هناك انقسام شرير بين الشمال والجنوب يغذيه تباين المواقف الأوروبية حيال الرد على الحطام الاقتصادي الذي خلفه فيروس كورونا، ما يستدعي أسوأ أيام الأزمة المالية لعام 2008 وتجربة الاتحاد الأوروبي المريرة، واليوم وبعد مرور أكثر من عقد على اندلاع تلك الأزمة يعود شبح انفراط العقد الأوروبي مجدداً ليخيم على مستقبل القارة العجوز.
والسؤال الأكثر إلحاحاً اليوم هو أنه إذا ما أحكم الوباء قبضته على الكتلة الأوروبية فهل يمكن أن يضع "سندات الكورونا" أو ما يعرف بـ"كورونابوندز" الأساس لاتحاد مالي ثوري قد يصبح المدفأة لأوروبا الجديدة لكنه قد يحرقها أولاً!
رغم اتفاق قادة الاتحاد الأوروبي في أبريل (نيسان) الماضي على حزمة مساعدات بقيمة 500 مليار يورو (541.9 مليار دولار أميركي) وتأسيس صندوق لإعادة الإعمار بقيمة ألف مليار يورو (تريليون دولار)، لا تزال تفاصيل عمل هذا الصندوق غير محسومة حتى يومنا هذا، خصوصاً أن الحكومات الأوروبية تحتاج اليوم وبصورة عاجلة لمئات المليارات، إن لم يكن تريليونات من اليورو لدفع أجور العمال العاطلين، والحفاظ على أنظمة رعاية صحية مرهقة على أمل أن يحدث التعافي من أزمة كورونا المميتة في النصف الثاني من العام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تساؤلات حول الاستجاية الأوربية المالية
دول جنوب أوروبا بقيادة فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، كانت قد دعت إلى استجابة أوروبية مشتركة للتحدي، مثل "سندات اليورو" الضخمة التي تدعمها الدول الأكثر ثراء والأقل ثراء على حد سواء لتقاسم الألم بشكل أفضل. حتى كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، دعت أوروبا إلى التقدم والقيام بما لم تفعله من قبل. لكن دول الشمال، بقيادة ألمانيا وهولندا، تراجعت عن فكرة سندات اليورو التي يقولون إنها غير مقيدة لأنها تعني أن دافعي الضرائب الخاصين بهم سيكونون في مأزق بالنسبة إلى البلدان التي يقولون إنهم عاشوا لفترة طويلة تتجاوز إمكانياتهم.
وبحسب مجلة "فورين بوليسي"، سيكون للانقسام الأوروبي مخاطر كبيرة على المدى القصير، حيث يتعين على العديد من البلدان المثقلة بالديون في جنوب أوروبا التعامل مع الانهيار الاقتصادي على نطاق لم يسبق له مثيل، مع إغلاق جميع الشركات تقريباً بأمر حكومي، في حين أن تكاليف الاقتراض أعلى من تلك في البلدان الأكثر ثراء مثل ألمانيا، ما يحد من قدرة الحكومات على الاستجابة للأزمة. وعلى المدى الطويل، ما يراه الأوروبيون الجنوبيون على أنه عدم تضامن من الألمان والهولنديين يهدد بنسف فكرة الاتحاد الأوروبي بأكملها، التي كانت تترنح منذ الأزمة المالية الأخيرة على الأقل.
الجدل هو في بعض النواحي خصوصاً عند العودة بالذاكرة إلى الأزمة اليونانية في 2011-2012 والتداعيات اللاحقة، عندما نشأت قضايا وجودية مماثلة حول العادات الاقتصادية المختلفة لدول شمال وجنوب أوروبا، لكن هذه المرة، آلاف الأرواح معرضة للخطر.
يقول أنجيل تالافيرا، رئيس قسم الاقتصاد الأوروبي في شركة "أكسفورد إيكونوميكس"، "لم أكن أبداً من محبي المتشائمين الذين توقعوا دائماً نهاية منطقة اليورو، لكن هذه هي المرة الأولى التي بدأت أشعر فيها أن هناك خطراً حقيقياً"، وتابع "إذا أصبح الحديث عن أن أوروبا لا تساعد بينما يموت الناس بأعداد كبيرة، فأنا حقاً أخشى أن يتسبب ذلك في أضرار دائمة للمشروع الأوروبي ."
