ما برح الفلاسفة، على وصف كارل ماركس، يفسّرون العالم بدلاً من تغييره. فماذا تراهم فاعلين، وغيرهم من مواطنيهم، باتوا عرضة للموت بسبب جائحة كتلك التي لا تزال تحصد آلاف الأرواح من حول العالم، هازئة بالحدود، وضاربة عرض الحائط بكلّ التوازنات والمصالح التي راكمتها الأنظمة الرأسمالية والتوتاليتارية وغيرها؟ وماذا لو لم يكونوا سوى مفكّرين وشعراء وفنّانين وكتّابا ومنظّري جماليات، وعلماء تاريخ ومجرّد بشر ذوي نيات حسنة وقدرة على التفكير السويّ في مسألة مصيرية كتلك التي يجري معالجتها وصدّها، وإن بأثمان من الأرواح والثروات باهظة للغاية؟ أو ليس مفيداً لو أن تفسير جائحة كورونا يصدر عن أشخاص متعددي الميادين، أو متداخلي الميادين كما كان الفيلسوف الفرنسي ميشال سيرّيس يقول في جوابه عن سؤال حول أي المناهج أصوب لتفسير العالم وظواهره. ذلك أن الجائحة ككل ظاهرة بشرية وطبيعية متعددة الأبعاد والعوامل.
الشاعر والكاتب السوري نوري الجرّاح، كان أحد المبادرين، حيث هو، في لندن، مسؤولاً عن مجلة "الجديد"، إلى استصراح ثمانية عشر مثقّفاً، من الكتّاب والفنّانين والشعراء والمفكّرين العرب، حول هذه الجائحة، فنتج من ذلك أول كتاب عن الجائحة، باللغة العربية، متزامناً مع توالي فصولها بعنوان: "أجراس الوباء، الأناركية الاصطناعية وإعادة تكوين العالم" (دار المتوسّط).علما أن الجرّاح كان يطمح، في بداية نقاشه، إلى جمع أكبر عدد من الكتّاب الأوروبيين والأجانب إلى جانب الكتّاب العرب، ممن كانوا مشاركين في كتابة المقالات بمجلة "الجديد"، حرصاً منه على توسيع النقاش حول الأبعاد الأخلاقية والأممية لهذه الجائحة، وحول كيفية مواجهة هرطقات السياسيين المغامرين عبر قراراتهم التي تنمّ عن ضيق أفق وحرص على المصالح الرأسمالية، من دون غيرها. إلا أن الظروف، على ما قال الجراح في الاستهلال، حالت دون اشتراك العدد الأكبر من الأوروبيين، وبقي تركي واحد وإيطالي واحد هو الشاعر والأكاديمي الإيطالي إيمانويل بوتاتسي غريفوني، والذي ورد بحثه، مترجماً إلى العربية في آخر الكتاب.
صلاحية الفكر
تشكّل المقالة الافتتاحية للجرّاح، صاحب المبادرة، وهي بعنوان "أبناء نوح وطوفان الوباء" نوعاً من نقطة تقاطع بين جميع المقالات، لكونها فتحت النقاش حول صلاحية الفكر الفلسفي الغربي، حين سأل "هل أفلس الفكر الأوروبي، بإزاء جائحة تهدد الوجود البشري أو تكاد"؟ فيجيب، بأن الفكر هذا أصيب بحيرة كبرى، أفقدته تركيزه؛ فرأينا، بحسبه، ميشال أونفري وتشومسكي وسلافوي جيجك ويورغن هابرماس وكيسينجر(إن اعتبر مفكراً) يكتفون بانتقاد الآليات الناقصة وغير الكفوءة التي تلقّف بها العالم الغربي الجائحة، من دون أن تكون لديهم الجرأة في طرح إشكالية أنظمة التمييز الطبقية والعنصرية الاقتصادية وغيرها. أما المعادلة التي تستوجب النظر فيها، برأي الجرّاح، فهي المعادلة الإنسانية أو الأممية الجديدة.
الناقد فخري صالح في مقالة له بعنوان "العالم على أبواب قطيعة تاريخية"، يشير إلى انهيار الأنظمة الصحية في العالم المتقدّم، ويوافق رأي الفيلسوف الإيطالي جيورجيو أغامني في أن المجتمع الاوروبي سرعان ما فضّل الحياة البيولوجية الفتية، على حياة العجزة مما فوق السبعين. وإذ يشكك في إيجاد المخارج الإنسانية لهذه الجائحة، يعتبر أن العبث بالطبيعة وبتوازناتها هو الذي أدّى إلى تفلّت الأوبئة، والوباء الأخير.في حين ينسب المفكر خلدون الشمعة، وهو كاتب سوري، بمقالة بعنوان "احتضار العولمة بين جائحتين"، هذه الجائحة وتعاظم ضررها إلى فساد أخلاقي عمّ البشرية بفعل انحلال القيَم الذي تشجعه الليبرالية الجشعة، وفساد الأنظمة الذي تتغاضى عنه، مثلما تغاضت عن تهجير الملايين من الشعب السوري بعاملي القهر والاستبداد.
