لم يتوقّع جايسون أوساماد أوكونداي من لندن أن يرى صورته في الصّحف صباح ذلك اليوم. إنه مجرّد طالبٍ عاديّ في "جامعة كامبريدج". وقبل ليلة، تبادل مع أصدقائه تغريدات عن راشان تشارلز الذي قُتل في 22 يوليو (تموز) 2017 إثر ملاحقة عناصر الشّرطة له في شرق لندن وتحوُّل موته مادة دسمة لتحقيقات "اللجنة المستقلّة لشكاوى الشرطة". ومن دون أن يدري، أصبح أوساماد أوكونداي جزءاً من مجموعة متزايدة من الطّلاب السّود الذين شهّرت بهم الصحافة بسببب كلامهم عن العنصرية في بريطانيا الحديثة.
"كل ما في الأمر أنني نشرتُ تعليقاً عن واقع العنصرية في المملكة المتحدة، شدّدتُ فيه على ارتباط هذه الظّاهرة بالطبقة العاملة وبمؤيّدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، خارج لندن. وكتبتُ بالحرف الواحد، "كل أصحاب البشرة البيضاء عنصريون". وقصدت بكلامي أنه في إمكان ذوي البشرة البيضاء أن يكونوا عنصريين ويتصرّفوا بعنصرية، بغضّ النظر عن ميولهم الجنسية وطبقاتهم الاجتماعية. وليلتها، اشتعلت احتجاجات شعبية وكل ما أردته فعلياً هو التّصدي للعنصرية ودعم المحتجين".
وما هي إلا ساعات حتى اكتسحت صورة أوساماد أوكونداي، وهو يرتدي قميصاً فضفاضاً ويضع قبعة "سناب باك"، الصحف إلى جانب لقطات من الاحتجاجات وأعمال العنف والشغب الناجمة عن مقتل تشارلز. "يومها، اتهمتني الصحف الوطنية بالثمالة لأنني أبديتُ رأيي عبر الإنترنت". وقد تلقى تهديدات بالقتل والاغتصاب وعُيّر بالمثلية الجنسية أمام عائلته؛ "لقد كانت تجربة مخيفة حقاً"، يستذكر أوكونداي.
ومنذ مقتل جورج فلويد على يد الشرطة في مينيابوليس في 25 مايو (أيار) 2020، تعمّدت مجموعة من العلامات التجارية والشركات المملوكة لأشخاص من أصحاب البشرة البيضاء، نشر تغريدات مماثلة لتغريدات أوساماد أوكونداي، لكنها لم تلقَ ردود فعل معادية أو عنيفة. كل ما في الأمر أن بعضها نُعت بالخبث والرّياء. إذ واجهت شركة "لوريال" لمستحضرات التجميل، مروحة من الانتقادات لنشرها مربعاً أسود ضمن إطار حملة # ثلاثاء الصمت #BlackOutTuesday بعد أن طردت الناشطة السوداء مونرو بيرغدورف في 2017 لقولها "الحقيقة أنني لم أعد أملك الطاقة الكافية لأتكلم عن العنف العنصري الذي يُمارسه أصحاب البشرة البيضاء. نعم كل أصحاب البشرة البيضاء".
يوم الاثنين 8 يونيو (حزيران)، ذكر متحدّث باسم رئيس الحكومة أن بوريس جونسون يعتقد بشدّة أن بريطانيا "ليست دولة عنصرية". ويندرج كلامه هذا ضمن نطاق الدفاع المتعارف عليه بين المشككين بوجود العنصرية في بريطانيا الذين يعتبرون ظاهرة معاداة أصحاب البشرة السوداء "قضية أميركية بحتة". وفي نقاشٍ حول الوحشية التي تُمارسها الشرطة بحق الأقليات في برنامج "نيوز نايت" على قناة "بي بي سي" الأسبوع الماضي، سألت إيميلي مايتليس الشاعر جورج، "جهاز الشرطة لدينا غير مسلّح وغير مزوّد بمسدسات. كما أن إرث العبودية لدينا مختلف... مختلف، أليس كذلك"؟
وفي ذلك الصدد، رأت نادين وايت، وهي صحافية متخصّصة في النّزاعات العرقية، إن العنصرية هي هي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكل مكان. وأضافت، "العنصرية ليست مشكلة فردية، بل مشكلة هيكلية وتُديم أوجه عدم المساواة التي يلمسها أصحاب البشرة السوداء في كل جانب من جوانب حياتهم، من الرعاية الصحية والتعليم حتى القطاع العام وعمل الشرطة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبصورة عامة، يتعرض أصحاب البشرة السوداء بأكثر من الضعفين للوفاة أثناء احتجاز الشرطة لهم. وبحسب تقييمٍ مستقل لأعداد المتوفين في عهدة الشرطة بين 1990 و2009، تبيّن أن 16 في المئة من الذين توفّوا تحت وطأة استخدام القوة، هم أصحاب بشرة سوداء، ما يفوق ضعفي تلك النسبة بين المعتقلين. ويظهر أن تكتيكات الإيقاف والتفتيش تستهدف الشباب السود بشكل غير متكافئ، وهذا واقع لا تُنكره وزارة الداخلية. ومع تعميم برنامج التعرف إلى الوجوه في أنحاء لندن منذ يناير (كانون الثاني) 2020 باعتباره وسيلة للتحليل الوصفي استناداً إلى العرق، بدأ العمل الشرطي في بريطانيا يتخذ منحىً أكثر عنصرية.
