ملخص
دفع الجيش بتعزيزات عسكرية وسيطر على أحياء شرق الخرطوم وطوق المنطقة بهدف التقدم نحو المطار، ثم وجه ضربات مدفعية مكثفة إلى مواقع "الدعم السريع" قرب المطار مما أدى إلى إرباك صفوفها وإضعاف قدرتها على الاحتفاظ به، وعلى رغم تعدد محاولات الاستيلاء على السلطة في السودان عبر الانقلابات والحروب لكن "الدعم السريع" هي الجهة الوحيدة التي نجحت بداية الحرب في السيطرة على مطار الخرطوم بالقوة.
منذ اندلاع الحرب في السودان في الـ 15 من أبريل (نيسان) 2023، أصبح مطار الخرطوم الدولي ساحة معارك رئيسة، حيث شنت قوات "الدعم السريع" هجوماً مباغتاً وسلسلة من الهجمات المنسقة على المنشآت الحيوية في الخرطوم، بما في ذلك مطار الخرطوم الدولي، وسيطرت عليه خلال الساعات الأولى من معركة الخرطوم، باعتباره هدفاً إستراتيجياً ولاستخدامه كقاعدة عسكرية، فالسيطرة عليه تعني السيطرة على الإمداد الجوي والتنقل العسكري، كما أن البنية التحتية في المطار وفرت نقاط تحصين طبيعية للقوات.
وعلى رغم تعدد محاولات الاستيلاء على السلطة في السودان عبر الانقلابات والحروب، لكن قوات "الدعم السريع" هي الجهة الوحيدة التي نجحت في السيطرة على مطار الخرطوم بالقوة، إذ إن معظم المحاولات السابقة ركز على القصر الجمهوري والقيادة العامة للقوات المسلحة، والإذاعة والتلفزيون، من دون الوصول إلى المطار أو النجاح في فرض السيطرة عليه.
وأدى الهجوم الأولي على المطار إلى سقوط قتيلين، في حين أسفر القتال المستمر عن تدمير ما بين 10 و 20 طائرة مدنية تابعة لدول عدة، فضلاً عن إلحاق أضرار بالغة ببنية المطار الأساس، ونتج من ذلك تعطيله كما أدى إلى عزل الخرطوم جوياً إضافة إلى حصارها برياً.
ومثّل استيلاء قوات "الدعم السريع" على مطار الخرطوم حدثاً عسكرياً بارزاً في سياق الحرب مما جعل منه ساحة رئيسة للصراع، فالجيش السوداني ظل يسيطر على الجزء الشمالي من المطار حيث المطار العسكري، بينما ظلت قوات "الدعم السريع" تسيطر على بقية المطار، إضافة إلى الأجزاء المتاخمة له في منطقة الخرطوم.
توسيع النفوذ
بعد استرداد القصر الجمهوري من "الدعم السريع"، تضمنت الخطة التي وضعها الجيش السوداني لاستعادة السيطرة على مطار الخرطوم التقدم نحو أحياء شرق الخرطوم لتوسيع نطاق نفوذه مما مهد الطريق لاستعادة هذا المرفق الإستراتيجي، وفي إطار هذه العمليات قام سلاح المدرعات التابع للجيش بقصف مواقع "الدعم السريع" في مناطق عدة غرب العاصمة وقرب المطار، واستعاد الجيش المطار اليوم الأربعاء من "الدعم السريع"، بينما حاصرت قوات الجيش آخر معاقلها الرئيسة جنوب العاصمة في منطقة جبل أولياء الإستراتيجية من ثلاثة اتجاهات، شمالاً وجنوباً وشرقاً، وكانت قد تراجعت إليها من أحياء العاصمة بعد استعادة الجيش القصر الجمهوري والمؤسسات الحكومية المهمة.
ويُعد جسر جبل أولياء الذي يعبر النيل الأبيض جنوب مركز المدينة المعبر الوحيد للمنطقة التي ظلت تحت سيطرة "الدعم السريع"، إذ يشكل شرياناً إستراتيجياً يربطها بمعاقلها في إقليم دارفور غرباً، ويكتسب الجسر أهمية حيوية في ظل الصراع الدائر، حيث يمثل المنفذ الرئيس لنقل الإمدادات العسكرية واللوجستية، إضافة إلى حركة الأفراد بين المنطقة المحاصرة وامتداداتها الغربية، كما يُعد نقطة ارتكاز أساس في المشهد العسكري، وتسعى الأطراف المتصارعة إلى إحكام السيطرة عليه نظراً لدوره المحوري في رسم معالم التوازن الميداني.
