كان للمفكرة هانا آرندت أستاذان كبيران تعتز بتعليمهما لها خلال دراساتها الجامعية وبعد ذلك أيضاً: أولهما كارل ياسبرز الذي كانت تحمل له احتراماً لا ينضب وصداقة حافظا عليها حتى النهاية. والثاني مارتن هايدغر الذي، على رغم علاقة غرامية مدهشة قامت بينهما، لم تتوان عن إبداء كل الاحتقار له إلى درجة أنها كتبت عنه مقالاً تصفه فيه بـ"الثعلب". والسبب هو انتماؤه إلى النازية حين استولت على السلطة وعينته رئيساً لجامعة. بالنسبة إلى آرندت لا يمكن لمفكر حقيقيّ أن يكون نازياً.
كان ياسبرز وهايدغر ألمانيين واعتبرتهما آرندت أعظم وجوه الفكر الوجودي في بلدهما، لكن هذا لم يجعلها تغفر لعشيقها السابق موقفه النازي، فيما أثنت على ياسبرز لجرأته وصوابيته في الوقوف ضد الفكر النازي. وهي ثمّنت عالياً كتابه "الذنب الألماني" الذي أصدره بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ليرسم فيه جردة للخطايا الألمانية. وتكتب هي لاحقاً انطلاقاً منه عدداً لا بأس به من نصوص قدمتها يوماً لياسبرز في احتفال تكريمي عبرت فيه عن بالغ تقديرها لهذا المفكر الألماني الاستثنائي.
إعادة الاعتبار إلى العقل الألماني
طبعاً لا يمكن اعتبار "الذنب الألماني" واحداً من أهم كتب ياسبرز وإن كان له تأثير كبير حين صدر، وأسهم في إعادة الاعتبار إلى العقل الألماني بعدما مرّغته النازية في وحول جرائمها. وياسبرز إنما أصدر هذا الكتاب على عجل بعد انقضاء الحرب مباشرة معالجاً فيه ما اعتبره "الوضع الروحي" لألمانيا بعد انهيار النازية، مركزاً على مفهومين أساسيين لم يكونا على أية حال جديدين على اهتماماته: الذنب والمسؤولية.
في تحليله للحالة الألمانية ميّز ياسبرز بين أربعة أنواع مما سماه "الذنب": فهناك بالنسبة إليه أولاً الذنب الجرمي ثم الذنب السياسي فالذنب الأخلاقي وأخيراً الذنب الميتافيزيقي. وهو يرى أن الذنب الجرمي لن يكون إلا من شأن المحاكم والقضاء باعتبار أنه يتعلق بالجرائم التي يجب أن ينظر القضاء فيها ويصدر أحكامه على كل من اقترف جريمة معينة. أما بالنسبة إلى الذنب السياسي، فإنه يتعلق بـ"المسؤولية" التي يجب أن يتحملها كل مواطن من مواطني الدولة، تجاه كل فعل تمارسه هذه الدولة، ما يعني بالتالي أن كل مواطن ألماني يجب أن يُعتبر مذنباً بقدر معين بالنسبة إلى كل ما اقترفه النازيون. ولا يتوانى ياسبرز عن الإعلان هنا بأن هذا القدر من المسؤولية الملقاة على عاتق كل مواطن إنما يحدده منطقياً الطرف المنتصر، أي الحلفاء في الحالة التي يتناولها هنا. بيد أن ياسبرز ينبه هنا إلى أن تحديد قدر المسؤولية ومستوى العقاب الذي يواجهها يجب ألا يخضع لمنطق القوة والسلطة العسكرية وإنما لمنطق القانون أي الحق.
ومن هنا ينتقل ياسبرز إلى الذنب الثالث أي الذنب الأخلاقي ليقول لنا أن هذا الذنب لا يرتبط إلا بوعي – وربما تحديداً بضمير – كل فرد على حدة. وهو يرتبط بالتالي مباشرة بـ"مفهوم" الحرية: فبحرية تامة يجدر بكل فرد أن يعتبر نفسه مسؤولاً عن أفعاله وعليه أن يتحمل مسؤوليته الخاصة، والفردية حتى، تجاهها من دون إكراه أو أي سند قانوني. العامل الأساسي هنا هو وازع الضمير. أما تعبير "الأوامر هي الأوامر" التي اختبأ كثر وراءه للتخلص على الأقل من الإحساس بالذنب، فلا معنى له بالنسبة إليه على الإطلاق، بالتالي لا يمكنه أن يشكلّ عذراً للوصول إلى "راحة الضمير". وأخيراً فإن الذنب الميتافيزيقي يتعلق بالمسؤولية المشتركة التي ينبغي أن يحسها كل فرد تجاه الأفراد الآخرين. وهو يكون حاضراً ومعذّباً لصاحبه منذ اللحظة التي يسكت فيها هذا الأخير أمام مشهد الظلم، ولا يعتبر نفسه معنيّاً بآلام الآخرين. ويرى ياسبرز أن حساب هذا الذنب سيكون عند المثول أمام الله.
