لعل واحدة من الصور السينمائية الأشهر التي ترمز إلى هوليوود في عصرها الذهبي، تلك التي لا يخلو منها كتاب عن تاريخ السينما الأميركية. الصورة المأخوذة من فيلم للمخرج أوتو بريمنغر، وفيها يقف بطل الفيلم متأملاً لوحة معلقة على الجدار وقد بدا يغوص هياماً في صاحبة الصورة رغم علمه أنه هنا إنما لكي يحقق في.... مقتلها. بالنسبة إليه، كما بالنسبة إلى متفرجي الفيلم، كانت تلك اللوحة هي كل ما بقي من تلك المرأة الرائعة الحسن التي أجاد الرسام ليس فقط التقاط ملامحها وجمالها، بل أكثر من هذا التقاط نظرتها المليئة بالوعود.
وعود غامضة
الحقيقة أن حكاية الفيلم سوف تأتي لاحقاً لكي تضعنا في صلب تلك الوعود التي ستبقى غامضة حتى لحظات الفيلم الأخيرة. صحيح أننا لسنا هنا أمام واحد من الأفلام الهوليوودية الكبيرة، لكننا بالتأكيد أمام واحد من أبرز أفلام ذلك النوع السينمائي الذي يسمّى بكل اللغات المعنية بالسينما "film noir" اقتباساً من اسمه الفرنسي الذي طغى عليه، وهو فيما وراء معناه الحرفي "فيلم أسود"، يعني مزيجاً من سينما الجريمة، والعصابات والألغاز البوليسية. "لاورا" هو واحد من أبرز أفلام النوع في السينما الأميركية على مدى تاريخها، لكنه أكثر من هذا فيلم لا يضاهيه أي عمل آخر في احتفاله بامرأة.
لكن قبل هذا لا بد من تكرار أن "لاورا" لا يمكن اعتباره تحفة سينمائية كبيرة، حتى وإن صُنّف من قبل مكتبة الكونغرس بوصفه "فيلماً ذا دلالة ثقافية، وتاريخية، وجمالية"، أو عدّه الناقد الكبير الراحل روجر أيبرت واحداً من أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما الأميركية. فهو في نهاية الأمر فيلم يستمد قوّته من أمرين بارزين فيه ومهيمنين عليه، أولهما كونه واحداً من الأفلام الأكثر غموضاً، وهو ما يشير إليه ايبرت تحديداً، وثانيهما وهو الأهم بالنسبة إلى موضوعنا هنا، كونه فيلماً عن امرأة.... فيلم تحضر فيه هذه المرأة عبر غيابها، من خلال الآخرين هي التي دائماً ما قيل عنها إنها "تمثل قبل أي شيء آخر متعة بصرية". ويتحدث الفيلم بالتحديد عن التحقيق الذي يدور لجلاء غموض "مقتل واحدة من كبار مديري شركات الدعاية في نيويورك، لاورا هنت" داخل شقتها الفخمة، وهو تحقيق يقوم به التحري مارك ماكفرسون، ويبدأ من طرح أسئلة على صحافي ذي كاريزما ارتبط بصداقة مع لاورا، ومن بعده مع الألعبان شلبي كاربنتر خطيب لاورا وصديق خالتها سيدة المجتمع الثرية آن تيدويل، وصولاً إلى مدبرة بيت لاورا الوفية بيسي كلاري. ولا تقود تحقيقات المحقق إلى أي استنتاج سوى رسم بروتريه مدهش لـ"القتيلة" حتى الليلة التي يشعر فيها مارك بالإنهاك فيغفو في شقة لاورا ليستيقظ بعد قليل، ويفاجأ بوجود امرأة في الشقة ثم يُذهل بأن المرأة ليست سوى... لاورا نفسها.
العجوز الراحلة
إذاً لاورا هنا هي بالتأكيد جين تيرني التي ولدت قبل مئة عام من اليوم بالتمام والكمال، عام 1920، التي منذ ذلك الفيلم وبفضل عدد من أفلام أخرى، هام بها الملايين، لكن رغم ذلك الهيام الذي ربما انطلق تحديداً من صورتها في "لاورا" فإن كثراً لم يتنبهوا، أو لم يريدوا أن يتنبهوا إلى أنها حين رحلت عن عالمنا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1991 كانت في الحادية والسبعين من عمرها، نصف مجنونة/ نصف عجوز، إلى درجة أن ما من أحد كان بإمكانه أن يخمّن بأن تلك الراحلة في زمن خبا فيه بريق النجوم، كانت طوال سنوات الأربعين، والخمسين تعتبر أجمل امرأة في العالم، حتى وإن كان من الصعب إدراجها في خانة أفضل الممثلات اللواتي عرفتهن هوليوود. كان الغالب على جين تيرني جمالها وبخاصة نظرتها، ثم إلى حد ما جنونها، جنونها الخلاق الذي كان يعتبر مثلاً يحتذى في عالم هوليوود الحافل بالجنون.
