في خريف عام 2017 بدأت صحيفة "نيويورك تايمز" وغيرها من وسائل الإعلام الأميركية في نشر تقارير بشكل مكثف عن التحرش والاعتداءات الجنسية ضد النساء في هوليوود، حيث طالت الفضائح كبار أوجه الصناعة، وأبرزهم المنتج السينمائي الشهير هارفي واينستين، الذي أدين أخيراً بتهمتي الاعتداء الجنسي والاغتصاب، ويواجه احتمالاً بالسجن لمدة 25 عاماً، وأطلقت هذه التقارير العنان لحركة أوسع في أنحاء الولايات المتحدة امتدت إلى جيرانها عبر الأطلسي ومنها إلى مناطق أخرى من العالم، تحمل هاشتاغ "MeToo" (أنا أيضاً) لفضح الانتهاكات الجنسية والتوعية ضدها.
انتفاضة ضد التحرش الجنسي
على إثر هذه الحركة المناهضة للتحرش الجنسي في أنحاء العالم، اشتكت النساء ضد ساسة رفيعي المستوى ومدراء تنفيذيين لشركات كبرى، ما أسفر عن فقدان الكثير من أولئك الرجال وظائفهم، فضلاً عن تعويض بعض ضحايا هذه الاعتداءات وتغيير قوانين متعلقة بحماية النساء في العمل.
وكان أحد أبرز آثار حركة "أنا أيضاً" إظهار مدى انتشار المضايقات الجنسية والاعتداءات وسوء السلوك، فعندما تحدث المزيد من الناجين، علموا أنهم ليسوا وحدهم، وقد رأى الأشخاص الذين لم يفكروا من قبل في آثار التحرش الجنسي فجأة مدى تأثيره على زملائهم في العمل وعائلاتهم وأصدقائهم.
وفي العالم العربي والإسلامي تم كشف زيف بعض أدعياء التدين، فعلى سبيل المثال تجرأت الشابة ذات الأصول العربية، هند عياري، بتقديم شكوى أمام القضاء الفرنسي في 20 أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017، تتهم فيها المفكر الإسلامي السويسري، طارق رمضان، حفيد مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، باغتصابها والاعتداء عليها جنسياً، ما شجَّع ضحية أخرى على الإفصاح عن اغتصابه لها، وهو ما أثبتته التحقيقات الفرنسية، حيث يُحاكم حالياً بعد أن أقر في أكتوبر 2018 بإقامة علاقة جنسية مع السيدتين، على الرغم من إصراره أن ما حدث جرى بالتراضي.
وتقول هدى بدران، رئيسة الاتحاد العام لنساء مصر والرئيسة السابقة لتحالف المرأة العربية، إن "حركة (أنا أيضاً) كان لها أثرها في العالم العربي، إذ أصبحت الفتيات أكثر جرأة"، مشيرة إلى مشروع للاتحاد بالشراكة مع هيئة "بلان إنترناشونال"، وهي منظمة دولية معنية بتنمية الأسرة والمجتمع، بعنوان "مدن آمنة" لتشجيع الفتيات على الحديث وتوعيتهم، وكذلك تعزيز دور السلطات المحلية في سلامة الفتيات ورفع الوعي المجتمعي بمسألة أمنهن. وأضافت أن جزءاً من هذا المشروع يتضمن تعليم البنات رياضة الجودو للدفاع عن أنفسهن، لأن من الضروري أن تكون البنت قوية حتى تستطيع أن ترفض وتواجه أي انتهاك ضدها.
وعلى صعيد التحركات الرسمية، أشادت بدران بصدور قوانين خاصة في مصر وفي عدة دول عربية تعاقب المتحرشين، فعلى سبيل المثال أنشأت وزارة الداخلية المصرية إدارة خاصة بالإبلاغ عن حوادث التحرش تعمل بها ضابطات، وهو أمر يشجع ويطمئن الضحايا من النساء على الحديث، ونتيجة لذلك انخفضت معدلات التحرش في الأماكن العامة، لأنه في السابق كان بعض الشرطيين الرجال يستخفون بالأمر ولا يأخذون الشكاوى على محمل الجد.
مخاوف نسائية
هذه القضايا تحسب لإنجازات حركة "أنا أيضاً" في مواجهة ظاهرة تضر بالنساء وحقوقهن، فضلاً عن أن الأمر لا يقتصر على النساء، إذ تحدث رجال عن تعرضهم للتحرش الجنسي من رجال آخرين، مثل تأكيد ممثل شاب تعرضه للتحرش من قِبل نجم هوليوود كيفن سبيسي، وتأكيد شابين آخرين تعرضهما لنفس الأمر على يد نجم البوب الراحل مايكل جاكسون، عندما كانا في مرحلة الطفولة، وهو ما تناوله فيلم "Leaving Neverland" الوثائقي عن حياة المغني الراحل.