وحين قُتل مارك دوغان على يد ضابط شرطة في توتنهام 2011، لقّبته الصحافة البريطانية بالـ"سفاح" و"رجل العصابة". وفي هذا الأسبوع، رصدنا الأسلوب نفسه في الكلام عن حركة "حياة السود مهمة" Black Lives Matter، حيث وُصف المشاركون فيها بـ"العدوانيين" و"الغوغائيين" و"المشاغبين" و"المجرمين" لمطالبتهم بالعدالة وإنهاء التمييز العنصري. وإذا قارنّا اللغة التي استخدمتها وسائط الإعلام لتغطية أخبار كل من ميغان ماركل وكايت ميدلتون، فسنجد فارقاً كبيراً، ما يعطي مثلاً واضحاً وصريحاً على العنصرية البريطانية. إذ شكّلت الممثلة الأميركية محط انتقاد دائم لأسبابٍ مختلفة، من تناولها الأفوكادو إلى مداعبة بطنها أثناء حملها. وقد اتّسع نطاق هذه الانتقادات لدرجة أن قصر كينسينغتون أصدر بياناً يُدينها.
وفي ذلك السياق، اعتبرت وايت أن العنصرية مستشرية في الهياكل والمؤسسات والأيديولوجيات البريطانية. ووفق كلماتها، "لقد غطّيتُ خلال مسيرتي الصحافية حالات كثيرة من عدم المساواة المنهجي، بداية من تلك المستندة إلى أساس العنصرية والتمييز العرقي في نظام التعليم (كتب مدرسية تروّج للعنصرية والتمييز على أساس ملمس الشّعر)، ووصولاً إلى مخاوف مستمرة في حزب العمال من ظاهرة كراهية الأفارقة".
وفي 2014، أظهر استطلاع رأي للمواقف الاجتماعية أن أكثر من 30 في المئة من البريطانيين يعترفون على الملأ بأنهم متحيّزون "قليلاً". وفي 2018، وقعت "فضيحة ويندروش"، وشكّلت تأكيداً على مدى تجذّر هذه المواقف في العنصرية المنهجية الممارسة ضد ذوي البشرة السوداء. ليس أمراً مستغرباً. ففي سياق تلك الفضيحة، أشرفت وزارة الداخلية على تعرّض مئات البريطانيين من أصحاب البشرة السوداء إلى استهداف خاطئ من قبل "جهاز إنفاذ قوانين الهجرة" في ظل سياسات حكومية "معادية". وفي النتيجة، مُنع عدد من كبار السن من العمل، وحُرم كثيرون من الحصول على خدمات حكومية وتقديمات اجتماعية.
وبعد مرور عامين على الفضيحة، تحلّ جائحة كورونا اليوم ضيفاً ثقيلاً على أصحاب البشرة السوداء. إذ بات هؤلاء عرضة للموت جراء الفيروس أكثر من أقرانهم البيض بأربعة أضعاف، كما أن معدل الاستشفاء في صفوف الحوامل المصابات بينهم هو الأعلى. ومع وفاة أكثر من ستة موظفين من أصل عشرة ينتمون إلى خلفيات سوداء وآسيوية وأقليات عرقية في هيئة "الخدمات الصحية الوطنية"، يتّضح أكثر من كل وقت مضى عمق العنصرية الهيكلية المتفشية في نظامنا للرعاية الصحية.
"بسبب الجائحة المستجدّة، خسرتُ أصدقاء لي وأفراد من عائلتي في تعاقب سريع. لقد عاش بعضهم على مداخيل متدنية وعمل على خطوط المواجهة، فيما عاني بعضهم الآخر حالات مرضية تفاقمت بسبب الفيروس"، وفق وايت.