الذين بارحوا برجهم العاجي
والحقيقية أن تدخّل ياسبرز المباشر في السياسة على هذا النحو يعطينا مثالاً إيجابياً عن أن القرن العشرين لم يخل من فلاسفة خرجوا من أبراجهم العاجية للاهتمام بالشؤون العامة، من دون أن يتحولوا مع ذلك إلى أيديولوجيين أو سياسيين أو رجال أحزاب. غير أن الصادقين منهم في انكبابهم على الفلسفة وحدها، ووضعها، فكرياً وعملياً، في خدمة الحياة العامة للبشر، كانوا قلة، وكان ياسبرز واحداً من هذه القلة بالتأكيد، لا سيما اعتباراً من 1945، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية باندحار النازية التي كان ياسبرز واحداً من الذين بكروا في التنديد بعنفها وبطابعها الشمولي.
منذ 1945، واصل كارل ياسبرز تأمله في التاريخ، ولكن من موقع التماس مع الواقع الملموس. وهذا ما يتجلى خاصة في "الذنب الألماني"، ولكن أيضاً في "أصل التاريخ ومعناه" (1950)، و"القنبلة الذرية ومستقبل الانسانية" (1958)، و"الحرية وإعادة التوحيد" (1960). لقد كان تدخل الفيلسوف في كتبه هذه تدخلاً سياسياً مباشراً أخذه عليه معاصروه من الذين يريدون للفلسفة أن تظل منزهة عن "الصغائر". وهو مأخذ كانت آرندت، من أبرز الذين ردوا عليه حيث نجدها تكتب: "إن تجاوب ياسبرز مع الحياة العامة يبدو لي فريداً من نوعه، لأنه يأتي من فيلسوف، ولأنه ينبع، حقاً، من صلب قناعته الفلسفية العميقة: إن القاسم المشترك بين الفلسفة والسياسة هو اهتمامهما بالعالم كله، وهذا هو السبب الذي يجعل الفلسفة على علاقة بالحياة العامة، حيث لا يكون ثمة مكان إلا للشخص وقدرته على البرهنة عن ذاته. إن الفيلسوف - على خلاف العالم - يشبه رجل السياسة في كونه مرغماً على أن يوضح، شخصياً، ما لديه من آراء. ولكن في هذا المجال يبقى وضع رجل الدولة متميزاً، بالنظر إلى أن رجل الدولة لا يكون مسؤولاً إلا أمام شعبه، أما ياسبرز، وعلى الأقل في كل الكتابات التي وضعها بعد 1933، فتحدث كما لو أنه يدافع عن آرائه أمام الإنسانية بأسرها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لفلسفة توقظ البشر
والحال أن ياسبرز، المولود في 1883 في أولدنبورغ، كان منذ 1931، وفي كتابه "وضعية عصرنا الروحية" قد أعلن عن رغبته في إيقاظ معاصريه على حقائق الأخطار المحيطة بهم. فهو واحد من الفلاسفة الذين كانت النازية قد أيقظتهم من سبات العلم الطويل ونبهتهم فأرادوا أن ينبهوا، من دون أن يصغي إليهم أحد.
فكارل ياسبرز كان قد درس الطب ثم علم النفس قبل أن ينصرف إلى الفلسفة، لكن نزعته الفلسفية، في البداية، ظلت تأملية ترتبط بعلم النفس. غير أنه سرعان ما وجد نفسه غير قادر على الفصل بين الفلسفة والفكر السياسي، بتأثير من الظروف العالمية المستجدة. وهو، من دون أن يصل في طموحه إلى ما نادى به كارل ماركس من أن على الفلسفة أن تغير العالم، بعد أن فسرته طويلاً، وجد أن الفلسفة بإمكانها على الأقل أن تنشر الوعي لدى تلك النخب التي كانت تغوص في الوحل حتى الأعناق.
واحدة من سادة الوعي الألماني الجديد
على رغم تنبيهه المبكر أحس ياسبرز أنه، مثل غيره من الألمان، مسؤول عما حدث وأن النازية وهتلرها لم يأتيا من فراغ، وهذا ما جعله يمضي الجزء الأكبر من سنوات عمره الأخيرة، وحتى رحيله عام 1969 في مدينة بال، محاولاً أن يغوص في مسببات تلك "الخطيئة الألمانية"، وهو غوص أكسبه احتراماً كبيراً حتى لدى خصومه الفكريين، من أمثال الماركسي المجدد يورغان هابرماس، الذي خصه بثلاث دراسات شهيرة قال في واحدة منها إن "ياسبرز فهم في حينه أنه، من دون وعي المسؤولية السياسية، لن يكون من الممكن إحداث أي قطع مع التقاليد القاتلة لدولة نظمت معسكرات التجميع، ومع مجتمع كان فيه قتل الأقليات التي حددت هويتها بشكل تعسفي، أمراً ممكناً".
إزاء هذا كله كان من الطبيعي لكارل ياسبرز أن يعتبر ابناً شرعياً للوعي الألماني الجديد، الوعي النابع من الخطيئة الألمانية، والراغب في تجاوز تلك الوضعية للوصول إلى تكوين إنسان ألماني منزه عن الخطيئة واع لها ومدين لها أيضاً. إزاء هذا هل يبدو من المهم حقاً أن يكون ياسبرز "وجودياً" في نظر سارتر، وفيلسوفاً يعتبر "الفشل هو الحد الضروري لكل مشروع إنساني" كما يقول الشخصاني إيمانويل مونييه.