في نهاية الصفحة الأخيرة من روايته الأحدث "طبيب أرياف" (دار الشروق- القاهرة)، حرص الكاتب محمد المنسي قنديل على إيراد الإشارة التالية، "القاهرة، 26/4/2020، في عزلة وباء كورونا". وهي إشارة مفعمة بدلالات ذات صلة غير مباشرة بمحتوى تلك الرواية، التي تدور أحداثها المأساوية في بداية ثمانينيات القرن الماضي في إحدى قرى صعيد مصر، يعاني سكانها من أمراض تفتك بهم بسبب أن السلطة المركزية لا تبالي بهم في ما يخص الخدمات الضرورية، ومن ضمنها الرعاية الصحية. لكنها تشدد في الوقت نفسه من قبضتها الأمنية لقمع أي تمرد محتمل من جانبهم، على أفق مسدود تماماً أمام الأمل في حياة أفضل، ولا تتورع عن تزوير إرادتهم خلال الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.
السرد، بضمير المتكلم، ويتولاه طبيب يتعرض عقب تخرجه مباشرة في كلية الطب للسجن لبضعة أشهر، لانخراطه في نشاط سياسي معارض لنظام السادات، وحين يُطلق سراحه يُكلَف بإدارة وحدة صحية في إحدى قرى الصعيد، حيث الحياة في أدنى مستوياتها، في ظل تفشي الفقر والجهل والمرض، والافتقار إلى أبسط ما يمكن أن يداوي مريضاً.
تجهيل متعمَّد
وإن كان قنديل، الذي تخرج في كلية الطب في منتصف السبعينيات، قد حدد الحقبة الزمنية لأحداث روايته (وهي الحقبة نفسها تقريباً التي شهدت في الواقع تكليفه العمل طبيباً في ريف محافظة المنيا في صعيد مصر) إلا أنه لا يذكر اسم القرية، التي تشهد معظم أحداث رواية "طبيب أرياف"، ولا اسم المدينة التي تتبعها، ولا حتى اسم الرئيس الذي جرى اغتياله، ولا اسم خلَفِه، الذي شارك الطبيب في تزوير بطاقات التصويت على الاستفتاء الخاص باختياره رئيساً للجمهورية، تحت ضغط من مأمور الناحية الذي يعرف حتماً أنه سجين سياسي سابق، يمكن أن يفقد وظيفته ويُزَج به في السجن مجدداً، إذا لم ينفذ ما يُطلَب منه.
وهنا يمكن اعتبار ذلك التجهيل دلالة على أن الحال المزرية تلك، هي سمة موروثة وممتدة في ظل أنظمة حكم تبدو مختلفة، لكنها في واقع الأمر تتبع أساليب القمع ذاتها، كما تنتهج إهمال الفقراء، في الوقت ذاته، خصوصاً في الجانب المتعلق بالرعاية الصحية، التي لا يمكنها الصمود في وجه الأمراض العادية، بالتالي هي عاجزة تماماً في حال تفشي وباء مثل الذي يواجهه العالم اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بحسب وصف السارد، بيوت القرية طينية تحيطها المقابر من كل جانب، فيما بيتُ عمدتها المزواج (لا اسم له أيضاً) على رغم انعدام قدرته الجنسية، يتسم بالفخامة والأُبهة. مسكن الطبيب (الذي سيعرف القارئ بعد نحو 200 صفحة من مجمل 281 صفحة، أن اسمه علي) يعلو الوحدة الصحية التي تزدحم يومياً بالمرضى، بالرغم من افتقارها حتى إلى الأجهزة الطبية البسيطة وكثير من العقاقير الضرورية. تعاونه ممرضتان، تفتقران إلى أبسط الخبرات اللازمة لعملهما، إلا أنه يقع في غرام ممرضة قسم تنظيم الأسرة في الوحدة نفسها، واسمها "فرح"، علماً أنها تعيش في تعاسة مع زوج لا يعمل، ولا تستطيع أن تسعى إلى الطلاق منه حتى لا تنبذها قريتها التي لا تعرف مكاناً سواها يمكنها العيش فيه.
