أطلقت دول القرن الأفريقي الخمس، إثيوبيا والصومال وإريتريا وجيبوتي وكينيا، العام الماضي "مبادرة القرن الأفريقي"، بهدف تفعيل شراكة تنموية تتجاوز ما هو موجود إلى آفاق أرحب، يتوقع تفعيلها نهاية هذا العام. وبالرغم من الآمال المعقودة على هذه المبادرة، إلا أنها قد تواجه عقبات أحدثتها الأزمات الأخيرة، وعلى رأسها تفشي فيروس كورونا وأثره في الاقتصاد السياسي الدولي، وتأثيره المباشر في اقتصاد أفريقيا.
وبالرغم من حقيقة أن التكتلات هي من أهم خصائص النظام العالمي الجديد، إلا أن تطبيقها في أفريقيا يحد منه عدم انسجام دولها ومشكلاتها ونزاعاتها الداخلية مع بعضها البعض، والتبعية الدولية منذ مرحلتي الاستعمار ونظام القطبية الثنائية، مما أورثها التخلف والتعقيدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأخرى الناجمة عن التهميش، وهي التي أسهمت في فرض التجارة غير العادلة، ووضع معايير عالمية لها لا تراعي ظروف الدول النامية والفقيرة.
تحفيز دولي
لم تكن هذه المبادرة الأولى لدول القرن الأفريقي، إذ مهدت لها مبادرات عدة، منها التي أطلقتها بعض المؤسسات الدولية بهدف تعزيز التعاون الإقليمي في القرن الأفريقي في أكتوبر (تشرين الأول) 2014، وضمت دول إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال وكينيا والسودان وجنوب السودان وأوغندا. إلا أن تلك المبادرة انزوت وسط كثير من الأحداث والنزاعات المستمرة بين أعضائها. ومع توفر التحفيز الدولي لتحقيقها نتيجة لبداية مجيء القوى الدولية إلى المنطقة في مرحلة التنافس على المواقع والممرات البحرية، وتعهد البنك الدولي بتقديم تمويل بمبلغ 1.8 مليار دولار، بغرض تعزيز النمو الاقتصادي والفرص، والحد من الفقر وتحفيز النشاط التجاري، لكن لم يتحرك ساكن تلك المبادرة إلا بعد مجيء رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وظهور الحاجة إلى تشكيل قرن أفريقي جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهناك إطار آخر ينطوي عليه إحياء المبادرة بعدد أقل من الدول، وهو الاستفادة من الاختلافات في طريقة تفكير وعمل كل من هذه الدول، وأهمها الاختلافات المفاهيمية، إذ إن تحقيق استقرار نسبي على الصعيد السياسي، سيسرع استكمال أهداف المبادرة، من دون الحاجة إلى استحداث مبادرات أخرى جديدة.
فوارق حادة
تعبّر المبادرة الحالية، وهي عبارة عن ترتيب إقليمي لتكامل سياسي واقتصادي، عن أزمة حقيقية في الاقتصاد السياسي لدول أفريقيا بشكل عام، ولهذه الدول خصوصاً، تتمثل في الارتباط الوثيق بين نظمها السياسية واقتصاداتها. ونتيجة التنافس والاندفاع الدولي على منطقة القرن الأفريقي، الذي أصبح واقعاً، فإن التكامل هنا يضمن امتصاص الآثار السلبية لهذا التدخل، والاستفادة منه بتحقيق نوع من الاستقلال الاقتصادي والسياسي. ولأن نجاح المبادرة يعتمد على الانسجام السياسي قبل الاقتصادي، ومحفز الاستقرار من أجل تعظيم الفوائد، فإن أهدافها مثل توسيع السوق المشتركة وتوجيه الاستثمار وتسهيل عملية التنمية، تتحقق في إطار السلام في ما بينها، وفي وصولها مرحلة من القوة حتى لا تتأثر بالتقلبات السياسية للدول المجاورة. ويلاحظ أن أغلب التكتلات الفاشلة كانت لنماذج لم تراع أشكال الدول ونظمها السياسية، والفوارق الحادة في ما بينها، إنما نشأت تبعاً للتيار العالمي لتكوينها.
ولم تلق هذه الرغبة وقتها عوامل تذلل سبل تحقيقها، إذ إن التبادل التجاري بينها ظل محكوماً بالحواجز الجمركية، وحواجز الدخول والحركة، وظل التعامل المصرفي وحركة رؤوس الأموال محكومان بالحواجز الضريبية، بينما نجد الاتفاقات مع الدول الكبرى تركز على تسهيل هذه المسائل أولاً، قبل الشروع في أي تعاون.
