لم تكن صدفة تسمية طرابلس اللبنانية "مدينة العلم والعلماء" في العصر المملوكي. فقد أحصى الرحالة عبد الغني النابلسي أكثر من 360 مدرسة موزعة على أحياء المدينة وأزقتها، مثبتاً دور طرابلس وتمسّك أهلها في تحصيل العلوم وتأكيد مكانة مدينتهم كـ"عاصمة ثقافية دائمة".
تعود غالبية المدارس والكتاتيب في طرابلس إلى الحقبة المملوكية. ويعتبر بعض المؤرخين أن هذه المدينة تحتوي على مواقع أثرية تجعلها في المرتبة الثانية بعد القاهرة كحاضرة ثقافية في تلك الحقبة. وبعد قرابة خمسمئة سنة من انتهاء سلطانهم على المدينة، تستمر إنجازاتهم العمرانية والعلمية، عندما بدأت عملية تخصيص أماكن وطواقم معينة للتعليم وفق أنظمة مضبوطة.
الفترة الذهبية
يعود الشيخ عبد الرزاق إسلامبولي، رئيس دائرة الأوقاف في طرابلس، إلى التاريخ ليشير إلى الدافع من وراء إقامة المدارس. فمع إعادة بناء المدينة في العصر المملوكي، تسابق المؤمنون لبناء المساجد والمدارس من أجل نشر العلوم الدينية التي كانت الحجر الأساس في ثقافة المجتمع. وتفاوتت هذه المدارس لناحية الأهمية والحجم، وكان الإنفاق عليها يتم من خلال تخصيص "الوقف الخيري" لها.
يلفت الإسلامبولي في حديث لـ"اندبندت عربية"، إلى أن "الدولة لم تكن تنفق على التعليم مباشرةً، وإنما كان يتم بمبادرات فردية وقفية، وكانت قد بدأت هذه العملية مع نظام الملك السلجوقي وهو أول من أسّس المدارس الدينية الابتدائية، وصولاً إلى مستوى الدراسات العليا والجامعات".
ولم تقتصر مدارس طرابلس على استقبال أبناء الأغنياء، فهي لم تكن طبقية بل كرّست الحق في التعليم لأبنائها كافة. وشكّل الشيوخ الكادر الأساسي لهذه المدارس، فكانوا يعلّمون الناشئة علوم القرآن الكريم والقراءات وتفسير الآيات والحديث النبوي. كما اهتموا باللغة العربية والخط العربي، وصولاً إلى الحساب. وانتشرت شهرة المشايخ، ومنهم الشيخ العالم تحسين الثمين الذي أشرف على مدرسة الشهداء بالقرب من الجامع البرطاسي، وكذلك الشيخ ظافر كبارة الذي كان يعلّم في مدرسة "الخيرية حسن" والذي اشتهر بالاعتماد على الشق التطبيقي.
ذاعت شهرة طرابلس واستقطبت مدارسها الطلاب في مختلف العلوم من أنحاء العالم الإسلامي، وفق بكر الصديق (نادي آثار طرابلس)، الذي يتحدث لـ"اندبندنت عربية" عن اهتمام استثنائي أولاه أمراء المماليك لمدينة طرابلس، انطلاقاً "من أسماء المدارس التي تحمل أسماء السلاطين والأمراء وبناتهم". ويستشهد بالقرطاوية نسبة إلى الأمير شهاب الدين قرطاي، والمدرسة النورية نسبة إلى نور الدين سنقر، والناصرية التي أسسها السلطان الناصر محمد بن قلاوون.
تستمر هذه المدارس حاضرة في وجدان أهالي المدينة وحياتهم اليومية. وحيثما تجوّلت في المدينة القديمة وأزقتها، تجد المدارس والزوايا لنشر العلم ومحاربة الأمّية.
