كان الرئيس رجب طيب أردوغان يفاخر بأن تركيا "أكثر بلد شرقي في الغرب وأكثر بلد غربي في الشرق". وكان في الشرق والغرب رهان على ما سُمي "النموذج التركي" الناجح كمثال للاقتداء به في المنطقة المتخلفة اقتصادياً والمهدّدة بتيار الإسلام السياسي المتشدد بعد انحسار التيارات الوطنية والتيارات الليبرالية: نموذج حزب "التنمية والعدالة" الإسلامي الذي يشرف على نهضة اقتصادية ويدير الدولة في نظام علماني أسّسه مصطفى كمال أتاتورك بعد سقوط السلطنة وإلغاء الخلافة. وما قاله معلم أردوغان ورفاقه نجم الدين أربكان، مؤسس حزب الإسلام السياسي في تركيا بأسماء "الخلاص" و"الرفاه"، من أن "الأحزاب لديها أعضاء ونحن لدينا مؤمنون"، هو ما تجاوزه تلاميذه بتأسيس حزب قادر على جذب أوسع مروحة من الطبقات الفقيرة والوسطى ورجال الأعمال.
لكن أردوغان الذي قال إن "الديمقراطية مثل القطار تنزل منه حين تصل إلى محطتك"، اصطدم برفاقه ونزل من القطار. أبعد شريكه في تأليف الحزب عبد الله غول الذي يعترف بأن "الإسلام السياسي في تركيا والعالم أفلس".
اختلف مع علي باباجان الذي صنع النهضة الاقتصادية، فترك الحزب ليؤسس حزب "الديمقراطية والتقدم" من أجل مواكبة متغيرات العصر والأجيال الجديدة. واختلف مع أحمد داوود أوغلو، صاحب سياسة "صفر مشاكل"، الذي أسّس حزب "المستقبل"، فسخر منه أردوغان بالقول إنه من أصول بيزنطية لأنه من البحر الأسود. لا بل إن أردوغان نزل من قطار الزمن واستعار ثياب السلطان محمد الفاتح في محاولة لاستعادة الماضي بدل الاستعداد للمستقبل. محمد الفاتح احتل القسطنطينية عام 1453 وحوّل كاتدرائية آجيا صوفيا التي يسميها الأتراك آيا صوفيا إلى مسجد. أتاتورك قرّر عام 1935 تحويل آجيا صوفيا إلى متحف، صار من أهم مراكز الدراسة الهندسية والسياحة، بحيث يرتاده 3.7 ملايين زائر سنوياً. وأردوغان أعاد تحويل المتحف إلى جامع في القرن الـ21.
وليس ذلك لأن إسطنبول تحتاج إلى جامع. ففيها كما يقول وزير الثقافة على مدى خمس سنوات أرطغرل غوتاي "كثير من المساجد الكبيرة" ولا "ضرورة لتغيير واقع" آجيا صوفيا. أما الأسباب، فإن أهمها، كما نقلت "نيويورك تايمز" عن خبراء هو أن "أردوغان في أزمة سياسية ويسعى إلى شدّ عصب القاعدة الوطنية والدينية". وبينها أن إسطنبول التي خسرها حزب "العدالة والتنمية" في الانتخابات البلدية تشكّل "عقدة" للرجل الذي كان رئيساً لبلديتها في الماضي، فضلاً عن نزعة أردوغان لإخراج رفاقه في الداخل من الشراكة في المسؤولية وإحراج حلفائه وأصدقائه في الخارج. بوتين محرج وسط غضب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية. أوروبا الأطلسية محرجة. حتى ترمب، فإنه محرج مع أنه لم يدخل كنيسة في حياته إلّا إذا كانت هناك كاميرات تلفزيونية، ومع أن أميركا دخلت "مرحلة ما بعد المسيحية"، بحسب بات بيوكانن، المحافظ المتشدّد.
وهذا مجرد رمز لسياسة العودة إلى الفتوحات والتدخل العسكري. حملة عسكرية في شمال العراق بحجة محاربة الإرهاب عبر "حزب العمال الكردستاني". احتلال عسكري لشمال سوريا. انخراط مباشر وغير مباشر في حرب ليبيا. والعنوان هو "تصحيح" معاهدة سيفر التي سلخت تركيا عن فتوحات السلطنة والعودة إلى "الميثاق الملّي". وتحت العنوان شيء من الصراع على النفط والنفوذ في شرق المتوسط، وشيء من التنافس مع تركيا وإسرائيل في اللعبة الجيوسياسية على حساب العرب. لا بل إن أردوغان يطبّق نسخة خاصة من التخطيط الإيراني. طهران تركز في الداخل على الحرس الثوري (الباسدران) ورديفه "الباسيج". وفي الخارج على ميليشيات أقوى من الجيوش: "حزب الله" في لبنان، "الحشد الشعبي" في العراق، "أنصار الله" في اليمن. وأردوغان يشكّل ميليشيا داخلية خاصة به تضم 300 ألف عضو باسم "حراس الأحياء". ويشكّل في سوريا ميليشيا من المرتزقة الإسلاميين، وفي اليمن يدعم ميليشيا لفرع "الإخوان المسلمين".
والهدف الأكبر هو استعادة الخلافة. أما اللعبة الدائرة، فإنها مشروع "الإخوان المسلمين" لحكم المنطقة بقيادة تركيا، في مواجهة مشروع ولاية الفقيه بقيادة إيران. وآجيا صوفيا المعدودة من تحف الزمان، مجرد بيدق في لعبة شطرنج.