المشاهد ذاتها التي حدثت في ستينيات القرن الماضي، تتكرر مجدداً في أميركا اليوم، النيران في الشوارع وقوات الحرس الوطني تتدفق على المدن الكبرى ومسيرات الغضب والألم تنتشر وأعمال العنف والنهب والاعتقالات يتردّد صداها في أنحاء البلاد وأحاديث متواترة عن المُحرّضين الراديكاليين، بينما يُصدر البيت الأبيض بيانات صارمة عن القانون والنظام، فيما تبثّ الشبكات التلفزيونية لقطات الاضطراب والغضب بلا انقطاع.
بالنسبة إلى الأميركيين من سن معينة والمهتمين بالتاريخ والسياسة العامة، من المستحيل تجاهل أوجه التشابه بين الأيام القليلة الماضية، وتلك اللحظات الخطيرة التي مر بها المجتمع خلال ستينيات القرن الماضي، بخاصة عام 1968 الذي صبغت قسماته الاغتيالات والاضطرابات الاجتماعية العنيفة.
بل ثمة ما يدعو إلى الاعتقاد بأن عام 2020، قد يتجاوز عام 1968 كنقطة توتّر اجتماعي وسياسي بارزة في التاريخ الأميركي، إذ لا يخفى أن ستة أشهر فقط من هذا العام، مرت فيها أميركا بمحاولة عزل الرئيس في الكونغرس، تلتها جائحة كورونا المدمرة، ومن ثم بطالة متسارعة، وانتهاءً بوفاة جورج فلويد على أيدي شرطة مينيابوليس، لتتوحّد جميع الخيوط معاً، وتتدفق إلى نهر هائج وعكر يخلق تحدّيات لا يمكن تصورها.
أشباح التاريخ في 2020
يقول المؤرخ ثورستون كلارك، مؤلف كتاب "الحملة الأخيرة"، التي تؤرّخ الحملة الانتخابية لروبرت كينيدي عام 1968 واغتياله في 6 يونيو (حزيران) من العام ذاته "كل الأشياء الآن تبدو منسوجة معاً، فقد بات الأمر يشبه تجميع أكبر الكوارث التي مررنا بها خلال المئة عام الماضية لتُصيبنا في ضربة واحدة قوية، ففي مستنقع عام 2020، ظهرت أشباح التاريخ من مختلف العصور الأميركية".
ويضيف "وبعدما كانت الكوارث تأتي فرادى حين ضرب وباء الإنفلونزا الإسبانية الولايات المتحدة عام 1918 وحلّ الركود الاقتصادي عام 1930 وتصاعدت ضغوط عزل الرئيس نيكسون عام 1974 وأحداث حرق لوس أنجلوس عام 1992 بعد تبرئة أربع ضباط شرطة من تهمة ضرب رودني كينغ، الأميركي من أصل أفريقي، حلّت علينا الآن كل الأحداث المأساوية في عام 2020".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أجواء متماثلة
لكن اليوم، يبدو أن عام 1968 هو الأكثر صلة بما يجري حالياً، إذ وقعت فيه أحداث سياسية واقتصادية وعرقية متشابكة، خلقت أجواء محتقنة وعنيفة داخل المجتمع مثل مقتل داعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ ومقتل السيناتور روبرت كينيدي خلال الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في وقت كانت حرب فيتنام بمثابة كارثة وطنية طويلة الأمد تقتل آلاف الأميركيين، تماماً مثلما جاء مقتل جورج فلويد في وقت بات وباء كورونا كارثة وطنية طويلة الأمد تقتل الآلاف.
ويبقى السؤال، أين تظهر مواطن التشابه والاختلاف في كل مفصل من مفاصل الأزمة، وكيف تمكن الاستفادة من دروس وعبر التاريخ بما يجعل استنباط الحلول أيسر وأسرع؟
الاحتجاجات والنهب
تقول هيثر طومسون، أستاذة تاريخ الأميركيين من أصل أفريقي في جامعة ميشيغان، إن هناك أوجه تشابه عدّة بين الاحتجاجات الحالية واحتجاجات الستينيات، لأن الظلم العنصري يبدو وكأنه مستوطن في الحمض النووي للولايات المتحدة. فبشكل دوري وعبر التاريخ، تأتي هذه اللحظات عندما لا يستطيع الناس تحمّلها، وحين يشعرون بأن الظلم صارخ أو أن هناك مجموعة من الأحداث غير العادلة تنفجر الواحدة تلو الأخرى.