مدرسة القرطائي بيك
على حافة نهر أبو علي، قاومت المدرسة البرطاسية عوامل الزمن. وما زالت تنتصب صرحاً عمرانياً نفيساً. وتحولت مع الزمن لتصبح "الجامع البرطاسي". عند مدخل المسجد البهي لوحة تشير إلى الوظيفة الأصلية للمبنى، الذي كان من كبرى المدارس التي تدرّس المذهب الشافعي.
عند المدخل، يتجمع عشرات من الرجال كبار السن. فهم يواظبون على زيارته لأنه جزء من ذاكرتهم، بعد طوفان النهر في خمسينيات القرن العشرين. تجهل غالبية الحاضرين تاريخ المسجد، إلا أن تقسيمه إلى غرف منفصلة، إضافةً إلى بهو كبير جامع، يشير إلى أنه كان حتى فترة ليست ببعيدة مدرسة. لا تقلّ القيمة التاريخية للمدرسة عن قيمتها العمرانية. ويشكّل البرطاسي استثناءً هندسياً، إذ ترتفع المئذنة فوق قبة عقد حجري.
المجمع العلمي المحيط بالجامع الكبير
في محيط الجامع المنصوري الكبير بعض من عشرين مدرسة تتفاوت أحجامها وأهميتها. ويشبّهها الناشط بكر الصديق بـ"المجمع العلمي الذي يتألف من الجامع المنصوري ومحيطه من المدارس التي اهتمت تاريخياً بسائر العلوم".
لم تبقَ هذه المدارس على حالها، ومنذ أكثر من مئتي عام بدأت تفقد دورها التعليمي والاجتماعي. ويمكن الحديث عن تحولات شهدتها في ثلاثة اتجاهات. البعض منها تحوّل إلى مصلّى، كالمدرسة النورية عند مدخل سوق الصياغين، فيما أصبحت مدرسة الخيرية حُسن المواجهة للجامع الكبير إلى مؤسسة لإكرام الموتى ودفنهم، وهو ليس بالأمر السيّء بحسب الصديق. وفي وقت هُجر بعضها، تعرضت أخرى إلى مستودعات متاجر ومساكن، كالمدارس الشمسية والرفاعية التي صارت مساكن بفعل الفوضى التي سادت البلد.
وفي جوار جامع أرغون شاه، يعمّ السكون المدرستين المتقابلتين، الخاتونية التي بناها نائب السلطنة في طرابلس الأمير عز الدين أيدمر الأشرفي بالاشتراك مع زوجته أرغون عام 1371 ميلادي، إذ كانت تسمّى الزوجة في عصر المماليك بخاتون، وتقابلها المدرسة السقرقية التي بناها سيف الدين أقطرق عام 1359 ميلادي. وعلى الرغم من إتمام عملية الترميم عام 2007، حسبما تشير اللوحة خارجاً، إلا أن هذه المدارس ما زالت مقفلة ولا تقوم بأي دور تربوي أو ثقافي. وتمتاز هاتان المدرستان بالنقوش العربية التي تحيط بهما وتمنحهما القبب التي تعلوهما جمالية نفيسة، إضافةً إلى موقعهما في قلب المدينة القديمة لناحية صف البلاط.
الحياة استمرارية وتطور
شكّل التعليم التقليدي النموذج العام بين الناس، وظلّت هذه المدارس في العمل إلى خمسينيات القرن الماضي قبل أن تتوقف عن النشاط التعليمي بفعل انتشار المدارس الرسمية (المعارف) في فترة سابقة أي مرحلة الانتداب الفرنسي، وكذلك تحوّل التعليم الديني إلى معاهد وجامعات شرعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يستذكر إسلامبولي والده الحاج عبد الرحمن الذي تخرّج من هذه المدارس، فقد كان الأب تلميذاً في مدرسة الشهداء في منطقة باب الحديد، مقدماً صورة عن اختلاف التعليم بين تلك الحقبة والراهن اليوم. فقد كان التركيز سابقاً على الشقّين الديني واللغوي، أما اليوم فقد اتسع الهامش وأعطيت الأولوية للجوانب العلمية التي فرضتها تغييرات المجتمع.
