بعد أيام من تجديد سنوية انتفاضة أكتوبر (تشرين الأول) في ساحات المحافظات العشر المنتفضة، أفاقت العاصمة بغداد صبيحة السبت 31 أكتوبر الماضي على إزالة جميع خيام المعتصمين في ساحة التحرير، ورفع الكتل الخرسانية من جسري الجمهورية والسنك، واعتقال كثير من الشباب المرابطين. وتمت العملية بسرعة من دون إراقة دماء، بسبب تواطؤ من داخل الساحة.
وفي رواية اقتحام ساحة التحرير، وفق شهود، إن قوة عسكرية كبيرة كانت تتجمع في منطقة البتاوين المجاورة للساحة. وتزامن ذلك مع انسحاب أتباع مقتدى الصدر من بناية المطعم التركي، وكذلك التابعين للأحزاب الموالية لإيران، الذين حملوا معهم الخيام ومؤن الطعام التي هي من تبرعات المواطنين أصلاً، مع فشل خطة الزحف من منطقة العلاوي القريبة من المنطقة الخضراء لإسقاط الحكومة والبرلمان في يوم تجديد الانتفاضة، جراء مماطلة بعض المؤثّرين في حركة المتظاهرين. وقد انسحب هؤلاء أيضاً، فغدت ساحة التحرير خالية إلا من قلة من الأحرار الخلصاء، فهجمت عليهم القوات الحكومية فجراً، وأنهت اعتصامهم بسهولة من دون استخدام السلاح، بل جرافات ورافعات تسابقت مع ساعات الزمن.
في ذلك اليوم، على حسابه في تويتر، غرد رئيس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، "شبابنا في ساحة التحرير ضربوا أروع الأمثلة الوطنية طوال عام كامل، اليوم يؤكدون شموخهم الوطني بإبداء أقصى درجات التعاون لفتح الساحة أمام حركة السير وإعادة الحياة الطبيعية. الانتخابات الحرة النزيهة هي موعد التغيير المقبل الذي بدأه الشباب بصدورهم العارية قبل عام. العراق لن ينسى شبابه".
في الواقع، لم ينتفض شباب العراق من أجل "الانتخابات الحرة النزيهة"، بل لإسقاط النظام السياسي الفاسد على مدى السنوات الـ17 الماضية، وبغداد لم تتوقف فيها "حركة السير" لتعود إليها "الحياة الطبيعية". كما لم يستطِع الكاظمي القبض على قناص واحد من قتلة المتظاهرين السلميين، ولم يتمكّن من إطلاق سراح مخطوف واحد من قبضة الفصائل الولائية، ولم يفِ بوعده بالكشف عمّن يقوم بعمليات الاغتيال، الموثّقة بالصوت والصورة، بحق الناشطين والناقدين للأحزاب والفصائل الموالية لإيران.
ثمة أمر آخر، إذا اقتحمت قوات الكاظمي مقر المعتصمين المدنيين في ساحة التحرير، فمعظم العراقيين يسألون، لماذا لا تستطيع قواته الدخول إلى قضاء جرف الصخر التابع لمحافظة بابل لتحرر أعداد هائلة من المخطوفين والمغيّبين من المحافظات ذات الغالبية السنّية، وتزيل ما أنشأته إيران من قواعد عسكرية وأمنية ومراكز تصنيع حربي، لا يجرؤ أكبر مسؤول حكومي أن يطأها؟
إن ردّ الفعل لدى الشباب المنتفض في بغداد، جاء مباشرة في اليوم ذاته من فتح الساحة، وذلك بالتظاهر تحت نصب الحرية في ساحة التحرير، في النهار كما في الليل. ولم يتوقف التظاهر بل ازداد. أما المحافظات المنتفضة في الوسط والجنوب، فاستمرت فيها المسيرات والتظاهرات، وتضامنت مع محتجّي بغداد، ونددت بقوة ضد ما جرى في ساحة التحرير.