البلد المجاور
يسعى ذلك الزوج واسمه "عيسى" للسفر إلى ليبيا (يسميها السارد البلد المجاور)، بعدما تجاوبت زوجته مع الطبيب، ورسمت له خطة للقائهما في المدينة التي تتبعها القرية، وهناك قضيا ليلة في فندق مشبوه، نتجَ عنها جنين، تبين أن "فرح" سعت للتقرب من الطبيب من أجل الحصول عليه، بما يشير، وفقاً للسارد، إلى احتمال أن يكون ذلك الزوج غير قادر أصلاً على الإنجاب.
تخبر "فرح" الطبيب بأمر حملها منه، فيفكر في ضرورة أن يفرا معاً من القرية، لكنها تؤكد له أنها لا تستطيع أن تفعل ذلك، حتى لا تجلب لزوجها الذي هو في الوقت نفسه ابن عمها، الفضيحة والعار. بعدها سيفاجأ الطبيب بأن "عيسى" الذي لا يعرف شيئاً عن علاقته بزوجته، يطلب منه مبلغاً من المال، ليدفعه لسمسار سيساعده في التسلل إلى البلد المجاور عبر مدق صحراوي يبعد عن القرية بنحو 500 كيلومتر.
وبالعودة إلى ما قبل تكليفه العمل طبيب أرياف، سنعرف أن السارد كان يحب فتاة تدعى "فاتن"، لكنها بعد دخوله السجن تخلت عنه. وبعد مرور بضعة أشهر على عمله في الصعيد، يمنح الطبيب نفسه إجازة، وبمجرد وصوله إلى القاهرة يذهب إلى السجن الذي تحول إلى متحف في قلب قلعة صلاح الدين الأثرية، ويدلف إلى الزنزانة التي آوته يوماً، يتأمل جدرانها ونقشاً خلَّفه على أحدها عبارة عن اسم "فاتن".
يخرج من المتحف ويتصل بـ"فاتن" من هاتف في كشك لبيع السجائر، ويطلب منها أن تقابله، لعلها تنقذه من فخ الوحدة في القرية النائية. ترفض في البداية ثم توافق على أن يكون هذا آخر لقاء يجمعهما. التقيا في مقهى شهِد من قبل لقاءهما الأول، وقال لها ليقنعها بالزواج منه، "لقد استوعبتُ الدرس جيداً... تركتُ السياسة للأبد". لكن أوان ذلك قد فات بما أن "فاتن" تبلغه بأنها ارتبطت رسمياً بآخر، لأن أسرتها ترفض أن يكون صهرها سجيناً سابقاً، فيشك في أنها ربما تكون قد تزوجت مِن أحد ضباط الشرطة مِمَن كانوا يعذبونه في السجن.
كرنفال الغجر
يعود "علي" إلى القرية النائية ويزداد رغبة في الممرضة "فرح"، خصوصاً بعد أن يحضر على أطراف البلدة كرنفالاً لجماعة من الغجر تقودهم امرأة تدعى "الجازية"، تيمناً بشخصية شهيرة في السيرة الهلالية. تعتقد "الجازية" الغجرية أن بني هلال كانوا جماعة من الغجر بما أنهم اختاروا الترحال سعياً وراء الرزق، وتصر في حكيها لسيرتهم خلال ذلك الكرنفال على البطل الحقيقي في تلك القبيلة العربية، لم يكن سوى تلك "الجازية" التي لم يكسرها سوى رضوخها لعشق "دياب بن غانم" لها، أملاً في أن يكون ذلك دافعاً له لأن يقتل حاكم تونس "الزناتي خليفة" وينتشل قومها من الفاقة والعوز.