أما المفكر أحمد برقاوي فقد كتب تحت عنوان "يقظة الضمير" بما معناه أن أوروبا أدركت، بسبب الجائحة، أنها بطلت أن تكون مركز الكون، ومثلها الولايات المتحدة الأميركية، وأنّ السلطات فيهما أغفلت مكانة الإنسان واعتباره، وأنه بات لزاماً إحداث القطيعة مع الفكر اللاهوتي والمتعمم.وبدوره اتّهم أبو بكر العيادي، في مقالته بعنوان "نحو أممية فكرية أخلاقية"، النيوليبرالية بأنها استباحت كل الموارد، وبأن الاحتباس الحراري يمكن أن يقضي على نصف البشرية لما يمكن أن يسببه من إطلاق الفيروسات وتعديل ظروف العيش في الكرة الأرضية.
ديستوبيا كورونية
في حين نبّهت الكاتبة العراقية لطفية الدليمي، في مقالتها "إعادة تشكيل العالم: معالم من عصر ما بعد الديستوبيا الكورونية"، إلى أن العالم كان على وشك الدخول إلى مرحلة قيامية رؤيوية منذرة بفناء البشرية. ولكنّ العقل العلمي يستدرك، كما ترى، ويدلل على وجود مخارج للبشرية من انسداد الأفق هذا، تتمثّل في قدرات الانسان الثلاث: الشمس، والجينوم، والإنترنت. من دون أن ننسى إعادة هيكلة التعليم، والرأسمالية التشاركية.وبينما ركّز إبراهيم الجبين على لزوم تحرر الإنسان المعاصر من مخاوفه القديمة، قدمَ الكهوف الأولى، وينسب هذه المخاوف إلى تصاعد اليمين المتطرف، ودعوة المثقف الإجرائي إلى ترتيب أولوياته، تنسب الكاتبة ناديا هناوي الاعتلال العالمي إلى التقهقر الإنساني في الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية، وأنه من العبث رد الجائحة من دون استنهاض الأخلاق.وفي مقال له خلص محمد آيت ميهوب، بعنوان "لهم عولمتهم ولنا عولمتنا"، إلى أن الجائحة كشفت عن عمق الأزمة الاقتصادية في الدول الأوروبية، وضاعفت من مخاطر صعود التطرّف اليميني، ودلّت على وجوب إحياء الفلسفة وإعطائها دوراً في صوغ العولمة الإيجابية والإنسانية بديلاً عن الرأسمالية المتوحّشة.واعتبر مفيد نجم بدوره أن الجائحة بيّنت مقدار إهمال الأنظمة المتقدّمة للإنسان، وبقاء الأنظمة القديمة الشرقية على طغيانها، وبائها العتيق. أما نهلة راحيل فدعت إلى إحياء السرديات الصغرى، في مقابل السرديات الكبرى السائدة، بما يعني أن يصير للخطاب الإنسانوي (وهو من السرديات الصغرى) مكانته الوازنة بين القوانين والأنظمة السائدة في العالم، وهي من السرديات الكبرى.
ولو عددنا مجمل الأفكار الكبرى التي ركّز عليها كل من الكتّاب والباحثين الآتين :يوسف وقّاص ومحمد صابر عبيد وممدوح فرّاج النابي وهيثم حسين وحميد زناز وفارس الذهبي ومخلص الصغير وحاتم الصّكر وأرزاج عمر،) لتبيّن لنا أن التركيز يتمّ على إعادة الاعتبار إلى العقل في مقابل تغوّل الرأسمالية، والتنبيه من مخاطر انتهازية الأنظمة، وإحياء العولمة الإنسانية، ومضاعفة الوعي الإيكولوجي، ولزوم تجاوز الديستوبيا الناجمة عن الجائحة، وإدخال الفنون عنصراً أساسياً في الردّ على التسلّع، وغيرها من الأفكار التي يحفل بها الكتاب وتستدعي إحاطة أكبر مما تتيحه المقالة التعريفية هذه.أما وقد أشرتُ لمحاً إلى مضامين المقالات، يتعيّن عليّ الإشارة إلى مقالة بحثية للكاتب التركي بلال سامبور، ترجمة عماد الأحمد، والبحثين المستفيضين لكل من الشاعرو الأكاديمي الإيطالي إيمانويل بوتاتّسي غريفوني، ترجمة يوسف وقّاص، في استغراق في تحليل الجائحة، بالعودة إلى أبعاد أسطورة كلب الحراسة السومرية وصلتها بالواقع الوبائي ومسألة تجنّب الأسوأ، ودراسة عبد الرحمن بسيسو بعنوان "إعادة تكوين العالم - إبدال نظام التحريم الكلّي بالحرّية".
وفي الختام، لا بدّ من التنويه بالجهود الفكرية الكبيرة التي قام بها الشاعر نوري الجرّاح، في جمعه هذا العدد من المفكرين والأكاديميين والشعراء وكتّاب القصّة العرب والأجانب، أولاً في بوتقة مجلة الجديد، وثانياً في النّظر بمسألة مصيرية هزّت أركان الفكر في العالم أجمع، وتوجّب على العرب أن يسائلوها ويبحثوا فيها، ويطرحوا الأجوبة الكفيلة بفتح الآفاق أمام الأجيال. ولكن، يلزم أولاً قراءة ما كتب في الكتاب وأخذ العبَر الكثيرة منه.