وهي مهندسة بترول نزلة تنفسية حادة تطلب علاجها مضادات التهاب ومسكنات وخافض حرارة، وبالفعل توجهت إلى صيدلية قريبة لشراء وصفة الطبيب.

تقول ميادة "بعدما صرف لي الصيدلاني الوصفة، طلبت الحساب، فقال ’150 ألف ليرة (11 دولاراً)‘، فقلت له عفواً! لماذا؟ إنها أدوية زكام فقط، فأجابني أن هذه تسعيرة الوزارة، فتركت الأدوية أمامه على الطاولة وخرجت بكل هدوء، ومن ثم ظللت أدفئ نفسي وأحتسي الزهورات أسبوعاً كاملاً حتى تحسنت صحتي".

قسم "أبقراط" في السجن

في ظل الفوضى الطبية والدوائية المنتشرة في سوريا، تقدم موظفون في القطاع الصحي بحلب، بشكاوى ضد أطباء يستخدمون مواد طبية غير صالحة للاستعمال أو بعضها صالح للاستعمال مرة واحدة فقط لئلا تشكل خطراً على حياة المريض، بحسب مصدر في قوى الأمن الجنائي.

المصدر بيّن أن فرع الأمن الجنائي في حلب بدأ التحقيق مع سبعة أطباء وعدد من مساعديهم حول موضوع تلك الشكاوى التي حملت رقم المحضر (988) وموضوعها استخدام قساطر قلبية غير صالحة للاستعمال أو استخدمت في وقت سابق.

ووفق المعلومات ذاتها، فإن التحقيقات على وشك إثبات تورط 14 شخصاً في تلك القضية، ومن المحتمل أن يمتد التحقيق بصورة أوسع ليشمل بيع فواتير طبية وهمية وتزوير مكونات دوائية ونقل أعضاء بشرية، في حين رفض المصدر الأمني الكشف عن مزيد من التفاصيل ريثما تنتهي التحقيقات ويحال الملف كاملاً إلى القضاء.

10 أعوام من القتل

وليس قبل ذلك بكثير، وفي حلب أيضاً، ومع نهاية العام الماضي تقريباً، تمكن جهاز الأمن الجنائي من ضبط واحدة من أخطر شبكات الملفات الدوائية، وخطورتها تنطلق من ديمومة عملها الذي استمر 10 أعوام من دون أن يكتشفه أحد.

تلك الشبكة امتهنت طوال تلك الأعوام تزوير عقاقير طبية حساسة، غالبيتها جرعات تعطى لمرضى السرطان، لتقوم ببيعها للصيادلة والمرضى على أنها جرعات أجنبية المنشأ، لكن حقيقة الأمر أن تلك الجرعات لم تكن إلا عقاقير معبأة بمياه عادية، لتغامر تلك العصابة بحياة آلاف الأشخاص الذين حكماً كانت المسؤولة عن مقتل عدد كبير منهم.

تلك القصة انتشرت كالنار في الهشيم حين أميط اللثام عنها، وما زال المتورطون موقوفين قضائياً أو جنائياً لهول استدراك ما يمكن أن يكون حصل طوال عقد كامل من التلاعب بمصير مرضى لم يبخلوا بالدفع واستماتوا للحصول على جرعاتهم أملاً في الحياة.

قصة تلك الشبكة ذات العقد الكامل من الاحتيال، والشبكة الأخرى الرائدة في إعادة تدوير استخدام ما لا يصلح استخدامه، ترتبطان بموضوع الدواء السوري وفقدانه، فلولا هذا الفقدان العاصف لما كان الناس بحثوا في زوايا بلادهم عن دواء يعينهم على ألم شديد ومرض سقيم.

يبدو تتبع ملف الدواء في سوريا أمراً غاية في التعقيد لأن كل مفصل فيه يتشابك مع ألف مفصل آخر.

في سوريا كانت ثمة خطوط حمر بينها الدواء، ولكن اليوم صار يعزّ على السوري إدراكه أن العلاج كاد يكون حكراً على الغني في بلاد مزقتها حرب طويلة تلتها سياسات اقتصادية فرضت واقعاً صعباً.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات