بعد مرور أربعة أشهر على اكتشاف فيروس كورونا (كوفيد 19)، والإصابات حول العالم تخطت عتبة المليون، وعشرات الآلاف من الوفيات، وبينما كانت الصين هي البؤرة الأولى عالمياً كانت الأنظار تتجه ناحية تايوان، باعتبارها إحدى الدول المرشَّحة لتكون البؤرة الوبائية اللاحقة، بل تكون بؤرة أسبق وأوسع انتشاراً من غيرها، وذلك لقربها الجغرافي من الصين. لكن هذا لم يحدث.
الآن، عشرات الألوف من حالات الإصابة بهذا الفيروس تُسجَّل في العالم كل يومٍ، تتبعها بضعة آلاف من توابيت الموتى الذين فتك بهم هذا الوباء الشرس، لكن الأمر في تايوان مختلف تماماً، إذ نجحت في صدّ ومحاصرة واحتواء وباء كورونا بشكل فعَّال.
أرقام تعكس النجاح
بينما يعاني العالم وأوروبا، وأميركا خصوصاً، من ازدياد حالات إصابة عشرات الآلاف من الأشخاص بفيروس كورونا، لا سيما إيطاليا وإسبانيا وألمانيا، يأتي النجاح الأكبر من تايوان التي لم تسجّل فيها سوى 339 حالة في المجموع، بينها 10 إصابات جديدة، ثمانية منهم عائدون من الخارج، واثنان مقيمان في تايوان، وهو مستوى يقلُّ كثيراً عن التوقعات بتفشي وباء كورونا في بلدٍ صغير يبعدُ عن الصين نحو 130 كيلومتراً فقط، ويعمل مئات الآلاف من سكّانه في الصين، ويتردد عليه مئات آلاف الصينيين كل عام، فضلاً عن ظهور الوباء قبيل عطلة رأس السنة الميلادية في الصين وتايوان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم مما تواجهه تايوان من تحديات، كبلدٍ صغيرٍ لا يتمتع بعضوية الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وسوء علاقته التاريخية والحالية مع دولة عملاقة مثل الصين، فإن ثمّة عوامل مهمة ساعدت في نجاح التجربة التايوانية في مكافحة وباء كورونا، مثل: الاستجابة المُبكِّرة والصارمة، والشفافية، والتكنولوجيا وتحليل البيانات الضخمة، ونظام التأمين الصحي الشامل، وتضامن المجتمع.
ويُرجِع عددٌ من متخصصي الصحة الدوليين هذا التطوّر إلى التدخل المبكر للحكومة التايوانية، ويرى جيسون وانغ، المتخصص في سياسة الصحة العامة بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة، أن تايوان "أدركت الأبعاد المُحتملة للأزمة في الوقت المناسب، وكانت دائماً تستبق تطورات الموقف بخطوة أبعد".
ربط بيانات التأمين الصحي مع بيانات السفر
يقول وانغ: "بعد وباء سارس في 2002 - 2003، أنشأت تايوان مركز القيادة الصحية الوطنية (NHCC)، واُستخدم المركز للتحضير للأزمة المُحتملة التالية"، وهو يوفّر البيانات، ويمكِّن الخبراء من العمل معاً.
وأضاف وانغ: "تايوان دمجت بيانات التأمين الصحي الوطني في بيانات الهجرة والجمارك"، ومكَّن ذلك مقدماً العاملين في القطاع الصحي من التعرّف إلى المرضى المحتملين، بناءً على نشاطات سفرهم، كما طوّرت الحكومة التايوانية برنامجاً يتيح للمسافرين العائدين إلى تايوان الإبلاغ عن خط سيرهم، إضافة إلى ذلك يتحتم عليهم مسح "كود" معين، ومن ثمَّ يتلقّى المسافرون رسالة حول كيفية تقييم حالتهم الصحية.
كل ذلك سمح للمسؤولين في كل منافذ الدخول والخروج في البلاد بالتركيز على أولئك المعرّضين لخطر الإصابة بفيروس كورونا (كوفيد 19)، وإغفال أولئك الأقل عرضة للخطر.
إجراءات الحكومة التايوانية
ومع تسارع الأحداث، قررت حكومة تايوان في وقتٍ مبكر حظر دخول الأشخاص القادمين من الصين وهونغ كونغ وماكاو إلى أراضيها.
وفي الوقت نفسه، حظرت الحكومة تصدير الكمامات الواقية، لضمان أن يبقى في تايوان قدرٌ كافٍ منها، تحسباً لأي طارئ.
وأعلن مركز القيادة المركزية (CECC) للوباء، في 6 من فبراير (شباط)، أنه سيُجرى حظر السفن السياحية الدولية من الاتصال بموانئ تايوان، وبالفعل رفضت خمس دول، بينهم تايوان، استقبال سفينة The Westerdam السياحية، بسبب مخاوف من احتمال وجود مصابين بفيروس كورونا على متنها.
