أظهرت الأزمة المالية العالمية في عامي 2007 و2008 نقائص عدة في المعيار المعتمد في اتفاق "بازل 2" الذي أقرته لجنة بازل للرقابة المصرفية، مما حدا بالأخيرة إلى إدخال تعديلات تمخضت عنها ولادة معيار "بازل 3"، والذي استهدف تعزيز مكونات وحجم رأسمال البنوك، والاهتمام بشكل أكبر بمخاطر السيولة وذلك بوضع معيار لها، بخاصة بعد انهيار مصارف عملاقة اعتمدت الاقراض العشوائي، أي ببساطة أقرضت من لا يستطيع السداد، ما تسبب بولادة فقاعة عقارية في السوق الأميركية، فكانت الشرارة التي أشعلت الأزمة المالية العالمية. اللافت أن الحديث عن متطلبات "بازل 3" غاب عن خطابات الساسة وصناع السياسات المالية والمصرفية في العالم، بالرغم من الآثار المدمرة التي خلفها وباء كورونا على الاقتصاد العالمي.
وفرض الوباء مجموعة تحديات على البنوك مع موجات الإغلاق الأولى في فبراير (شباط) ومارس (آذار) الماضيين، والثانية التي نشهدها اليوم في بعض دول أوروبا وآسيا، إذ تسببت في تخلف الأفراد والشركات عن سداد ديونهم المستحقة للبنوك، وكذلك في ولادة ديون متعثرة تقدّر بمليارات الدولارات. وأصبح تأجيل سداد الديون ومضاعفة الاقتراض من أجل البقاء، السمة الغالبة في حقبة كورونا، ما دفعنا إلى التوجه نحو محللين ماليين ومصرفيين للوقوف على وضعية البنوك العالمية والخليجية في ما يتعلق بمدى التزاماتها بمتطلبات "بازل 3"، وتحديداً الشق الخاص بمخاطر السيولة.
وقال المدير العام لشركة سولت للاستشارات المالية، طارق قاقيش، إن "الأوضاع الاقتصادية الحالية صعبة للغاية، إذ قامت الحكومات في جميع أنحاء العالم تقريباً بدعم الأفراد والأعمال التجارية من خلال المساعدة المباشرة أو من خلال البنوك. فمثلاً، قامت الإمارات بخطة تحفيزية من خلال إعطاء البنوك الصلاحيات لتأجيل القروض الخاصة بالأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى خفض الرسوم ومنح الإعفاءات منها". وتوقع أن تستمر البنوك بدعم عملائها، لكن الأهم من ذلك بالنسبة إليه هو "عملية إدارة السيولة بحذر".
نسب كفاية رأسمال البنوك الخليجية جيدة
ورأى قاقيش أن "البنوك في وضع لا تحسد عليه مع استمرار انخفاض نسب هوامش الفوائد، والارتفاع في نسب الكلفة إلى الأرباح، وتباطؤ القروض، واستمرارية الأخذ بالمخصصات وارتفاع نسب الديون المتعثرة"، لكنه لفت إلى أنه "بالرغم من كل هذه التحديات، لا تزال البنوك الخليجية آمنة. فعلى سبيل المثال نجد أن نسب كفاية رأس المال للبنوك الرئيسة في الإمارات عند مستويات 15-18 في المئة، ونسب تغطية الديون المتعثرة بحدود 100 في المئة، ونسب الودائع ارتفعت نتيجة ارتفاع صافي الودائع الحكومية في القطاع المصرفي والتي تساعد في خلق التوازن مع الانخفاض في صافي الودائع، إذ إن المؤسسات التابعة للحكومة تمثل حصة كبيرة من قطاع الأعمال".