ومثلما حدث في الستينيات، كانت هناك بعض عمليات النهب، لأن الظلم الصارخ لعدم المساواة العرقية، يتحقّق مجدداً مع استمرار ظلم التفاوت الاقتصادي، وهو السبب الذي يجعل الناس يهاجمون الأغنياء وممتلكاتهم.
وهناك أيضاً عددٌ كبيرٌ من الاختلافات، منها أن الرئيس ترمب لا يهتم بالتعديل الأول للدستور الأميركي المتعلّق بحرية التعبير السلمي وحرية الصحافة، أو بمحاولة تهدئة المعارضين، ولا يبادر بأمور ملموسة تجعل هذا الوضع أفضل بدلاً من أن يكون أكثر سوءاً. ولهذا لا يعرف الأميركيون ما الذي سيحدث بعد هذه اللحظة، في حين كانت هناك في الستينيات قيادات سياسية أكثر هدوءاً على رأس السلطة، تحاول معرفة ما يجب عمله لتحقيق السلام.
وعلى الرغم من أن البعض أراد المزيد من رجال الشرطة، لكن فئة كانت تقول إننا في حاجة إلى إجراء تغييرات جوهرية وإصلاح ما دفعنا إلى هذه الفوضى.
كما أن هناك اختلافات رئيسة أيضاً في كيفية تعاطي السلطات المحلية مع الاضطرابات، وأحد الأمثلة على ذلك أن عمدة مدينة شيكاغو عام 1968 ريتشارد دالي انتقد الاحتجاجات خلال المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي ودفع الشرطة الشرسة التي ساعدت في جعل القضية نقطة اشتعال وطنية، بينما تتولّى عمدة المدينة الآن امرأة أميركية أفريقية هي لوري لايتفوت التي لم تتّخذ موقفاً معادياً من المتظاهرين.
تركيبة المتظاهرين
وتشير هيثر طومسون الحائزة على جائزة "بوليتزر" إلى أن هناك أوجه تشابه واختلاف، إذ تكتظّ شوارع المدن الداخلية في ولايات الشمال بحضور رائع متعدد الأعراق للمطالبة بتحقيق العدالة العرقية، ما يبدو مختلفاً تماماً عمّا كان عليه الوضع في الستينيات، إذ يخرج الشباب حالياً بسبب إحساسهم الجماعي بأن المستقبل العنصري لهذا البلد في خطر حقيقي الآن، الأمر الذي يحفّز الناس على النزول إلى الشوارع.
العمل التنظيمي
في أواخر الستينيات، كانت هناك منظمات محدّدة تمثل الهيكل التنظيمي الذي يحرّك التظاهرات، مثل الفهود السود والطلاب من أجل مجتمع ديمقراطي، لجنة التنسيق اللاعنفية للطلاب.
أما الآن، فإن العمل التنظيمي الرئيس لهذه التظاهرات يرتكز على ائتلافات من قواعد شعبية، إذ تتجمع منظمات شعبية عدّة كانت تعمل على إصلاح العدالة الجنائية والعدالة الغذائية حول هذه القضية، وتنسّق جهودها مع بعضها بعضاً لإطلاق احتجاج سلمي ومقاومة من يريدون تحويلها إلى تظاهرات أكثر عنفاً.
وتعتبر طومسون أن الطريقة التي يحاول البيت الأبيض تصوير الاحتجاجات بها، تشبه إلى حدّ كبير كيف كان الرئيس ريتشارد نيكسون يحاول تصوير جميع التظاهرات في الستينيات التي كان يراها إما مؤامرة شيوعية أو مؤامرة من السود، فالبيت الأبيض يرى أن هذه الإحتجاجات من تدبير حركة أنتيفا والأناركيين، بينما لا يوجد دليل مؤكد على ذلك.