لكن على صعيد الحركات النسوية وعلى المستوى الاجتماعي الأوسع، يظل هناك تساؤل بشأن مدى التأثير الذي أحدثته هذه الحركة التي أثارت جدلاً حتى بين النساء أنفسهن اللاتي اعتبرنها تجنح نحو التطرف في معالجة قضايا النساء.
ولا أحد يمكنه إنكار ما أنجزته هذه الحركة لصالح حماية المرأة، خصوصاً في أماكن العمل، وتغيير ثقافة لوم الضحية من خلال تشجيع النساء على فضح ما يتعرضن له من إساءات واستغلال جنسي أحياناً، لكن لكل شيء وجه آخر، فربما يتم اتهام رجال زوراً بالتحرش أو الاعتداء الجنسي، بينما هناك عواقب أخرى على النساء أنفسهن تتعلق بتقليص فرص تشغيلهن، فعلى سبيل المثال، في يناير (كانون الثاني) 2018، أدلت الممثلة الفرنسية كاترين دينوف، بتعليقات مثيرة عما وصفته بـ"حق الرجال في مغازلة النساء وإظهار انجذابهم الجنسي نحوهن"، منتقدة الضجة التي أحدثها هاشتاغ "أنا أيضاً" الخاص بقصص التحرش.
نزعة تزمت... وحملة اتهامات عامة
وكانت دينوف من بين مئة سيدة فرنسية، من المجال الأكاديمي والنشر والإعلام، بعثن رسالة مفتوحة إلى الرأي العام نشرتها صحيفة "لوموند" الفرنسية، يحذرن فيها من نزعة التزمُت التي أعقبت نشر فضائح التحرش الجنسي لقادة بارزين في مجتمع الأعمال والسياسة والإعلام. واعتبرت الممثلة والموقعين على الخطاب أن هاشتاغ "أنا أيضاً" وهاشتاغات فرنسية شبيهة، مثل Balancetonporc وExposeYourPig، ذهبت بعيداً جداً عن طريق الملاحقة العلنية وخلقت مناخاً شمولياً.
وأضافت "نتيجة لقضية واينستين، جرى فضح مشروع للعنف الجنسى الذي تتعرض له المرأة، لا سيما في أماكن العمل، حيث يستغل بعض الرجال سلطاتهم، لكن في الوقت الذي كان ضرورياً فضح هذه الممارسات، خرج الأمر عن نطاق السيطرة". وحذرت الموقعات على الخطاب من أن الحركة أدت إلى حملة من الاتهامات العامة التي وضعت أشخاصاً لا يستحقون هذا العقاب في نفس الفئة مع مرتكبي الجرائم الجنسية من دون منحهم فرصة للدفاع عن أنفسهم.
كما حذرت نساء يصفن أنفسهن بأنهن "نسويات"، مثل الناقدة الأميركية دافني ميركين والكاتبة باري ويس وغيرهما، من أن الكثير من شكاوى التحرش لم تكن تستحق أن تصل إلى العلن والقضاء، بل تظهر النساء ضعيفات للغاية أشبه بربات البيوت في العصور القديمة، إذ جادل البعض بشأن قدرة النساء على التعامل مع بعض الحوادث البسيطة.
ولا تزال هناك مخاوف أخرى بين النساء، فبحسب استطلاع على مستوى وطني أجرته مجلة "ڤوكس" بالتعاون مع شركة الأبحاث الإعلامية "مورنينغ كونسلت"، في عام 2018، فإن 63 في المئة من النساء أعربن عن قلقهن من توجيه اتهامات كاذبة، بينما أعربت 60 في المئة عن مخاوف من ضياع فرصٍ مهنية، كما أعربت 56 في المئة عن قلق من حصول مرتكبي الجرائم المختلفة على العقاب ذاته.
وفي مجموعات مناقشة، أعرب العديد من النساء عن قلقهن بشأن أقاربهن من الرجال ممن قمن بوصفهم بأنهم يعتنون ويحترمون المرأة، إذ ربما يواجهون اتهاماً زائفاً أو يتضررون كتأثير جانبي لحركة "أنا أيضاً".
وأعربت واحدة من الشابات اللاتي شملتهن الدراسة عن قلقها بشأن أبيها، موضحة أن إحدى الموظفات طلبت منه مساعدتها في نقل صندوق كبير وعندما رد عليها قائلاً "حسناً عزيزتي، سوف أقوم بذلك"، داهمته الموظفة بالرد "لا تدعوني بعزيزتي"، وأشارت الشابة إلى أن والدها كان غاضباً للغاية عندما كان يروي لها الواقعة، مؤكداً أنه أراد فقط أن يكون لطيفاً ولم يعني شيئاً آخر. فيما أعربت سيدة في أوائل الستينيات من العمر، عن قلقها بشأن ابنها وما تربى عليه من احترام تجاه النساء وضرورة معاملتهن بلطف.