توظيف التقنية في الرعاية الطبية
يعطي تقرير نشرته "فورين بوليسي " تفاصيل أكثر عن التجربة التايوانية في مواجهة فايروس كورونا، فقد استفادت تايوان من التكنولوجيا المتقدمة والبيانات الضخمة للمواطنين لأجل تطوير منصّات للتواصل مع السكّان حول أماكن وجود الأقنعة الطبية، ومكّنت مقدمي الخدمات الصحية من العودة إلى تاريخ سفر الراغبين في العلاج لأسبوعين على الأقل.
ويوجد عاملٌ أساسيٌّ آخر هو قوة النظام الصحي في تايوان، إذ يعدُّ الأفضل في العالم، بحسب تصنيفات عالمية، ويقدِّم خدمات صحية قوية للجميع، فضلاً عن كونه نظاماً رقمياً، يتيح للأطباء التعرّف إلى بيانات المرضى.
ومن العوامل الأخرى، التي ساقها تقرير فورين بوليسي، نجاح الشعب في الحجر الصحي الاختياري، ووجود قيادة حقيقية لتدبير الأوضاع الصحية على المستوى المركزي.
وإن كانت معظم دول العالم أضاعت خطوة المواجهة الاستباقية، فإن تايوان أوفدت فريقاً طبياً متخصصاً إلى ووهان الصينية عند انتشار الفيروس بها للتعرف عليه، ويوجد دروس أخرى من هذا البلد يمكن الاقتداء بها بحسب تقرير أوردته NBC NEWS، منها ضمان استمرار إنتاج المعدات الطبية، والتواصل المستمر مع السكّان عبر وسائل الإعلام الجماهيري، وتشجيع الناس على الاهتمام بصحتهم سواء في العمل أو المنزل، فضلاً عن تعميم التأمين الصحي الإجباري على الجميع.
وإذا ما استطاعت دول العالم الحدّ من انتشار الوباء، فسيكون عليها أن تتعلّم من الدرس، كما فعلت تايوان مع وباء سارس. وصرّح الطبيب الأميركي نيكولاس مارك المتخصص في الرعاية الحرجة بأن الحكومات "مدعوة لاستخدام التكنولوجيات الحديثة في الرعاية الصحية، مثل التطبيب عن بعدُ ومراقبة الصحة المنزلية".
المواطنون يتحمّلون المسؤولية
وساعد امتثال المواطنين إلى التعليمات الحكومية المسؤولين التايوانيين في الاستجابة بشكل مناسب لتفشي فيروس كورونا.
وصرّح تشونوي تشي، أستاذ الصحة العامة بجامعة ولاية أوريغون في الولايات المتحدة، بأن "معظم التايوانيين مرّوا بأوقات صعبة خلال وباء سارس، ولا يزال كثيرون منهم يتذكّرونه. والوضع الحالي يساعد على تعزيز روح الجماعة". كما تشير الإحصاءات إلى أنّ أكثر من 90 في المئة يرتدون الأقنعة في جميع تنقلاتهم.
محاولة تطوير اختبار سريع لاكتشاف الفيروس
وأضاف تشونوي تشي، "تايوان استثمرت في قدراتها البحثية بمجال الطب الحيوي خلال العقود القليلة الماضية، وأن فرق بحث عملت أيضاً على تطوير اختبار تشخيصي سريع لمرض (كوفيد 19)".
وقبل أيامٍ قليلة، طوّر فريقٌ من الباحثين بأكاديمية "سينيكا" التايوانية أجساماً مضادة، يمكن استخدامها لتحديد البروتين الذي يتسبب بفيروس كورونا، والهدف من ذلك هو إنتاج اختبار سريع جديد لفيروس كورونا، تظهر نتيجته بعد 20 دقيقة فقط من إجرائه.
ووفقاً لقائد الفريق يانغ آن سوي، فإن الخطوة التالية هي "التحقق من سلامة المنتج قبل طرحه للبيع".
تايوان تطالب بالانضمام إلى منظمة الصحة العالمية
وبينما تنجح تايوان في احتواء ومكافحة وباء كورونا، فإنها ليست عضواً في منظمة الصحة العالمية (WHO)، إذ اُستبعدت من منظمة الأمم المتحدة منذ عام 1971 (جراء ضغوط من بكين)، وتواصل حكومة الصين منع تايوان من الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية.
وعلى الرغم من ذلك، تواصل تايوان تبادل خبرتها مع دولٍ أخرى في مكافحة فيروس كورونا، كما يقول جيسون وانغ. ومن خلال اجتماعات عبر الهاتف يتبادل متخصصو تايوان معارفهم، ويساعدون البلدان ذات الموارد الطبية الأقل لفحص عينات المرضى، وبعبارة أخرى، "استخدمت الحكومة التايوانية موضوع الصحة العامة بنشاط لتعزيز التبادل مع البلدان الأخرى".
ومن غير المؤكّد ما إذا كانت تايوان يمكنها أن تنضم من جديد إلى منظمة الصحة العالمية، بسبب احتوائها الناجح لفيروس كورونا. ومع ذلك، يقول وانغ "على المنظمة الأممية أن تضع ذلك في الاعتبار. يجب أن تعرف منظمة الصحة العالمية أن مِفتاح مكافحة وباء عالمي هو التعاون، وإذا تجاهلت مناطق معينة من العالم فهذا ليس بالشيء الجيد".