وإضافة إلى أرقام ضحايا الجائحة من ذوي البشرة السوداء، تُضاف الحوادث المنفردة، على غرار حادثة بيلي موجينغا التي كانت تعمل في مكتب التذاكر في محطة فيكتوريا اللندنية. وقد توفيت موجينغا جراء تعرّضها للبصق والسعال من قبل مصاب بالكورونا. وفي دليل على المعاملة المختلفة التي يحظى بها البريطانيون السود، أكدت "شرطة النقل البريطانية" أنها لن تتخذ إجراءات إضافية بحق المعتدي في قضية موجينغا لعدم كفاية الأدلة في شأن تجريمه، مع أن حوادث بصق مماثلة كثيرة على حراس أمن وعمال شركة "أسدا" تسببت بعقوبات سجن وصلت إلى 13 شهراً.
وبالنسبة إلى كيمبرلي ماكينتوش، ضابطة شرطة لدى مؤسسة "رانيميد تراتس" المعنية بالتمييز على أساس العرق، فإن سوء الفهم الشائع الذي يعتبر العنصرية "مشكلة أميركية بحتة" لا تمتّ إلى بريطانيا بأي صلة، نظراً إلى الإختلاف الأكيد في إرث العبودية بين البلدين؛ مرتبط بشكل وثيق بالمناهج التعليمية المعتمدة. وبحسب كلماتها، "اعترفت وزارة التعليم في 2014 بأنها لم تكن على علم بعدد المدارس التي تُعلّم تلامذتها عن تجارة الرقّ واستعباد الأفارقة".
وتتابع ماكينتوش، "كيف عسانا نفهم حجم العنصرية في المملكة المتحدة إذا لم نقرّ ونعترف بدور بريطانيا في إطلاق تجارة العبيد وفرض الاسترقاق على مستعمراتها طيلة 200 سنة، ولم نعرّف الأجيال الصاعدة على الإرث الذي تركته لنا الأنظمة السابقة"؟
وكذلك تشير ماكينتوش إلى العبودية كمصدر أساسي للأيديولوجية العنصرية الحالية التي تنظر إلى أصحاب البشرة السوداء نظرة احتقار على اعتبار أنهم مجرمون أو متوحشون أو يشعرون بألم أقل. "في 2017، أجرت شركتا "ناتكين" و"رانيميد تراست" استطلاعاً كشفتا فيه أن 44 في المئة من البريطانيين يعتقدون أن بعض الأعراق تُولد أكثر صلابةً وقدرةً على العمل الشّاق من غيرها، و18 في المئة يعتقدون أن بعض الأعراق تُولد أذكى من غيرها. وإلى حين تصحيح هذا اللغط عبر منهجنا الأكاديمي ومَن نختار لإحياء ذكراه، فإن فقداننا الجماعي للذاكرة باقٍ باقٍ".
وبالنسبة إلى فكرة اعتبار بريطانيا دولة غير عنصرية، ترى وايت بأنها مثل آخر على استثنائية بريطانية تعجز عن الاعتراف بتفاعل التاريخ مع الحاضر. و"تشكّل العنصرية في المملكة المتحدة مشكلة مستمرة وغالباً ما تكون مستترة خلف قشرة رقيقة من الاحترام. ومن الوهم أن نظن بأنها متفشية في الولايات المتحدة من دون سواها. وبشأن حقيقة أن المملكة المتحدة "أكثر دولة متسامحة في أوروبا" و"أقل دولة عنصرية"، فإنها غير مهمة، ذلك أن العنصرية عنصرية وتمثّل مشكلة مستمرة في المملكة المتحدة".
وتضيف وايت أنه ينبغي على مناصري معاداة العنصرية من غير السود أن يدققوا أيضاً في حياتهم الخاصة وفي الدور الذي يضطلعون به ويُحافظون من خلاله على الهياكل العنصرية. "كم عدد الأشخاص السود الذين يتعاطون معهم بانتظام أو ينتمون لدائرة معارفهم؟ كم صديقاً أو زميلاً أسود لديهم؟ ما مدى وعيهم للتجارب التي يعيشها أصحاب البشرة السوداء؟ هل يتكلمون بها أو ينقاشون العنصرية معهم؟ كم كتاباً لمؤلفٍ أسود يملكون؟ إن المسيرات المجدية نحو الأفضل تبدأ من الذات".
وبعد مرور 27 عاماً على وفاة ستيفن لورين وصدور تقرير ماكفيرسون الذي يُفصّل عمق العنصرية المؤسساتية في بريطانيا، وعلى الرّغم من ادّعاءات السياسيين بانتقال المملكة المتحدة إلى فصل جديد يطوي صفحة العنصرية، لا يزال البريطانيون من أصحاب البشرة السوداء يُصرّون على العكس.
© The Independent