وعلى الرغم من كل المخاوف التي أعرب عنها الكثير من النساء والفتيات بشأن آبائهن وأزواجهن وأبنائهن، فقد أعربن أيضاً عن دعمهن حركة "أنا أيضاً" ودورها في كشف ما تتعرض له النساء.
الادعاءات الزائفة نادرة
وتقول بدران إن هناك استراتيجية مجتمعية تتمثل في أنه لكي تعالج مشكلة ما يجب أن تتخذ توجهاً مشدداً للغاية أشبه بسحب بندول الساعة إلى أقصى اتجاه ثم تدريجياً يعود إلى المنتصف، وهذا ما حدث مع إطلاق حملة "أنا أيضاً"، حيث أصبح لدى البعض ميلاً لأخذ كل كلمة على محمل جنسي أو مشين حتى لو كانت على مستوي عفيف، وهنا يجب على المرأة أن تكون أكثر وعياً وحكمة في معرفة ما تحمله المجاملة من توجه، فضلاً عن أن طريقة إلقاء أي كلمة أو مجاملة تظهر ما وراءها والنساء ذكيات بدرجة كافية لفهم ذلك، إلى جانب أن الرجل نفسه ليس ساذجاً ويفهم جيداً رد المرأة.
وأضافت "هناك مشكلة كبيرة تتعلق بالتحرش في أماكن العمل، تحتاج إلى التصدي لها، لأنه عندما تشتكي موظفة من تحرش مديرها بها لا يتم الأخذ بالشكوى ويتم تشويه صورة المرأة واتهامها بالكذب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكدت "لا توجد سيدة تدّعي على مديرها بهكذا أمر"، لافتة إلى أن الأزمة الأكبر تتعلق بالتحرش بالأطفال والذين غالباً يتم تكذيبهم، فالصغار لا يعرفون الكذب في مثل هذه الأمور".
وتتابع "قرأت من قبل حادثة عن مُعلِم تحرش بتلاميذ كُثر في مدرسة، لدرجة أن عدد ضحاياه وصل إلى 120 طفلاً"، وقالت "نحن متهاونون في التحرش في أماكن العمل والمؤسسات التعليمية وبخاصة في الأماكن التي من المفترض أن يكون الطفل في أمان بداخلها".
ووفقاً لدراسة صادرة عن مركز سان دييغو للصحة والمساواة الجندرية، في أبريل (نيسان) 2019، أجريت على مستوى وطني، حول التحرش والاعتداءات الجنسية، فإن الادعاءات الزائفة نادرة للغاية، خصوصاً في مقابل العدد الكبير من الأشخاص الذين قالوا إنهم تعرضوا للتحرش، وعلاوة على ذلك، تظهر الدراسة أن معظم الناس يصدقون بعضهم البعض، بدرجات متفاوتة، وتصديق الناجين من التحرش أو الاعتداء الجنسي أمر بالغ الأهمية في مواجهة القضية.
واوصت الدراسة الأميركية بضرورة محاسبة أولئك الذين يتسببون في أضرار، بل ضرورة معرفة المزيد عن الأشخاص الذين يرتكبون هذه الأفعال ومواصلة إجراء مزيد من البحوث حول هذه المجموعات لفهم سلوكياتهم.
ثقافة لوم الضحية
وتشير بدران إلى أنه على الرغم مما أُحرز من تقدم في هذه القضية، فإنه على صعيد الشرق الأوسط، للأسف لا تزال هناك ثقافة لوم الضحية، لافتة إلى تصريح سابق أثار جدلاً واسعاً، لمفتي مصر السابق، علي جمعة، القى فيه باللوم جزئياً على ملابس المرأة.
وأضافت أن معظم من تعرضن للتحرش هن محجبات، وعموماً فإن التحرش موجود في كل بلاد العالم، لكن النساء في الخارج أصبحن أكثر تمكيناً وقوة في مواجهة هذه الظاهرة.
ولفتت إلى أنه "خلال السنوات الأخيرة الماضية تم التركيز على التحرش الجنسي في الشارع والأماكن العامة، بينما هناك تحرش داخل الأسرة يصل إلى زنا المحارم وتحرش في أماكن العمل، خصوصاً عندما يكون الرجل في موقع رئاسة"، مضيفة أنه "لا يزال هناك صمت على الأنواع الأخرى التي تزيد خطراً وإيذاءً للنساء عن غيرها من الأنواع".