وقد واجهت قوات "الدعم السريع" تحديات كبيرة في ظل سعي الجيش السوداني إلى استعادة السيطرة على مطار الخرطوم، فقد دفع الجيش بتعزيزات عسكرية وسيطر على أحياء شرق الخرطوم وطوق المنطقة بهدف التقدم نحو المطار، ثم وجه الجيش ضربات مدفعية مكثفة إلى مواقع القوات قرب المطار مما أدى إلى إرباك صفوفها وإضعاف قدرتها على الاحتفاظ بالموقع.
أما خطة "الدعم السريع" للتصدي لهذا الهجوم فقد اقتضت نشر تعزيزات عسكرية بين جسر المنشية وشرق العاصمة، ولكن يلاحظ في معركة المطار أن "الدعم السريع" لم تستخدم تكتيكات هجومية بالطائرات المسيرة مثلما استهدفت من قبل مواقع تابعة للجيش السوداني، مثل قيادة "الفرقة 19 مشاة" ومطار وسد مروي في الولاية الشمالية، فقد كان هذا الاستخدام للطائرات المسيرة جزءاً من إستراتيجيتها الدفاعية لمواجهة تقدم الجيش نحو مواقعها، والرد على المسيرات التي يستخدما الجيش أيضاً.
سلسلة توترات
يعد مطار الخرطوم الدولي أهم البوابات الجوية في القارة الأفريقية، فقد أنشئ عام 1947 عقب الحرب العالمية الثانية، وعبر هذا المطار استقبل السودانيون بعد حوالى عقدين من إنشائه في الـ 11 من شباط (فبراير) 1965 الملكة إليزابيث الثانية وهي في الـ 39 من عمرها آنذاك، وذلك بعد أشهر فقط من اندلاع ثورة الـ 21 من أكتوبر (تشرين الأول) 1964 الشعبية التي أطاحت بنظام حكم الجنرال إبراهيم عبود العسكري.
وشهد المطار مراحل تطور مختلفة خلال العقود اللاحقة، ولا سيما في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حينما اجتذب استثمارات كبيرة لتحديث بنيته التحتية وتعزيز كفاءته التشغيلية، غير أنه واجه تحديات كبيرة أبرزها العقوبات الدولية التي فُرضت على السودان خلال حكم الرئيس السابق عمر البشير، والتي أثرت في قدرته التنافسية وأعاقت صيانة مرافقه وتحديث معداته، مما جعله أكثر عرضة للاضطرابات والكوارث.
وفي ما بعد خضع المطار لعمليات إعادة تأهيل واسعة خلال الفترة بين عامي 2000 و2010 بعد دخول الصين مجال الاستثمار النفطي في السودان والاستثمار في البنية التحتية، وشملت تحديث المدارج وتطوير صالات السفر والوصول وتعزيز قدرات الملاحة الجوية، وعلى رغم هذه الجهود ظل المطار يواجه تحديات تتعلق بالقدرة الاستيعابية ومعايير السلامة، مما دفع الحكومة إلى التخطيط لإنشاء مطار جديد لم يرَ النور.
كذلك شهد المطار سلسلة من الإغلاقات القسرية جراء التوترات السياسية والأمنية، وأوقفت شركات الطيران الأجنبية رحلاتها في يونيو (حزيران) 2019 بسبب انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي أفضت إلى سقوط البشير عام 2019، لكنها استأنفتها بعد تحسن الأوضاع، وفي يناير (كانون الثاني) 2020 أُجبر المطار على إغلاق مجاله الجوي وتحويل الرحلات بعد تمرد عسكري في محيطه، قبل أن يُعاد فتحه بعد يوم واحد.
إلا أن المحطة الأكثر مأسوية في تاريخ المطار جاءت مع اندلاع الحرب الحالية حيث كان بؤرة الاشتباكات الأولى، وأدى ذلك إلى تدمير واسع النطاق للبنية التحتية، كما تسبب الصراع في شلل تام لحركة الطيران المدني في السودان مما عقد عمليات الإجلاء والإغاثة وفاقم الأزمة الإنسانية، وهو ما يعكس مدى هشاشة البنية التحتية الحيوية في السودان أمام النزاعات المسلحة، ويسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى حماية المنشآت الجوية وفقاً للقوانين الدولية، بما يضمن استمرار دورها المحوري في الاستجابة للأزمات الإنسانية ودعم الاستقرار.
