غادرت الممثلة ثريا جبران عالمنا مساء أمس الاثنين تاركة وراءها صورة كبيرة لتلك المرأة التي أحبها المغاربة وقدَروها على نحو خاص. فهي كانت تقدم في أعمالها المسرحية المعروفة نماذج قريبة من حياة الناس ومن همومهم وانشغالاتهم، موجهة الكثير من النقد للحياة السياسية والاجتماعية في المغرب.
وضعت ثريا جبران قدميها على خشبة المسرح قبل أن تبلغ عامها العاشر. وحافظت منذ ذلك العهد على عشقها الطفولي لأبي الفنون. التحقت بمعهد المسرح الوطني أواخر الستينيات. وعاماً بعد عام، ونصاً بعد نص، صار لها صوتها المتفرد وأسلوبها الخاص الذي جعل منها أبرز اسم نسائي في تاريخ المسرح المغربي.
عاشت تجربة القرب من حياة المهمشين باكراً، فقد كانت تتردد على "الخيرية" في حي عين الشق بالدار البيضاء، المؤسسة التي ترعى الأطفال الفقراء واليتامى، حيث كانت تشتغل والدتها بعد رحيل والدها. هذه الحياة وما يشبهها من حيوات الفقر والبؤس والإقصاء والحرمان الاجتماعي أثرت فيها، فنقلتها معها إلى الخشبة. إذ كانت تقدم أدواراً تنتصر فيها للطبقات الفقيرة والمهمشة داخل مجتمع يعرف مفارقات اقتصادية وسوسيولوجية كبيرة، بحيث يمكن الوقوف على هذه المفارقات في مدينة الدار البيضاء التي ولدت فيها ثريا جبران وعاشت فيها أيضاً. إذ لا يفصل بين أحياء الفيلات الفاخرة وأحياء الصفيح الفقيرة جداً سوى شارع واحد.
اختارت ثريا جبران باكراً أن تنضم إلى صف الممانعة في الحياة السياسية بالمغرب، عبر انخراطها النشط في حزب الاتحاد الاشتراكي، الحزب الذي كان يجمع نخبة هائلة من المثقفين المغاربة على رأسهم المفكر الراحل محمد عابد الجابري. وهو الحزب الذي كان لكلمته، في نسخته القديمة طبعاً، وقع وصدى في الشارع العام وفي حياة الناس.
وبسبب انتمائها السياسي، وبسبب مواقفها التي كانت تصرفها داخل المسرح وخارجه تعرضت للمضايقات، وعاشت فترة طويلة تحت المراقبة الإستخباراتية، خصوصاً أنها عاشت في زمن صعب لم يكن النقد السياسي والاجتماعي متاحاً ومباحاً مقارنة بالحياة الراهنة. بل إنها تعرضت لاعتداء شنيع في تلك الفترة، فقد هاجمها مجهولون وقاموا بالاعتداء عليها وتقطيع شعرها حين كانت في طريقها لإجراء مقابلة تلفزيونية.
غير أن حياتها السياسية الموازية لحياتها الفنية قادتها إلى مقر الحكومة عام 2007 لتكون أول وزيرة في تاريخ المغرب تأتي من حقل الفن. ولكن لم تلبث ان غادرت مبنى وزارة الثقافة سريعاً معتذرة بسبب وضعها الصحي.
"مسرح الناس"
توهجت تجربة ثريا جبران مع الطيب الصديقي في "مسرح الناس"، فقدمت أدواراً لافتة في "أبو حيان التوحيدي" و"ديوان عبد الرحمان المجدوب". ثم أسست لاحقاً "مسرح الشعب"، و"مسرح الفرجة"، و"مسرح الفنانين المتحدين". ثم "مسرح اليوم"، وقدمت أعمالاً خالدة لجان جينيه وعبد اللطيف اللعبي وبرتولت بريخت وصنع الله إبراهيم ومحمد الماغوط، من قبيل: "بوغابة"، "النمرود في هوليود"، "حكايات بلا حدود"، "نركبو لهبال/ نركب الجنون"، "إمتى نبداو/ متى نبدأ"، "الشمس تحتضر"، "العيطة عليك"، "الجنرال"، "أربع ساعات في شاتيلا"، "طير الليل"، "امرأة غاضبة". ويبدو أن هذه هي الصفة "إمرأة غاضبة" كانت الأنسب لثريا جبران، المرأة التي غضبت على الوضع العام في البلاد، غضباً لم يكن عدمياً وسلبياً، بل كان من أجل أن تكون البلاد بلاداً أجمل في أفقها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وكانت تصر على أن تسمي نفسها "ابنة الشعب" هي التي لم تتخل يوماً عن ذكريات "الخيرية" والأطفال الفقراء والناس المهمشين.
وإذا كان المثل الشهير "وراء كل رجل عظيم امرأة" يضرب في سياقات عدة لبيان دور المرأة في نجاح الرجل، فإن الحق والحق يقال "وراء ثريا جبران عبد الواحد عوزري" الذي لا يمكن نسيان دوره في نجاحها المسرحي ودعمه المستمر لها في الحياة بوصفه مخرجاً لأعمالها المسرحية، وفي الآن ذاته زوجها ورفيق دربها.
فضلاً عن المسرح عشقها الأول، مثلت في عدد من الأفلام والمسلسلات. ومن بين أبرز الأعمال السينمائية التي شاركت فيها: "بامو"، "الناعورة"، "غراميات"، "قصر السوق"، عود الورد"، "شفاه الصمت"، "الفراشة السوداء"، "عطش". إضافة إلى مشاركتها في مسلسلات عربية مثل : "صقر قريش"، "ربيع قرطبة".
عرفت الحالة الصحية لثريا جبران تدهوراً كبيراً في الفترة الأخيرة، إذ تم إدخالها إلى المستشفى في وضع حرج بسبب استفحال مرض السرطان. وكتبت شقيقتها تدوينة تقول فيها: "لطالما أمتعتنا بأدوارها فوق خشبة المسرح المغربي والعربي فنانة بما تحمله الكلمة من معنى، موهوبة، مجتهدة، ملتزمة، محبة لفنها ووطنها، صديقة زملائها، ناجحة في مسارها الغني بأعمالها... اليوم تمر السيدة ثريا جبران بأزمة صحية ولا اعتراض على ابتلاء الله سبحانه". و كانت طلبت من محبيها الدعاء لها بالشفاء. غير أن الموت كان أقرب إليها من قلوب جمهورها العريض.
أما في فترة مسؤوليتها كوزيرة للثقافة في حكومة عباس الفاسي (2007 – 2009) فسعت الى تنشيط الحياة الفنية والثقافية وإلى الإهتمام بالشؤون المعيشية والحياتية للفنانين وتوفير التغطية الصحية لهم والضمان الإجتماعي. ودعت إلى إحياء المسارح والمراكز الثقافية الجهوية بعيدا عن المركزية.