كيفية طرح الحلول
يتفق عددٌ كبيرٌ من أساتذة التاريخ والعلوم السياسية على وجود اختلافات جوهرية بشأن كيفية معالجة التظاهرات وطرح الحلول، ويشيرون في ذلك إلى سعي الرئيس ليندون جونسون لتشكيل لجنة كيرنر لتحديد أسباب الاضطرابات في المدن والمناطق الحضرية، وهي لجنة ضمّت عدداً من الأشخاص الذين أخبروه بالحقيقة حول المشكلة.
وتحوّلت توصيات هذه اللجنة إلى بعض المحاولات لمعالجة المشكلة، لكن عدداً منها كان شكلياً وتجميلياً في حقيقة الأمر أو بالكاد خدش سطح المشكلة الحقيقية، فلم يُبذل سوى القليل من الجهد لمعالجة الأسس الاقتصادية لهذا النوع من الظلم، كما لم تكن هناك رغبة مُلحّة في معالجة قضية تفوّق الجنس الأبيض.
في مقابل ذلك، فإن الرد الوحيد الذي طرحته الإدارة الحالية لمعالجة المشكلة هو المزيد من الشرطة ونشر الحرس الوطني، بدلاً من تخيّل نموذج مختلف، مثل قوات لحفظ السلام تعمل مع المنظمات المجتمعية لتحقيق الهدوء.
مقارنات أخرى
مع ذلك، فإن أكثر الأوقات غير المريحة التي يستدعيها الأميركيون للمقارنة، هي تلك التي لا يريد أحد الحديث عنها الآن وترجع إلى 1860، عندما وصل الاستقطاب إلى منتهاه بحرب أهلية كارثية في البلاد. فقد كانت قضية العبودية التي تُعدُّ أكبر عار تاريخي للولايات المتحدة، هي نقطة الانطلاق. ومن هذا الإرث الفظيع، نبعت وحشية الشرطة الآن ضد السود.
وكما هو الحال الآن، ظلت هناك طوال الوقت تفاوتات اقتصادية عميقة بين البيض والسود ونقاشات واسعة في المجتمع حول الحقوق الفردية والمصلحة العامة ورؤى مختلفة حول الحياة الأميركية ومعايير وقواعد متباينة حول المفاهيم والحقائق التي تكون دائماً سبباً خطيراً للشقاق والاختلاف، بحسب ما يقول جون بيك، أستاذ التاريخ الأميركي في جامعة ويسترن نيو إنغلاند.
لا جديد تحت الشمس
في المقابل، تكمن الأزمة الحقيقية بالنسبة إلى فريدريك غودينغ، المتخصّص في دراسات الأميركيين الأفارقة في جامعة تكساس كريستيان، في أن السياسيين وقادة المجتمع يتحدثون عن المشكلات المتعلّقة بالعرق أحياناً ويتجاهلونها في بعض الأوقات، لكن ذلك في الحقيقة لا يحلّ المشكلات.
ويرى غودينغ أوجه تشابه بين واقع اليوم وفترة إعادة الإعمار التي تلت الحرب الأهلية الأميركية مباشرة، عندما واجه الأميركيون الأفارقة الذين خرجوا لتوّهم من حرب أهلية طاحنة، اعتقدوا أنها حرّرتهم من العبودية وأعادت تشكيل المجتمع، ليصطدموا بواقع الحياة في الولايات المتحدة بعد الحرب، فظلوا يسيرون في الشوارع وهم في حالة رعب نفسية.
ويعتبر غودينغ أن البنية الأساسية للمجتمع الأميركي والطريقة التي يتصرف بها لم تتغير، وما يجري الآن في أنحاء المدن الأميركية كافة ليس سوى تكرار لدورة سابقة، فهناك غضب يتصاعد وتفهم يتجدّد لتصحيح الوضع، لكن سرعان ما تلبث الأمور أن تعود إلى ما كانت عليه مرة أخرى، فلا جديد تحت الشمس.