وكحال سابقاتها، ركزت هذه المبادرة على أهداف أساسية، وهي تحسين البنية التحتية الإقليمية، وتشجيع التكامل السياسي والاقتصادي والتجاري، وإزالة الحواجز النفسية، وتحسين القدرة على التكيف والانسجام، وبالتالي فإن الدعم الذي تنتظره هذه الدول من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي وبنك التنمية الأفريقي، يظهر أسلوب عملها في حال حصلت عليه، غير أنه لم يتم التطرق إلى الوسائل الأخرى البديلة في حال عدم حصولها عليه، مما قد يعيدها إلى حال صراع أوسع نطاقاً على الموارد وحصص المشاركة وغيرها، بينما تتطلع شعوب هذه الدول إلى منع التصعيد بسبب فشلها أو بغيره، وتجنب الدخول في نزاعات.
بؤر متوترة
بالرغم من أن مرحلة ما بعد كورونا ضاعفت أزمات العالم بشكل كامل، إلا أن الدول الأفريقية انكشف ضعفها أكثر، ولم تعد المشكلة في جذب الاستثمار الدولي إلى موارد القارة الخام، وإنما في صعوبة الحصول على تمويل للاستفادة من هذه الموارد. ويعول رؤساء هذه الدول على أن قدرة أفريقيا على حل أزماتها من خلال هذا النوع من التكامل يتوقف على تحقيق هذه المبادرة، التي تحيطها تحديات تؤثر في استقرارها الداخلي. وبالرغم من أن تحقيق اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا وتوقيعه في 16 سبتمبر (أيلول) 2018 في مدينة جدة، برعاية السعودية والإمارات، أسهم في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي في القرن الأفريقي، مما أهّل آبي أحمد للحصول على جائزة نوبل، إلا أن بؤراً متوترة في الإقليم (النزاع الحدودي بين جيبوتي وإريتريا، وبين الصومال وكينيا) تشكل عقبة أمام نجاح هذه المبادرة. كما يشكل نشاط الجماعات الإرهابية تحدياً أعمق أثراً في تهديده الاستقرار والأمن الإقليميين في هذه المنطقة وكل أفريقيا.
وهناك أيضاً تباين مصالح الدول الخمس، فمنها ما هي مبنية على مرارات تاريخية، ومنها ما تحتكم إلى مصلحة شعوبها وطموحها، وما قد تحققه هذه المبادرة من دون النظر إلى الوراء. وتتباين أيضاً درجة استفادتها من المكاسب التي ستحققها هذه المبادرة، تبعاً لدرجة نموها أو تخلفها نتيجة الفساد وعدم المساواة.
اختلالات وظيفية
وفي وقت أدركت فيه هذه الدول الخمس أن أبعاد الأزمات باتت تتخطى حدودها، أشارت المؤسسات الداعمة إلى أن دول القرن الأفريقي تعاني اختلالات وظيفية، فإريتريا كانت تحت سيطرت إثيوبيا، وأغلب النزاعات بين الأخيرة والصومال كانت بغرض احتواء بؤر النزاع الإثنية، ودحر الجماعات الإرهابية، كما أن إثيوبيا نفسها، بالرغم من قوتها النسبية، بقيت لفترة طويلة منطوية على نفسها، وبعدما انفتحت على الجوار الإقليمي والعالم، امتدت مشكلاتها إلى خارج المنطقة. لذلك، فإن النظرة الدولية إلى منطقة القرن الأفريقي لا تتعدى النظرة السائدة عن المميزات الاستراتيجية، وكونها منطقة جاذبة، بينما تكمن التحديات المتصاعدة في الأزمات الداخلية لهذه الدول، والتي من دون تسويتها، لن يكون هناك أمل في نجاح المبادرة، لذا تقف المؤسسات الدولية بين واقعية هذه العوامل من جهة، وبين رغبتها في تقديم العون وتوفير بيئة مستقرة أمنياً من جهة أخرى. غير أن الرغبة في تقديم العون حتى لا تكون هذه الدول عالة على المجتمع الدولي، تحدها منذ زمن التحيزات الدولية والعون الانتقائي، كما أصبح يحدها الآن نقص موارد هذه المؤسسات الدولية كأحد آثار جائحة كورونا المتفاقمة. هذا الأمر مع تأثيره السلبي، لكن وجهه الآخر يكشف عن إمكان لجوء دول القرن إلى استبدال الأسواق الدولية، كمستورد للمواد الخام، بسوق داخلية بينها، ومواد مصنعة إذا توفر عنصر التمويل.
ربما تصطدم هذه المبادرة الإقليمية التي تقف على رأسها إثيوبيا بالطموحات الدولية التي أسست لوجودها في المنطقة، فالمصلحة الإثيوبية في إيجاد منفذ بحري تعتزم إقامته في إحدى هذه الدول قد تقف في وجهها المشاريع المستقبلية، مثل مشروع "الحزام والطريق"، الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2013.
وعملت الصين على تطوير عدد من موانئ القرن الأفريقي المطلة على البحر الأحمر والمحيط الهندي لهذا الغرض، إضافة إلى تسهيل حركتها التجارية من وإلى أفريقيا. كما تصطدم المبادرة بتزايد التكتلات الاقتصادية والترتيبات الدولية التي ستؤثر في إدارة اقتصاد النظام العالمي الجديد، بمضاعفة دور المؤسسات عالمياً في مقابل تقلص دورها داخل أفريقيا.