عنصر حاسم
وفي ظل النزاعات يصبح النقل الجوي الإنساني عنصراً حاسماً في إيصال المساعدات الطبية والإغاثية إلى المناطق المتأثرة بهذه النزاعات، وقد كشفت الحرب في السودان عن تحديات كبرى تواجه هذه العمليات، ولا سيما مع تدمير البنية التحتية الجوية واستهداف المطار الرئيس في السودان بسبب وقوعه في قلب العاصمة الخرطوم مما يمنحه أهمية عسكرية وإستراتيجية كبرى، حيث يبعد مسافة قصيرة عن مراكز القيادة والسيطرة الحكومية، وهو ما يجعله نقطة ارتكاز رئيسة في أية مواجهة عسكرية تدور في العاصمة، على رغم بعض التحفظات المتمثلة في تدني احتمالات السلامة بسبب موقعه وسط أحياء سكنية وتجارية ضاجة بالحياة والحركة.
ويضم المطار مدرجاً رئيساً بطول يسمح بهبوط وإقلاع الطائرات المدنية والعسكرية الكبيرة، ويحوي مستودعات وقاعات شحن تجعل منه نقطة حيوية لنقل الإمدادات، كما يمتلك أنظمة مراقبة جوية متطورة كانت تُستخدم لإدارة الرحلات، ويتيح السيطرة على المجال الجوي للعاصمة، كما أن السيطرة على المطار تتيح نقل القوات والعتاد العسكري بسهولة، ونظراً إلى موقعه الجغرافي فيمكن استخدامه كمنصة لضربات جوية ضد الأهداف العسكرية في المدينة وكموقع دفاعي حاسم.
وباعتباره إحدى أهم الوسائل لضمان استمرار الإمدادات في زمن الحرب، فإن النقل الجوي عبر المطار يقلل الحاجة إلى تخزين كميات ضخمة من الموارد في مناطق المواجهات العسكرية، مما يخفض الأخطار اللوجستية ويضمن الاستجابة السريعة للحاجات الإنسانية.
غير أن الحرب، وبخاصة القتال العنيف في العاصمة، أفرزت معوقات هائلة أمام عمليات الإغاثة الجوية، وأدى تدمير المطار وتعطيل الملاحة الجوية إلى عزل السودان عن شبكة الطيران المدني الدولية مما جعل عمليات الإخلاء الطبي وإيصال الإمدادات الغذائية والدوائية شبه مستحيلة، إضافة إلى عدم اتفاق طرفي النزاع على الوصول إلى هدن تسمح بتوفير مسارات آمنة بديلة، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية.
وفي ظل هذه الظروف أودت الحرب بحياة عشرات آلاف الأشخاص وشردت أكثر من 12 مليوناً، وتسببت في أكبر أزمة جوع ونزوح في العالم، واضطرت منظمات الإغاثة إلى البحث عن بدائل مثل الاعتماد على الممرات الجوية عبر دول الجوار، لكن هذه الحلول ظلت محدودة نظراً لتعقيد الأوضاع الأمنية واستهداف هذه المنظمات ومستودعاتها وموظفيها.
ثغرات إستراتيجية
كان استيلاء قوات الدعم السريع على مطار الخرطوم خلال المراحل الأولى من الحرب نتيجة ثغرات إستراتيجية عدة لدى الجيش السوداني، أولها الانتشار الواسع لـ "الدعم السريع" داخل الخرطوم قبل اندلاع النزاع، وفي إطار تطبيق بند الترتيبات الأمنية وفق "اتفاق السلام بجوبا" 2021 وإيذاناً للدمج داخل الجيش، فقد كانت القوات متمركزة بصورة مكثفة داخل أحياء العاصمة، وعكست هذه الملامح العسكرية وجه التنافس بينها وبقية الحركات المسلحة الأخرى التي بدأت في التوافد نحو الخرطوم، ولكن كثافة "الدعم السريع" منحتها ميزة حاسمة في تنفيذ هجمات خاطفة والسيطرة السريعة على مواقع حيوية مثل المطار بمجرد اندلاع القتال.