ونقلت بعض وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي عن استخدام قوات مكافحة الشغب الرصاص الحي والقنابل الدخانية ضد المتظاهرين في محافظة البصرة، أقصى جنوب العراق، نتيجة شدة المواجهات التي كانت عنيفة كذلك في محافظات واسط وذي قار وبابل والمثنى والنجف وكربلاء وغيرها، ما يدل على أن الانتفاضة صامدة ومستمرة، ولكنها دخلت منعطفاً جديداً، وذلك بتخلّصها من شوائب المتواطئين وكشفها المندسين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن يوم الانسحاب من ساحة التحرير فصاعداً، فإن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر توقف عن التشدّق باسم الانتفاضة، وإن شكر خامنئي له على فعلته، زاده كشفاً وبُعداً عن الشباب المنتفضين، وانتهت محاولاته المتعددة في سلب مسيراتهم واحتجاجاتهم بالرفض التام له.
أما مخطط الكاظمي في تمييع ساحات الاعتصامات، وسحب المتظاهرين نحو الاشتراك في الانتخابات المقبلة وفق قاعدة يكوّنها لنفسه، خصوصاً بعد تجاوب البعض منهم، فإن هذا المسلك الذي حقق شيئاً ضئيلاً على أرض الواقع، إلا أن مكامن فشله تلوح في الأفق، منها سرعة تواصل التظاهرات في بغداد، سواء تحت نصب الحرية في ساحة التحرير أو التحشيد في ساحة الطيران، ما دفع قوات مكافحة الشغب إلى الاعتداء على المتظاهرين لمنعهم من الوصول إلى ساحة التحرير.
كما أن لتماسك التظاهرات في المحافظات واستمرارها تأثيرهما، خصوصاً في البصرة التي جابهت القمع الحكومي بإطلاق الرصاص الحي والقنابل الغازية ووقوع إصابات، منها الضحية أحمد هاشم جبار. وكذلك التحذير العشائري في ذي قار من استخدام القوة باقتحام ساحة الحبوبي عنوة، وتحذير ذوي الضحايا في بابل من فض الاعتصامات بالقوة. فالواضح هو استمرار الانتفاضة حتى تحقيق أهدافها. وعلى هذا النمط تسير احتجاجات المحافظات.
وهذا يعني أن الانتفاضة العراقية التي دخلت في منعطف جديد، أصبحت رؤيتها وتراصها أكثر توحداً. فما قام به الكاظمي ومجموعة مستشاريه من الصحافيين والناشطين، هو تحقيق ما عجزت عنه الأحزاب والفصائل الولائية في اختراق صفوف المتظاهرين والمعتصمين. والانتفاضة الآن تواجه حرباً ناعمة تغطيها وسائل إعلام، ولكن وعي الشباب جابهها فوراً، وحدّدوا الخلل الذي حدث داخل الساحة، ورتبوا أوضاعهم من خلال الإرادة الصادقة والنية الحسنة في إعادة رص الصفوف، وكذلك وجود قوى داعمة غير معلنة تؤازرهم عبر تشكيلات لجان التنسيقيات.
ومن أساليب المنعطف الجديد للانتفاضة، تنوع مواقع الساحات تجاه القوة المفرطة التي تستخدمها القوات الأمنية ضدهم. على سبيل المثال، في بغداد صارت ساحة الطيران مركزاً لانطلاق المحتجين نحو ساحة التحرير. وإذا استمر استخدام العنف فيها، فإن ساحة الخلاني ستكون بديلاً لها. وفي البصرة، فإن التجمع يجري في ساحة البحرية. وإذا كثرت الاعتقالات فيها سيتجه المنتفضون نحو ساحة أم البروم. وإذا تم منعهم، سيذهبون صوب ساحة العروسة، وهكذا. كما أن إصرار المتظاهرين على استعادة الساحات الرئيسة لرمزيتها، مثلما جرى في البصرة، يثبت أن الانتفاضة ما زالت حية وفاعلة في صدور العراقيين، وأنها تنتقل بحسب وجود أماكن المنتفضين حتى إنجاز أهدافها العادلة، التي سالت في سبيلها الدماء وزهقت من أجلها الأرواح.
ولعل الهتاف الذي صدحت به حناجر متظاهري بغداد، يختزل صورة المنعطف الجديد، "أصحوا أصحوا يا عبيد، الثورة عادت من جديد".