على الرغم من التآزُر والتكافل الاجتماعي بين مكونات المجتمع السوداني، ووقوفها لمواجهة الفيضانات وآثارها، فإن الفوارق السياسية أبت إلا أن تطل برأسها متمثلةً في تكتيك نفذه حزب الأمة باسم مساعدة متضرري الفيضان، أعاد إلى الأذهان انتهازية التحالفات السياسية للأحزاب الطائفية، التي لا تخلو من مناورات لتثبيت قواعدها وحجز مقعد في الحكومة القادمة.
يظهر ذلك في بروز الأحزاب الطائفية في مناسبات معينة لتبدو أقرب إلى الشارع، وهي وصولية سياسية هيَّأ لها الواقع السياسي السوداني وما يصاحبه من ضعف دور الأحزاب الأخرى وضياع بوصلتها. ويُعد الاستثمار في الفيضان جزءاً من الصراع السياسي في السودان، ويأتي في إطار سعي بعض القوى السياسية إلى توظيف الأزمة لصالحها بمظاهر المساعدة والدعم.
معارضة مقربة
نجحت الأحزاب الطائفية المتمسكة بالمعارضة المقربة من السلطة في كل العهود في خلق قاعدة من المناصرين، إضافة إلى التابعين لها على أسس أيديولوجية. وما أظهر هذه الحالة من التخلق هو اليأس مما يمكن أن تقدمه بقية الأحزاب السياسية على أساس ارتكاز الأحزاب الطائفية على تاريخ وإرث اجتماعي.
ولا تبعد هذه الفعالية من إحياء حزب الأمة لآلية الاستقطاب الأيديولوجي، وهو راسخ في نهج الإمام محمد أحمد المهدي إبان الثورة المهدية كرد فعل لفتوحات محمد علي باشا إبان الغزو التركي المصري على السودان. ومع وجود أسباب منطقية لمقاومة الاستعمار، ووجود عدة أديان، استخدم المهدي الإسلام كأداة لمقاومة الاستعمار تمثلت في جهاده بين أعوام 1843 و1885، والتأسيس لدولة ثيوقراطية استمرت حتى بعد وفاته، وزادت من تضييقها على المواطنين والتجار الأجانب بتطبيق قوانين خاصة أشبه بقوانين "داعش"، في عهد خليفته عبد الله التعايشي.
وطوال عهدها استقطبت المهدية بالقوة الصلبة والناعمة وجنَّدت أتباعاً ومناصرين وعمالة مجانية في منازل المهدي وأملاكه التي حصل عليها من صفقات وتسويات مع الإدارة البريطانية. كانت هذه العمالة تقوم بالخدمة وفق اعتقادات غيبية وإيمان بأن المهدي يتواصل مع النبي الكريم، وهو من يأمره بكل ما يفعل، ووفق وعود المهدي لهم التي استمرت في عهد أبنائه وأحفاده من بعده بأن الجزاء نظير أي خدمة تقدم لهم سيكون في الجنة.
"قدح الأميرات"
أرست طائفتا الأنصار والختمية اللتان نتج عنهما حزبا الأمة والاتحادي الديمقراطي مكانة ومهابة الإمام وكبار أعضاء الحزب، بل بقي زعيم الحزب ضد المُساءلة والنقد، وجذور هذا الالتفاف حولهما نتيجةً لأن حزب الأمة نشأ من طائفة الأنصار كطريقة صوفية، وتحول إلى حركة إصلاحية دعوية جهادية، تحت شعار "محاربة المستعمر وإحياء الإسلام".
وقبيل الاستقلال نشأ صراع فكري وتاريخي بين الطائفة الختمية وطائفة المهدي، ومن ثم بعد أن شعرت الطائفتان ببروز دور "مؤتمر الخريجين" كونت الطائفة الختمية، الحزب الاتحادي الديمقراطي عام 1944، كما أسست طائفة الأنصار حزب الأمة عام 1945، ومنذ ذلك الوقت يتحكم رئيس الطائفة بالحزب وتنتقل القيادة بالوراثة.
وتشير بعض الوثائق التاريخية إلى أن الانقلابات العسكرية في السودان تمت بمباركة قيادة الطائفتين لضمان استمرار مصالحهما، ما عدا انقلاب الرئيس السابق عمر البشير على حكومة الصادق المهدي بتنفيذ صهره حسن الترابي.
