على عكس ما كان يجري عادةً مع بداية كل فصل ربيع، يبدو أن تُركيا هي التي ستبادر إلى قتال مسلحي حزب العمال الكردستاني المتمركزين في معسكرات حصينة في المناطق الجبلية الحدودية بين تركيا والعراق، إذ أعلن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو بدء عملية عسكرية مشتركة مع إيران ضد المسلحين الأكراد في مناطق المثلث الحدودي للبلدين مع العراق.
وفي حين نفى مصدر من أركان الجيش الإيراني لوسائل إعلام محلية مشاركة بلاده في مثل تلك العملية، دلّت إشارات عدة على وجود تناغم بين المحورين الإقليميَين، التركي والإيراني، على مسار إحياء مواجهة حزب العمال الكردستاني أمنياً وعسكرياً وسياسياً.
وركّز اجتماع ثلاثي عُقد بين قادة أركان الدول الثلاث، إيران والعراق وسوريا، على مسألة مواجهة الحالة الكردية في مناطق شرق الفرات، حيث تسيطر "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) عسكرياً وسياسياً، وهي التي تربطها علاقات قوية ومتشعبة بحزب العمال الكردستاني.
وقال وزير الدفاع السوري علي أيوب إن "الورقة المتبقية مع القوات الأميركية هي قسد، وسنتعامل معهم إما بالمصالحات وإما بتحرير الأرض"، وهو ما اعتُبر الموقف الأكثر تصعيداً من قبل النظام السوري، الذي دخل في الأشهر الماضية في جولات تفاوض مع الجانب الكردي، لم تتوصل إلى أي نتيجة. وقال عضو مكتب الإعلام لمجلس سوريا الديموقراطية، المنسق الإعلامي في دول الخليج محمد هويدي عن تلك المفاوضات، إنها "رسائل غزل سياسية لتركيا لطمأنتها في مرحلةٍ تشعر بأنها الخاسرة مع انتهاء الأزمة السورية".
في الوقت ذاته، اندلعت مواجهة هي الأولى من نوعها بين قوات الجيش العراقي وفصيل "وحدات حماية شنكال" الكُردي، في منطقة سنونو غرب محافظة نينوى العراقية. يرتبط هذا الفصيل أيضاً بحزب العمال الكردستاني وكان على وئام مع الجيش العراقي وفصائل الحشد الشعبي، وأسهم بكثافة في عمليات تحرير مناطق سنجار ذات الغالبية اليزيدية من سيطرة "داعش"، وبات يتحكم في أجزاء واسعة من تلك المناطق، إلا أن الجيش العراقي قصفه غير مرة.
وشكّل هذا التناغم الإقليمي دلالة واضحة على أن تركيا مُقدِمة على تصعيد ضد حزب العمال الكردستاني على حدودها، وأنها تتلقى إشارات إقليمية إلى أن دول المحور الإيراني تستجيب قلقها الاستراتيجي من المسلحين الأكراد، وأن هذا المحور سيساند تركيا إذا صعّدت في هذا الاتجاه.
"دورات المواجهة"
منذ أوائل التسعينيات، يجري ما يشبه "دورة حياة سنوية" للمواجهة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، تفرضها الظروف المناخية، فالمقاتلون الأكراد كانوا يبدأون بشن عملياتهم العسكرية مع بداية فصل الربيع، بعد أشهر الشتاء الطويلة، التي كانت تُجبرهم على المكوث في مقارّهم ومواقعهم الجبلية.
وكانت تلك الهجمات الربيعية تدفع الجيش التركي إلى اطلاق حملات عسكرية واسعة في المناطق الجبلية، لكن من دون التوصل إلى أي نتيجة حاسمة ضد المسلحين الأكراد، الذين غالباً ما كانوا يشنّون هجمات داخل الأراضي التركية، لتشتيت تركيز حملات الجيش التركي ضدهم.
الساحة السورية
وطرأ تبدل جوهري خلال السنوات الخمس الأخيرة على نظام المواجهة التقليدي بين الطرفين، فحزب العمال الكردستاني صار يركز جهوده العسكرية والسياسية على الساحة الكردية-السورية، إذ كان يرى في التوافق مع النظام السوري فرصةً ذهبية ليشغل منطقة حكم ذاتي واسعة، تضم موارد وتتمتع بموقع جغرافي استثنائي، وذلك للمرة الأولى في تاريخ نشاطه المسلح، الذي امتد أكثر من أربعة عقود.
كذلك فإن "العمال الكردستاني" بات يرى في تلك الفرصة مناسبة لتغيير صورته وشكل علاقته مع القوى الدولية، التي كانت تصنّفه "تنظيماً إرهابياً"، وكان يعتقد بأن مساهمته في الحرب إلى جانب التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، ستغير موقعه وعلاقاته مع القوى الدولية، وتالياً شكل التوازن غير المتكافئ مع أنقرة.
إلا أن تركيا ركزت أيضاً خلال هذه الفترة على الساحة السورية، إذ رأت في الثورة السورية فرصةً استثنائية لتحويل سوريا إلى تابعة إقليمية لتوجهاتها، وتحديداً عبر القوى الإسلامية السورية المرتبطة بها. وفي مرحلة متقدمة، باتت تركيا تشعر بأن نفوذ القوى الكردية المتنامي في سوريا، وتحديداً تلك القريبة من حزب العمال الكردستاني، أصبحت تشكّل خطراً داهماً عليها، لأنها ستوفر للتيار الكردي المناهض لها تجربة حكمٍ وعلاقات إقليمية ودولية.
ومهّد هذا التركيز الثنائي من قِبل الطرفين على الساحة السورية، لمواجهات واسعة بينهما على الأراضي السورية، وتحديداً في منطقة عفرين الخاضعة لاحتلال تركي منذ أكثر من سنة.
عاملان جديدان
من جهة أخرى، قد يسهم عاملان حديثان في اندلاع مواجهة مسلحة بين تركيا وحزب العمال الكردستاني على الأراضي التركية، فحزب العدالة والتنمية التركي الحاكم يشعر أن شعبيته تتراجع، خصوصاً بعد الارتفاع الاستثنائي للتضخم في تركيا خلال الأشهر الستة الماضية، إذ يشكل العامل الأساسي لتراجع شعبية أي حزب حاكم في تركيا. هذا الظرف الاقتصادي الذي قد يؤدي إلى تراجع نسبة التأييد للحزب الحاكم في الانتخابات المحلية التي ستجري الأسبوع المقبل، قد يدفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى التصعيد ضد حزب العمال الكردستاني ليشدّ عصب القواعد الاجتماعية القومية التركية لمصلحته.
كما أن احتمال أن تذهب روسيا في اتجاه كسر التوافق الذي خطته مع تركيا بشأن منطقة إدلب وباقي المناطق السورية الخاضعة للسيطرة التركية شمال غربي سوريا، سيعتبر ضربةً للاستراتيجية التركية، وهزيمة كاملة لها في سوريا، لذلك يمكنها أن تتجه للتعويض عبر مباغتة المقاتلين الأكراد في معسكراتهم على الحدود التركية – العراقية - الإيرانية.