تصنيف ائتماني لا تشوبه شائبة
لقد تأخرت الاستجابة المشتركة لوزراء المالية الأوروبيين في أوج تفشي فيروس كورونا في دول أوروبية، وحتى لو كانت الاستجابة غير مستساغة سياسياً للعديد من البلدان. لسنوات، كان العديد من الأوروبيين يتوقون إلى جعل الاتحاد النقدي المعزز باليورو ميثاقاً من خلال إنشاء اتحاد مالي حقيقي، كما الحال في الولايات المتحدة، حيث تشترك أماكن متباينة مثل نيويورك وميسيسيبي في عملة مشتركة، وحيث الأجزاء الأكثر ثراءً في الكتلة الأوروبية المزدهرة، فيما تركت دول أوروبية أخرى تصارع معركة الموت وحيدة، وهذا هو الصراع الحقيقي الذي يختمر حالياً في أوروبا.
فرنسا ودول أخرى طالبت بإصدار سندات كورونا أو ما يعرف غربياً بـ"كورونابوندز" وهي سندات مُصدرة بشكل مشترك من شأنها أن تجمع أموالاً ضخمة، ربما تريليون يورو لجميع الدول الأوروبية باستخدام تصنيف ائتماني لا تشوبه شائبة. إن الأمر يشبه إلى حد ما الشباب الذين يعانون من ضائقة مالية ويطلبون من أحد الوالدين الحصول على ائتمان إسترليني للمشاركة في التوقيع على قرض، ليس لشراء سيارة بل لمحاربة وباء هذه المرة.
برنامج لتأمين الديون
قام البنك المركزي الأوروبي بتدشين مدفعيته الثقيلة، حيث قدم برنامجاً بقيمة 750 مليار يورو لتأمين الديون من الدول الأوروبية في محاولة مدروسة للحفاظ على تكاليف الاقتراض للبلدان المحاصرة مثل إيطاليا وإسبانيا عند أدنى مستوى ممكن. وقد نجح ذلك، فالفرق بين السندات طويلة الأجل في إيطاليا مقارنة بالديون الألمانية المطلية بالذهب لا يزال منخفضاً وجزءً مما كان عليه خلال أسوأ أزمة مالية سابقة.
ويقول كلاوس فيستسين، كبير الاقتصاديين في منطقة اليورو في مؤسسة "بانثيون ماكرو إيكونوميكس"، "أعتقد أن مناقشة (يوروبوند) بأكملها تشتيت إلى حد ما، فهي ليست ضرورية، في ظل امتلاك الإتحاد الأوروبي جميع الأدوات التي قد يرغب فيها"، ويتساءل "لقد اختفت قواعد العجز، والبنك المركزي الأوروبي يشتري سندات لحماية فروق الأسعار، فلماذا لا نفكر في الروابط المتبادلة؟".
بدلاً عن ذلك، يقترح القادة الهولنديون والألمان أن الأدوات الحالية الأخرى يمكن أن تؤدي المهمة بالقدر نفسه أو أفضل من النزول إلى ما يعتبرونه منحدراً زلقاً للاتحاد المالي من خلال إصدار سند مشترك. آلية الاستقرار الأوروبية (ESM)، وهي نوع من بوليصة التأمين المشتركة لمنطقة اليورو بأكملها، لديها أكثر من 400 مليار يورو (433.5 مليار دولار أميركي)، لمساعدة البلدان التي تمر بأزمات. يشعر الهولنديون بالحذر من كسر هذا الزجاج، معتبرين أنه الملاذ الأخير لحالة الطوارئ.
وبحسب فيستسين، لن تقبل إيطاليا بذلك، لأن ذلك سيصل إلى ما مجموعه نحو 35 مليار دولار، مع انخفاض في سعر الفائدة الذي لا فائدة منه على الإطلاق. وقال إن الحجة هي نفس الحجة الأخيرة، أن تلك الدول تبالغ مالياً، على الرغم من أنني اعتقدت أنه من الواضح للجميع أن هذه صدمة خارجية تنبع من الفيروس غير المتوقع، وليس دولة رفاهية مفرطة في السخاء.
قد يكون العمل الأوروبي المشترك قضية خاسرة على أي حال. بينما تطالب فرنسا وإسبانيا وإيطاليا بالدعم، فإن الألمان والهولنديين يحفرون نحو تعميق التباين الأوروبي.