انطلقت فعالية "قدح الأميرات"، وهي عبارة عن وجبة إفطار يذهب ريعها لمساعدة المتضررين بالفيضانات من دار حزب الأمة، وللمكان دلالاته الكبيرة، فالصادق المهدي تدعمه أسرته وغالبيتها من الناشطين السياسيين، ومثلما يتحلقون حوله سياسياً، فإن أبناءه وأصهاره وأحفاده حريصون كل الحرص على إظهار المناسبات الاجتماعية للأسرة بالرواج الإعلامي ذاته.
ويعد الظهور باسم مساعدة متضرري الفيضانات بمثابة حملة إعلامية تمهيداً لإبراز صوت حزب الأمة. كما يشكل ذلك أهمية بالنسبة إلى الحزب لإزالة ما علق به من تجاوزات مثل علاقته بلجنة إزالة التمكين، وعلى رأسها عضو بالحزب وشبهات تلاشي الشفافية في أعمال اللجنة وعدم إذعانها لسلطة القانون والوثيقة الدستورية وانتقائيتها في ملفات البترول والقمح، وشبهة محاباتها لشركة تعمل في مجال الذهب، وظهور تضارب الصلاحيات وتداخلها مع الجهاز التنفيذي.
ومع أن لاسم الفعالية "قدح الأميرات" دلالة أخرى، وهي ارتباطه بتاريخ الدولة المهدية واستمرار استخدام اللقب لأبناء وبنات المهدي خصوصاً في فعاليات الحزب، فإنه من ناحية أخرى يُثير حفيظة قطاعات واسعة من المجتمع السوداني التي ترى في أن دور المهدية الذي انتهى قبل نيل الاستقلال، ولكن ما زال الحزب يستخدمها ليتكسب من التاريخ السياسي للسودان.
تبييض موقف
أمدت كارثة الفيضان حزب الأمة بروح جديدة وجددت دماءه، إذ إنه كان طوال الفترة الماضية يقبع تحت وقع أزمات عدة نتيجةً للانتقاد الذي تعرض له بسبب تمسكه بمعارضته المؤتلفة مع نظام البشير لدرجة تعيين نجل زعيم الحزب عبد الرحمن مساعداً للرئيس البشير، وتدرج نجله بشرى في جهاز أمن البشير. وما زاد من أزمة الحزب هو أنه استنفد كل محاولاته لإفشال انتفاضة الشعب التي رفعت شعارات معيشية وحياتية لا يستقيم البلد من دونها.
وعندما تحققت الثورة رغماً عنه، اندغم فيها، ولا زالت القوى السياسية تذكر حين طلب من الصادق المهدي في بداية الاحتجاجات الشعبية وما رافقها من عنف، أن ينصح البشير بالتنحي فرفض، كما صرح بمعارضته لتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية.
وما زال الناس يذكرون أن الحزب لم ينزل إلى الشارع، ولم يشارك في الاحتجاجات إلا بعد أن نضجت الثورة وأحس أن التغيير سيطال الحزب ومصالحه. كما أن خيمة حزب الأمة هي آخر نصب وأول ما سحب من ميدان الاعتصام بالقيادة العامة للقوات المسلحة قبل فضِّه بوقت قصير، وثارت تكهنات بأن الحزب كان على علم بخطة الفض وانسحب تاركاً المعتصمين للمجزرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تاريخ متجدد
يمكن بسهولة قراءة خطط حزب الأمة من كتاب الأمس؛ إذ بدأ تلويح بعض القوى السياسية بعدم التعويل عليه في تشجيع قيام انتخابات بعد انقضاء الفترة الانتقالية الحالية. فقد قاطع الصادق المهدي انتخابات عام 2015، مثلما قاطع انتخابات انتخابات 2010، بعد إعلان ترشح رئيس الحزب لخوض انتخابات الرئاسة. وعلى الرغم من المبررات التي قدمها في الحالتين بعدم دستوريتها، فإن حزب الأمة قدم قائمة بثمانية شروط للمشاركة في انتخابات 2015 منها التأجيل أربعة أسابيع، وتمويل حكومي للأحزاب السياسية.
ولمَّا لم تُلبّ الحكومة السابقة شروطه، أعلن الحزب أنها انتخابات زائفة. بعد ذلك خطا خطوة واسعة نحو قوى المعارضة الأخرى بتوقيع إعلان باريس مع الجبهة الثورية المعارضة والمكونة من الحركات المسلحة والحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال. ولما كان رأي حزب المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي، أن لا بديل لمبادرة الحوار التي طرحها الحزب الحاكم السابق، فإن ذلك اعتبر بمثابة تقارب بينه وبين حزب المؤتمر الوطني، والذي أتى خصماً على حزب الأمة، مما زاد من إمكانية رضوخ الأخير أو مقاطعته الانتخابات نهائياً.