يوضح إسلامبولي لـ"اندبندنت عربية" أن هناك عدداً من المدارس يحتاج إلى الترميم، لتنضم إلى المدارس العاملة حالياً التي تنظم بعض الدورات الصيفية لتعليم القرآن الكريم والحديث الشريف. فيما تنشط مجموعة من المبادرات للترويج للمدينة سياحياً، وتشكل زيارة المدارس ركناً لعملها. وقد أنجز المهندس منذر حمزة دليله عن طرابلس، وقد أحصى مئات المواقع السياحية، واضعاً الصور والخرائط بين يدي السياح والزوار، مع نبذة تاريخية عن الأماكن المتنوعة وفق منهجية علمية. وأحصى حوالى 20 مدرسة يمكن أن تكون وجهة سياحية.
الخوجاية "حضانة الزمن الماضي"
باكراً ظهرت دور الحضانة في طرابلس، تحت مسمّى "الخوجاية". فقد كانت ترسل الأمهات البنات إلى "الخوجاية" وهي سيدة طاعنة في السن، تعلّم البنات الصغار مبادئ القراءة وتحريك الأحرف الأبجدية. وبعد ذلك، تنتقل إلى تعليمهن قراءة القرآن وصولاً إلى حفظه. ومع تقدّم الوقت، انتشرت في الأحياء الداخلية سيدات، يستقبلن الأطفال للعناية بهم بصورة يومية، من الصباح إلى فترة بعد الظهر.
عند الختمة، كان يقام احتفال بهذا الإنجاز في دار العائلة ويقدم الأهل هدية إلى "الخوجاية" نظير تعبها مع بناتهن. وكانت هناك طقوس مختلفة ترافق التقدّم في التعليم، فمع حفظ الفتاة سورة الجمعة "يسبّح لله ما في السموات والأرض"، كان الأهل يذبحون الدجاج ويرسلونه إلى "الخوجاية" تكريماً لجهودها معهم، لأنهم كانوا يقولون "لمّا تحفظ البنت صورة يسبّح، جيب الدجاج ودبّح". في هذا السياق، تشير الحاجة سعاد لـ"اندبندنت عربية" إلى أن الفتاة بعد ختمها القرآن كانت تتجه إلى تعلّم مصلحة، تحديداً الخياطة والتطريز والنسيج اليدوي. وكانت قلة من الفتيات يذهبن إلى "مدارس المعارف" الرسمية لإتمام تعليمهن الأكاديمي.
السرتفيكا منافس جديد للكتاتيب
مع ظهور مدارس المعارف، اتجه الأهالي نحو إرسال الأبناء وتحديداً الذكور إليها، كخيار بديل للكتاتيب. ويشهد الثمانيني محمود حسني أديب، في حديث مع "اندبندنت عربية" على ذلك. فقد كان يرافق شقيقاته البنات إلى الكتاتيب ليتعلّمن مع الشيخة في منطقة الدبابسة (باب الرمل)، أما هو فقد اتجه إلى المعارف ليتعلّم في المنهج الرسمي الجديد، فيما كان يتابع دروس جده "الشيخ كامل ميقاتي، أمين فتوى طرابلس" في "الدوب بهاء" جانب جامع سيدي عبد الواحد بعد صلاة العصر.
مع التحوّل في العلمين الديني والدنيوي، خطفت "السرتفيكا" (الشهادة الابتدائية) الضوء. وباتت الشهادة التي يحصل عليها المتعلم بعد إتمام الصف الخامس، مؤشراً إلى تطوّر المكانة العلمية للأطفال. وكان يمنح الشاب لوحة تكريمية كبيرة، عليها صورته وتشهد على إنجازه، فيضعها أهله في إطار ويعلّقونها وسط حائط دار العائلة.
يعتقد أديب أن أهم ما ميّز التعليم في الماضي، قيم الإخلاص والاحترام التي سادت العلاقة بين المعلّم والمتعلّم، فيما كان الشق المادي أمراً ثانوياً.