هادم الملذات، هو هنا مأمور الناحية الذي يقبض على جماعة الغجر أثناء الكرنفال، ويهين الطبيب، لأنه سمح لنفسه بحضور مثل ذلك النشاط، "الذي يشهد ممارسات غير قانونية"، ويخص "الجازية" بأكبر قدر مِن الإهانة حين يطلب من جنوده اغتصابها، ثم يحملها بنفسه إلى الوحدة الصحية لإنقاذ حياتها، مع أنها في نظره لا تساوي شيئاً. ومع أنه لم يكن يعلم أنه سيحتاجها هي بالذات، لتدله على المدق الصحراوي الذي تواترت الأنباء عن أن عدداً من أهل القرية، بينهم "عيسى"، قد حوصروا فيه، وتصر السلطة المركزية على إنقاذ من لا يزال منهم على قيد الحياة، وإعادة جثث مَن ماتوا. تقول "الجازية" للمأمور الذي تمقته مقتها لما يمثله من سلطة غاشمة، "أنتم صنعتم الجحيم الذي يهرب منه كل الناس". لكنها في الأخير لا تملك سوى مساعدته في الوصول إلى المدق، الذي لا يعرف الطريق إليه سوى المهربين والغجر.
واكبَ ذلك الاستفتاء العام لاختيار رئيس جديد للبلاد خلفاً للرئيس الذي قُتِل على يد تنظيم أصولي، وإصرار المأمور على أن تتحول الوحدة الصحية إلى لجنة للتصويت، بإشراف الطبيب نفسه، لكن اليوم يمر من دون أن يقترب أحد من أهل القرية من صناديق الاقتراع، ليتم التزوير بحيث تؤكد النتيجة اختيار المرشح الوحيد بإجماع الأصوات. يقول له المأمور، "الصناديق لا تختار الرئيس. الله وحده هو الذي يختاره. يأتي به من المجهول ليحكم ويعلو قبل أن يختاره إلى جواره" (الرواية صـ 194). يقول الطبيب لنفسه، "اللعبة التي كنت أقف على الجانب الآخر منها، والتي دخلت السجن ثمناً لمعراضتها، أصبحت الآن جزءاً منها" (صـ 195).
وباء مُمتَد
تطوُرُ الأحداث على ذلك النحو، يدفع الطبيب إلى الطلب من مديرية الصحة نقله إلى وحدة في بلدة أخرى، وفي باله أن ذلك سيسهل عليه اصطحاب "فرح" معه، ليتمكنا مِن تكوين أسرة "مستقرة". لكنها ستتهمه بمحاولة التخلص من زوجها بعدما خمنت أنه هو الذي دبر له المال اللازم للتسلل إلى البلد المجاور، ليخلو له الجو معها ثم يرميها بعد ذلك، ليقترن بأخرى تماثله في مستوى تعليمه ووضعه الاجتماعي، ثم ستواجهه أمام أهل القرية، بعد ذلك، متهمة إياه بالتسبب في موت "عيسى" الذي تركه السمسار مع آخرين في وسط الصحراء، فمات عطشاً والتهمت الضباع أجزاءً من جسده.
تأتي النهاية بتلقي الطبيب الموافقة على طلبه النقل إلى مكان آخر، لكنه بلا شك سيظل أسير تلك التجربة بقية حياته، "لو لم أخض تجربتي مع "فرح"، لكانت هذه القرية مثل عشرات القرى الأخرى المنسية من آلاف السنين. هذه التجربة أعطتني لمحةً مِن الحلم الذي تبدد".
"طبيب أرياف"، تتحدث إذاً عن وباء ممتد يحصد الأرواح واقعاً ومجازاً بلا توقف، عبر محاولتها اختراق (بحسب ما ورد على غلافها الخلفي) القشرة البدائية التي تحيط بالريف المصري، والكشف عن أن القوانين البدائية هي السائدة، وأن هناك سلطة مطلقة تعتم عليها، وتستمد قوتها من جذور بعيدة. وهي على ذلك النحو حلقة مهمة في المشوار الأدبي للطبيب الصحافي السيناريست محمد المنسي قنديل (1949) الذي قدم خلاله عدداً من الروايات المهمة، مثل "قمر على سمرقند"، و"كتيبة سوداء"، و"يوم غائم في البر الغربي".