أما ثانيها فقد كان غياب الخطط الحربية للطوارئ الجوية، فلم يضع الجيش إستراتيجية واضحة لإعادة تنشيط القواعد الجوية في حال الطوارئ، كما لم تكن هناك خطة لإنشاء منظمة نقل جوي عسكري أثناء حصار القصر الجمهوري، وعلى رغم امتلاك الجيش طيارين مؤهلين وطواقم مدربة لكن غياب مسارات جوية عسكرية فعالة حال دون تحقيق نصر حاسم أو استعادة المطار في الوقت المناسب، ويمكن بسهولة اكتشاف خلل غياب خطط للطوارئ حتى في ظروف الكوارث الطبيعية، مثل اجتياح الأمطار والسيول والفيضانات للمطار وإغراقه خلال مواسم عدة.
وثالثها نقص المعلومات الاستخباراتية والتنسيق، ونتيجة لتسارع الأحداث بهذه الكثافة فيبدو أن الجيش لم يكن يمتلك أو يستقرئ معلومات دقيقة حول تحركات ونيات "الدعم السريع"، مما أدى إلى ضعف الاستعداد العسكري وترك المواقع الإستراتيجية عرضة للهجوم المباغت.
ورابعها فوضى خطوط الإمداد والتعزيزات، إذ إن الجيش فقد بسرعة السيطرة على خطوط اتصالاته الجوية ولم يتمكن من إدارة الإمدادات بكفاءة، إذ لم يُربط المطار بعمليات الجيش في حال الطوارئ، مما أدى إلى بطء التعزيزات وإضعاف القدرة الدفاعية.
أسباب محتملة
وفي المقابل فقد كانت هناك أسباب محتملة حالت دون استخدام "الدعم السريع" الطائرات المسيرة التي كانت تمثل أحد أسلحتها الهجومية، ومع أن الجيش تفوق عليها في استخدامها، ولا يمكن الجزم بأنها كانت ستحسم المعركة، لكن كان بإمكانها إحداث فرق في صد جزء من هجوم الجيش السوداني، وهو ما كان سيظهر محاولتها الاحتفاظ بمطار الخرطوم، ومنها، أولاً نقص الذخائر والمعدات التقنية، وبحسب ما يتردد أن "الدعم السريع" تعرضت خلال الفترة الأخيرة لضغوط لوجستية شديدة وواجهت نقصاً في الذخائر المخصصة للطائرات المسيرة مقارنة بالجيش، إضافة إلى فقدانها توجيه القيادات وفقدانها بعض المناطق التي كانت تستخدمها لتنظيم دفاعاتها مع تقدم الجيش واستعادته مواقع إستراتيجية، وثانياً تفوق الدفاعات الجوية للجيش السوداني، إذ عمل على تعزيز دفاعاته الجوية حول المطار عبر حصوله على منظومات طائرات مسيرة تركية وصينية الصنع، إضافة إلى الإمداد الإيراني، وهو ما دفع "الدعم السريع" إلى تقليل الاعتماد عليها في هذه المواجهة، وثالثاً تدمير مراكز التحكم والتشويش الإلكتروني، فمن المحتمل أن الجيش نفذ عمليات استباقية استهدفت مراكز التحكم بالطائرات المسيرة التابعة لقوات "الدعم السريع"، إما عبر القصف المباشر أو باستخدام وسائل التشويش الإلكتروني، وهو ما نتج منه تعطيل تشغيلها أو إضعاف فعاليتها في ساحة المعركة، ويذكر أن "الدعم السريع" عند تراجعها من مناطق وقرى الجزيرة تعطلت أجهزة "ستارلينك" التي كان يقوم بتشغيلها أفراد من القوات في مقابل مالي لسكان المناطق للتواصل عبر الإنترنت مع ذويهم في الخارج، واستبدل الجيش الأجهزة القديمة بأخرى لتقديم الخدمات.
أما رابعاً فقد كان تغير التكتيكات العسكرية لـ "الدعم السريع"، نظراً إلى ظروف القتال المتغيرة وتفضيلها التركيز على القتال البري والكر والفر واستخدام تكتيكات الاشتباك المباشر الذي تجيده، بدلاً من الاعتماد على الطائرات المسيرة، وخصوصاً أنها لا تصمد في وجه الطيران الحربي التابع للجيش.