لبنان على مفترق طرق، بعدما تصوّر تحالف السلاح والسلطة أنه أخذه في طريق اللاعودة. وما كان في حسابات "محور الممانعة" لحظة الهيمنة الكاملة صار نقطة تحول. فلا لبنان الشعبيّ الذي يدفن شهداءه ويعالج جرحاه ويلملم آثار الدمار الهائل في بيروت المحترقة بالانفجار الرهيب في المرفأ، هو لبنان الرسمي المستسلم أو المتواطئ.
ولا الهزّة الأرضية المتوسطة على مقياس ريختر التي أحدثها انفجار نترات الأمونيوم في عنبر عام وخاص معاً، توقفت عند الجغرافيا بمقدار ما أدت إلى وقوع "هزّة جيوسياسية" في المواقف من اللعبة في لبنان والمنطقة.
قبل الكارثة كان أصدقاء لبنان في الغرب وأشقاؤه العرب، باستثناء قلة، قد نفضوا اليد من التركيبة الحاكمة المتحالفة مع حزب الله الذي يهاجمهم ويدعو إلى إخراج أميركا من "غرب آسيا" واقتنعوا بأنهم خسروا بلداً أحبوه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أميركا حافظت على دعم الجيش وسط انكفاء حلفائها وتعاملها مع مسؤولين يمارسون المثل الأميركي القائل "إقبل النصيحة واعمل عكسها". القلة مثل فرنسا، ظلّت تراهن على نوع من "الصحوة" أو "عودة الوعي" لدى المسؤولين أمام كوارث الأزمات النقدية والمالية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. أما الفاتيكان، فمن الطبيعي، وهو يعمل للبنان في الكواليس الدولية، الاعتصام بقوة الرجاء.
وكانت المحاولة الأخيرة لدفع المسؤولين إلى مساعدة أنفسهم ليساعدهم العالم، هي التي قام بها وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان خلال زيارته إلى بيروت ودعوته إلى الإصلاحات للحصول على المساعدات.
وهي انتهت طبعاً بالإصرار على الهرب من الإصلاحات، وبسخرية "الهواة" في الحكومة من أنفسهم ومن العقل، لا منه، بالقول إن "معلوماته ناقصة" وأنه كان يستطيع إبلاغنا بما قاله عبر اتصال هاتفي من دون زيارة.
بعد الكارثة، كان لا بد من تغيير الحسابات. أولاً في مواجهة الجحيم الذي أحرق بيروت. وثانياً في مواجهة "الجحيم السياسي" الذي هو كارثة مستمرة.
فالتعاطف الإنساني تبدّى في زحام المساعدات العربية والدولية بكل أنواعها. وجرى التعبير عنه باتصالات هاتفية وزيارات قليلة حاول المسؤولون الإيحاء بأنها فكّت العزلة والحصار عنهم.
في حين أن المواقف منهم لم تتبدل، وأن الكارثة أكملت الحصار الشعبي عليهم. وكان الحدث هو زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مفوّضاً من أميركا والاتحاد الأوروبي والعرب.
وبصرف النظر عما قاله الرجل وما فعله في بيروت وبعد العودة إلى باريس، فإن الترجمة العملية للزيارة تتجلّى في أمرين: أولهما ما طلب ماكرون من كل التركيبة السياسية فعله، والإصغاء إلى صوت الشعب في الشارع لإنقاذ لبنان من الانهيار. وثانيهما تبدل الحسابات الجيوسياسية لدى القوى الأساسية العربية والدولية.
ذلك أن الكل تخوّف من أن يقود الانهيار إلى وقوع لبنان نهائياً في يد إيران أو اندلاع حرب إسرائيلية - إيرانية بالواسطة على أرضه أو الاندفاع نحو شكل جديد من حرب أهلية والتحوّل إلى "صومال آخر". والذين مارسوا سياسة: دعِ اللبنانيين لقدرهم، ما دامت طهران خيار السلطة، والضعف والتخاذل خيار المعارضة، اكتشفوا أن هذه السياسة سترتدّ عليهم وتؤذي مصالحهم في النهاية.
والسيناريو الذي يبدو في الأفق هو إعادة لبنان بالفعل إلى "النأي بالنفس" وتأليف حكومة إنقاذ تباشر الإصلاحات والتفاوض مع صندوق النقد الدولي وتضمن "تسييل" "المبلغ المرصود في مؤتمر "سيدر" للاستثمار في لبنان.
وبعد معالجة الأمور الملحّة، يتمّ العمل على إصلاح سياسي جذري. وكل شيء بمواكبة عربية ودولية على الطريق إلى ترتيبات أوسع مقبلة في المنطقة.
ولا أحد يعرف إن كنا سنعرف بالوقائع والوثائق في التحقيق كيف حدث الانفجار، وهل هو بفعل فاعل أم أنه نتيجة الإهمال أو ما يسميه الصحافي الأميركي روبرت وورث "الاستخفاف المؤذي".
لكن المؤكّد أن الشارع سيستمر في التحرّك وصنع ما سماه عضو الكونغرس الأميركي الأسود الراحل جون لويس "الاضطراب الجيّد" من أجل تحقيق أهداف الثورة الشعبية. فهل انتهى الزمن الذي كان ينطبق فيه على لبنان قول سانتايانا "لا رياح ملائمة لمن ليس لهم اتجاه؟" هذا هو الامتحان لنا وللعالم.