وأوضح المدير العام لشركة سولت للاستشارات المالية أن مستويات نسب كفاية رأس المال خليجياً لا تزال جيدة، وأعلى من متطلبات "بازل 3"، فإن الحد الأدنى لنسبة كفاية رأس المال التي يجب على البنوك الحفاظ عليها هو ثمانية في المئة". (يقيس معدل كفاية رأس المال رأسمال البنك المتعلق بأصوله المرجحة بالمخاطر). وأضاف أن "نسبة الأصول المرجحة برأس المال إلى المخاطر تعمل على تعزيز الاستقرار المالي والكفاءة في النظم الاقتصادية في جميع أنحاء العالم".
ولفت قاقيش إلى أنه "مع استمرار جائحة كورونا ومواجهة العالم موجة ثانية من الوباء، وتداعيات ذلك على الاقتصادات العالمية بما فيها اقتصادات المنطقة، سيكون هناك تأثير سلبي في النمو الاقتصادي، نتيجة التحديات القائمة بما يتعلق بعودة النشاطات الاقتصادية والتجارية إلى وضعها الطبيعي. وبالنسبة إلى دولة مثل قطر، سنجد أن الكلفة الإجمالية للمخاطر بالنسبة للبنوك ارتفعت إلى نحو 70 نقطة أساس في النصف الأول من العام الحالي، من 50 نقطة أساس، كما قامت البنوك بأخذ مخصصات إضافية في الربع الثاني للتحوط عملياً من التوقعات بارتفاع الديون المتعثرة".
أما بالنسبة إلى السعودية، فقررت مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) تمديد فترة برنامج تأجيل الدفعات ثلاثة أشهر إضافية حتى تاريخ 14 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، لدعم قطاع الأعمال خصوصاً المنشآت المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، كما تم تأجيل بعض الدفعات المستحقة للبنوك، ما أثر في أرقام الربع الثاني، ولذلك لم نرَ ارتفاعات ملحوظة في نتائج البنوك، نتيجة موافقة "ساما" على تأجيل القروض المستحقة.
وبموجب "بازل 3"، فإن الحد الأدنى لمعدل كفاية رأس المال الذي يجب على البنوك الحفاظ عليه هو ثمانية في المئة، في حين تعزز نسبة الأصول المرجحة برأس المال إلى المخاطر، الاستقرار المالي والكفاءة ضمن الأنظمة الاقتصادية في العالم.
ويتم احتساب نسبة كفاية رأس المال من طريق إضافة رأسمال من المستوى الأول إلى المستوى الثاني من رأس المال، وتقسيمه على الأصول المرجحة بالمخاطر. ورأس المال من المستوى الأول هو رأس المال الأساسي للبنك، والذي يتضمن رأس المال السهمي والاحتياطات المفصح عنها، ويمتص هذا النوع من رأس المال الخسائر من دون مطالبة البنك بوقف عملياته، بينما يستخدم رأس المال من المستوى الثاني لامتصاص الخسائر في حال التصفية.
واعتباراً من عام 2020، وبموجب "بازل 3"، يجب أن يكون الحد الأدنى لنسبة كفاية رأس المال من المستويين 1 و2 (بما في ذلك احتياطي الحفاظ على رأس المال) عند 10.5 في المئة على الأقل من أصول البنك المرجحة بالمخاطر، وهو الذي يجمع بين إجمالي متطلبات رأس المال للثمانية في المئة، مع احتياطي حفظ رأس المال بنسبة 2.5 في المئة. يذكر أنه تم تصميم توصية احتياطية للحفاظ على رأس المال لبناء رؤوس أموال البنوك، والتي يمكن استخدامها في فترات الإجهاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيف تأثرت البنوك بتداعيات كورونا؟
من جانبه، قال المحلل في أسواق المال عميد كنعان، إن مصرف الإمارات المركزي كان من السباقين في تطبيق المعايير الدولية، لاسيما متطلبات "بازل3". وأضاف أن "البنوك الكبيرة في الإمارات مستوفية لمعايير بازل، لاسيما بعد عمليات الاندماج، وحتى قبل تلك العمليات كانت البنوك الكبيرة مستوفية لهذه المتطلبات. وفي ما يتعلق بباقي الدول الخليجية فإن الخيارات المتاحة أمامها محدودة جداً، إذ باتت عمليات الدمج بين البنوك أمراً حتمياً في المستقبل المنظور. وبادرت بعض الدول الخليجية إلى دمج عدد من بنوكها وأنشأت كيانات مصرفية كبرى على مستوى المنطقة الخليجية، واحتسبت هذه الخطوات لمصلحتها، فمن مصلحة هذه البنوك والدول حدوث هذه الاندماجات، بخاصة أن توقيت الاندماج حصل في أوج قوة تلك البنوك، كما أن العوامل التي كانت قائمة في ذلك الوقت سهلت عملية الاندماج أيضاً".