كانت جين تيرني جميلة بل فاتنة، إلى درجة أن فيلم "لاورا" 1944 الذي سيظل على الإطلاق أفضل وأشهر فيلم مثلته، خلال سنوات عملها القصيرة، اشتهر بكونه أول فيلم في تاريخ السينما يمضي فيه أبطاله النصف ساعة الأولى منه وهم يتكلمون عن جمال البطلة قبل "ظهورها" ربما عائدة من العالم الآخر، ومن هنا اعتبر فيلم أوتو برينغر ذاك نُصباً أقيم لجمال جين تيرني الاستثنائي. غير أنه سيكون من الظلم اقتصار حديثنا عن الفيلم نفسه على هذه السطور. فالفيلم له كيانه وعالمه أيضاً.
دمار على الطريقة الهوليوودية
مع هذا فإن السيدة نفسها ما كانت أبداً لترضى عن ذلك المصير الذي يجعل شهرتها ومكانتها وقفاً على جمالها، وليس على قدراتها التعبيرية وإمكاناتها الفنية. فهي، على الأقل، كانت تعتبر نفسها فنانة قديرة، إذ إنها بدأت حياتها على خشبة المسرح تقوم بأدوار شكسبيرية وبأدوار طليعية إلى جانب عملها "مانيكان" بين الحين والآخر "في انتظار أن تأتي الأدوار السينمائية الكبيرة" كما كان يحلو لها أن تقول.
لقد أتتها الأدوار بالفعل حيث إن أول من التفت إليها كممثلة كان فريتز لانغ ذلك الألماني الكبير القادم لتوه من أوروبا، ليجدها تمثل، في أميركا نوعاً خاصاً من الجمال الأوروبي المميز، وهكذا أعطاها أول دور كبير لها في فيلم "عودة فرانك جيمس" 1940، إلى جانب هنري فوندا. غير أنها لم تجتز الامتحان بنجاح، بل تبدت شكلاً من غير مضمون. وعلى ذلك النحو راح يتكرر استخدامها في أفلام رعاة البقر، وفي الأفلام الغرائبية حتى قُيـض لها من يكتشف مواهبها الكوميدية في شخصي المخرجين روبين ماموليان، وإرنست لوبتيش الذي اختارها لبطولة فيلمه الكبير "بإمكان السماء أن تنتظر" 1943 فكانت انطلاقتها الحقيقية التي أوصلتها إلى "لاورا" الذي جعل منها نجمة كبيرة تعطى أدواراً أكثر تركيبية، وأكثر تعقيداً، أدوار نساء يخفين خلف قناع الجمال الظاهرة عقداً نفسية وتوجهات شريرة (كما في "دعها للسماء"، و"حد الشفرة")، والحال أنه إذا كانت جين تيرني قد أدت بنجاح مثل تلك الأدوار، فما هذا إلا لأنها هي نفسها كانت تشبه أدوارها، إذ خلف قناع الجمال الغامض الساحر الذي سام ملامحها كانت تخفي روحاً عاطفية قلقة، روحاً أربكت حياتها، وجعلتها منذ ذلك الحين تمارس نوعاً من التدمير الذاتي البطيء. ويبدو أن الحظ السيىء الذي ارتبط دائماً بمصائر الشخصيات التي لعبتها، انتهى بها الأمر إلى مسها، حيث نراها، في العام 1955، تصاب بانهيار نفسي حاد قاد أقاربها إلى وضـعها في مأوى للأمراض العقلية طوال ثلاث سنوات كاملة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نهاية مبكرة
من نافل القول أن ذلك الحادث أتى ليدمر مسارها السينمائي، إذ إنها، بعد خروجها من المأوى لم تمثل إلا في ثلاثة أفلام ثانوية الأهمية، لم تترك أدوارها فيها أي أثر على المعجبين الذين ظلوا مع ذلك يحنون إلى جمالها وحضورها الطاغيين. أما هي، فإنها بعد التجارب الفاشلة الثلاث التي تلت الانهيار الذي أصابها، فهمت الدرس جيداً، وأدركت أن علاقتها مع هوليوود إنما كانت، في نهاية الأمر، علاقة مجازية تقود إلى التدمير الذاتي.
على ذلك النحو، ابتعدت من تلقاء ذاتها عن السينما في 1960، مكتفية بأن ترى الناس تكتشف أفلامها القديمة على شاشة التلفزة، وبأن تشاهد من الحين إلى الآخر فيلمها الأكبر "لاورا" فتدرك كم أن الحياة الفنية الهوليوودية حياة عابرة، مصنوعة من الأقنعة، ومن الصور التي يصر الآخرون على صنعها، فإذا بها مع الوقت تتراكم بحيث تصبح هي الصورة الحقيقية، الصورة التي لا مفر منها. وهنا ما قالته جين تيرني في واحد من آخر الأحاديث الصحافية التي أدلت بها قبل موتها من أنها آسفة لأنها مثلت في السينما "فالسينما لفرط قسوتها، أو فرط حقيقتها، كشفت لي أن القناع الذي يخفي حقائقنا، هو نفسه الأداة التي تكشفنا أمام ذواتنا. وأنا ابتدأت مأساتي منذ انكشفت أمام ذاتي...".