أما الحزب الاتحادي الأصل فكان يرى أن تعديل قانون الانتخابات قد خلق أزمة سياسية في مسيرة الحوار الوطني لأن حزب المؤتمر الوطني أراد أن يكون التعديل وفقاً لرؤيته، وليس كما ترى بقية القوى السياسية، ووفقاً لذلك فإن تعديل قانون الانتخابات وضع حداً للحوار الوطني.
وبعكس ترحيب حزب المؤتمر الشعبي بذلك التعديل على أنه خطوة نحو الوحدة بين الأحزاب ذات الصبغة الإسلامية على حساب بقية الأحزاب الأخرى، فإن بقية الأحزاب رأت أن تعديل القانون يضع القوى السياسية بين خياري الحوار أو الانتخابات.
استثمار الفيضان
في حين اكتفى محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي بمواساة ضحايا الفيضان، وخصوصاً أبناء شرق السودان الذين ظهر في مناسبة سابقة ينصحهم بوقف النزاعات، واصل حزب الأمة نشاطه في الحراك السياسي، ولكنه لم يتحرك في كارثة الفيضان إلا بعد شهر كامل منها، وبعد أن انحسر النيل وانجلت لحظات الصدمة الأولى.
وترجم هذا الموقف فيما يعرف باستغلال الأزمات والكوارث واستثمارها لتحقيق أرباح أو تسجيل موقف. فلم يتحرك الحزب لمخيمات الإغاثة، ولم يقف على فقدان المتأثرين بالفيضانات لحياتهم أو منازلهم، بل جاءت الفعالية أقرب إلى الاحتفالية التشريفية زخرت بمسؤولين حكوميين وقيادات القوى السياسية وأعيان المجتمع.
وعلى هامش هذه الفعالية تبرز فكرة راسخة عن حزب الأمة بأنه لم يستطع طوال نشاطه المتواصل في تغيير الوعي الاجتماعي والسياسي، بل رسخ من الطائفية وإرادة الزعيم الأبوي في مؤسسة الحزب. فمنذ أكثر من نصف قرن، لا يزال الصادق المهدي هو رئيس حزب الأمة وطائفة الأنصار، وبقية المناصب في الحزب لأبنائه وبناته وأصهاره، أما الأنصار المنتمون للحزب فإنه يتعامل معهم كتابعين ومُريدين، وليس جزءاً أصيلاً منه، بينما توزع المناصب السياسية على آل المهدي وما يتعلق بالتوجيهات المذهبية في "هيئة شؤون الأنصار".
ويتضح هنا أن إبراز الهوية الطائفية هو أحد المعوقات التي تحول دون تحقيق تغيير سياسي حقيقي في السودان. وإضافة إلى المشاركة في الحكم عن طريق المساومة والصفقات المنعقدة والتي بموجبها تستبدل الطائفتان مهامهما من أجل نقل البلاد إلى دولة مدنية وإقامة حكم ديمقراطي، بوظائف وامتيازات، خصوصاً أنهما يتسلحان بأيديولوجية فكرية مؤثرة.
فحزب الأمة يستند إلى رؤى سياسية خاصة بالحزب السياسي ومعتقدات دينية خاصة بطائفة الأنصار، وبإمكان هذا الضخ الاجتماعي العمل على تطويع منظومة البلاد السياسية لخدمة نهجه الطائفي ومصالحه الطبقية، ويساعده على ذلك مُماهاة السلطة.
يحضر المهدي حزبه حالياً لأحد خيارين، إما قيام انتخابات سيسعى إلى عرقلتها، وإن تمت، سيدخلها بثقله السياسي مستفيداً من تلاحم العشيرة مع الطائفية السياسية، وإما انقلاب عسكري سيتظاهر بمعارضته، ومن ثم يذوب فيه مبرراً ذلك بالظرف السياسي المتحول. وبدايات ذلك كانت مع وصف المهدي مشروع البرنامج الانتقالي الإسعافي الذي تعده لجنة من قوى الحرية والتغيير (حكومة عبد الله حمدوك) بأنه ضعيف، ومن ثم وضع مباشرة بديلاً له بأن مجلس التنسيق بحزب الأمة بصدد تكوين لجنة للمساهمة في إصدار برنامج إسعافي أفضل.