وعبر كنعان عن اعتقاده بأن "الاندماج بين البنوك في الخليج أصبح من متطلبات الكينونة والبقاء، ولابد منه للالتزام بكفاية رأس المال وفق "بازل3"، واستيفاء المتطلبات العالمية من أجل البقاء والاستمرارية وانتزاع حصة من أسواق المال العالمية".
وأشار أيضاً إلى أن "كفاية رأس المال لدى البنوك الخليجية جيدة، فهي التزمت بمعايير "بازل3"، وكانت الدول الخليجية سباقة في تحقيق الاندماجات، ما يعزز متطلبات "بازل3" والملاءة المالية للبنوك، وتوليف التركيبة المالية تماشياً مع المعايير الدولية"، محذراً من أن "من يتأخر عن الركب من البنوك سيخرج من أسواق المال". وزاد "لم تعد هناك خيارات أخرى، والخيار القائم هو إما الامتثال لمتطلبات رأس المال لـ "بازل3" أو الخروج من أسواق المال".
البنوك الصغيرة لن تبقى
كذلك توقع كنعان أن "نشهد خلال الفترة المقبلة المزيد من الهندسة المالية في ما يتعلق بالبنوك والاندماجات". ورأى أنه "لم يعد هناك مساحة للبنوك الصغيرة التي تقدم خدمات محلية، وبالتالي الخيارات المتاحة ستكون إما الاندماج أو الدعم من الحكومات أو الدول أو مغادرة الأسواق، ولن يكون هناك مجال في المرحلة المقبلة للحديث عن بنوك أو مؤسسات مالية صغيرة".
واعتبر أن "البنوك الصغيرة لن تبقى على قيد الحياة، بخاصة أن الاتجاه العالمي يسير نحو سيادة الشركات العملاقة والقواعد المصرفية العملاقة". وأضاف، "على مستوى الخليج رأينا ولادة كيانات عملاقة نتيجة اندماجات كبيرة سواء على مستوى الشركات أو البنوك، وبالتالي فإن عمليات الاندماج ستستمر خليجياً، وكذلك التوجه لتأسيس كيانات عملاقة في المنطقة الخليجية سيستمر أيضاً".
وتحدث كنعان عن تسريبات مفادها أن "بعض البنوك الكبيرة تدرس عمليات الاستحواذ على وحدات مصرفية إسلامية وعلى بنوك صغيرة سواء على مستوى المنطقة الخليجية أو العربية، وبالتالي هناك توجهات عامة للاستحواذ على بنوك صغيرة".
وقال "من أراد أن يبقى على خريطة الاقتصاد العالمي فعليه الالتزام بمعايير "بازل3"، بخاصة في ما يتعلق بكفاية رأس المال ومخاطر السيولة وغيرها من المعايير. والدليل على هذا الالتزام هو عدم رؤيتنا لبنوك تنهار خلال أزمة كورونا وتداعياتها كما حصل في توقيت الأزمة المالية العالمية عام 2008، ورأينا كيف انهارت بنوك عملاقة مثل بنك ليمان براذرز في الولايات المتحدة، وهذا يأخذنا إلى منحى آخر مرتبط بالتصنيفات الائتمانية، وهنا يجب أن نستذكر أن التصنيف الائتماني لبنك ليمان براذرز كان AAA، ما يجعلنا نتساءل عن البعد الآخر لهذه التصنيفات، والمراد منها ومدى ثقتنا بها".