فتح الرئيس اللبناني ميشال عون في رسالته إلى اللبنانيين، السبت في 21 نوفمبر (تشرين الثاني)، لمناسبة الذكرى الـ77 للاستقلال، معارك متعددة مع الأفرقاء السياسيين المعارضين لمواقفه، فضلاً عن أن نص الرسالة تناول الأوضاع الاقتصادية والمالية المتردية منذ أكثر من سنة، فشكا منها مثل أي مواطن عادي وقع ضحية جائحة الفساد وآفة الهدر والمحاصصة والزبائنية، التي تسببت بانحدار الأوضاع المعيشية للبنانيين، موحياً بمسؤولية هؤلاء الأفرقاء عنها.
وتسبب هذا المنحى في نص الرسالة بانتقادات واسعة من قبل قوى سياسية عدة اعتبرت أن عون تصرف كأنه وفريقه "التيار الوطني الحر" الذي تمثّل في الحكومات كلها بحصة وزارية وازنة منذ عام 2009، ثم في السنوات الأربع الماضية من عهده الرئاسي، غير مسؤولين عما آلت إليه أوضاع البلد أسوة بالطبقة السياسية الحاكمة.
وفي وقت أخذ عون على نفسه عدم التراجع عن التحقيق المالي الجنائي في موازنة مصرف لبنان المركزي، الذي واجه عراقيل دفعت الشركة التي تعاقدت الحكومة معها من أجل إتمامه (ألفاريز ومارسال)، إلى إبلاغ وزارة المالية بوقف عقد التدقيق نتيجة عدم حصولها على الوثائق والمستندات المطلوبة من مصرف لبنان، فإنه ألحق رسالة الاستقلال برسالة أخرى في 24 نوفمبر إلى البرلمان، وفق صلاحياته الدستورية يطلب إليه "مناقشة هذه الرسالة وفقاً للأصول واتخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار في شأنها". ودعا عون إلى "ضرورة التعاون مع السلطة الإجرائية التي لا يحول تصريف الأعمال (الحكومة المستقيلة) دون اتخاذها القرارات الملائمة عند الضرورة العاجلة... تحقيقاً للإصلاح المطلوب".
رسالتان تعكسان عمق التناقضات اللبنانية
وعرضت الرسالة المراحل التي قطعها موضوع التدقيق الجنائي منذ اتخاذ القرار به في حكومة حسان دياب منذ مارس (آذار) الماضي. وسارع رئيس البرلمان نبيه بري إلى تحديد موعد لجلسة نيابية تعقد يوم الجمعة في 28 نوفمبر من أجل مناقشة مضمونها، وسط توقعات بأن تشهد تلك الجلسة سجالاً نيابياً يعكس الصراعات والتناقضات التي تتحكم بالمشهد السياسي والتي أدت منذ 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تاريخ تكليف زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري تأليف الحكومة الجديدة، إلى تعثّر ولادتها. فالتباين على أشده بين الأخير وعون في شأن تسمية الوزراء وتوزيع الحقائب، على الرغم من إلحاح المجتمع الدولي وفرنسا خصوصاً، على تسريع إنجازها على أن تكون من المستقلين غير الحزبيين، لتنفّذ إصلاحات عاجلة، وفق مبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون لمساعدة لبنان في الخروج من أزمته المالية الاقتصادية الخانقة.
لم تكن الرسالتان لتثيرا أي سجال لولا أنهما تعكسان تباعد المواقف اللبنانية وتربّص كل فريق بالآخر تحت شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد وعودة المؤسسات إلى العمل، بعيداً من هموم المواطن اللبناني وأوضاع السواد الأعظم من اللبنانيين المأساوية جراء تدهور سعر الليرة والمخاوف من نفاذ الاحتياطي المتبقي في المصرف المركزي، الذي سيؤدي إلى انهيار كامل.
اتهام الحريري بالاستقواء بالخارج والتعويض لباسيل
في رسالته لمناسبة الاستقلال، لم يوفر عون الحريري من هجومه، فدعا من دون أن يسمّيه إلى "تحرير تأليف الحكومة العتيدة من التجاذبات، ومن الاستقواء والتستّر بالمبادرات الإنقاذية للخروج عن القواعد والمعايير الواحدة التي يجب احترامها وتطبيقها على الجميع، كي يستقيم إنشاء السلطة الإجرائية وعملها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي وقت كان نواب كتلة "المستقبل" النيابية أحجموا عن توجيه الانتقادات للرئاسة بعد تكليف الحريري تأليف الحكومة، فسحاً في المجال لتفاهم الرئيسين، صدرت تصريحات تنتقد "العهد القوي"، من عدد من أعضاء الكتلة النيابية. فالخلاف بين عون والحريري يدور على انتقاد الأول وصهره النائب جبران باسيل للثاني بأنه خرق مبدأ المداورة بين الطوائف في توزيع الحقائب لاستثنائه حقيبة وزارة المالية من هذا المبدأ، بناء على ضغوط من "حزب الله" وحركة "أمل". وأصرّ عون وباسيل على الاحتفاظ بحقيبة الطاقة التي هناك تحفظ داخلي ودولي على تبوّئها من قبل "التيار الحر"، نظراً إلى فضيحة فشل وزرائه على مدى 10 سنوات في تأمين التيار الكهربائي، خصوصاً أن خسائر هذا القطاع بلغت زهاء 40 مليار دولار أي قرابة نصف الدين العام. كما أن الضربة التي وجّهتها الإدارة الأميركية إلى باسيل بفرض عقوبات عليه لتعاونه مع "حزب الله" ولاتهامه بالفساد تحت قانون "ماغنتسكي"، دفعت عون إلى التشدد بحقّه في تسمية 7 من الوزراء المسيحيين بالتشاور مع باسيل، من أصل 9 (في حكومة من 18 وزير)، في وقت اقترح الحريري أن يسمي عون اثنين فقط منعاً لحصول فريق الرئاسة على الثلث المعطل في الحكومة وتجنّباً لتعيين وزراء يدينون بالولاء لـ"التيار الحر"، بينما المطلوب أن يكونوا من المستقلين. فعون أراد التعويض لباسيل عن تراجع صورته كلاعب رئيس على المسرح السياسي اللبناني بعد العقوبات، ما يقضي على حظوظه كمرشح للرئاسة بعد انتهاء ولايته عام 2022.
التدقيق الجنائي واتهام البرلمان بالتقصير
ودفعت حملة عون على الحريري بعض أوساط "المستقبل" إلى التساؤل عما إذا كان هناك من جدوى من تعامل الحريري مع عون، في وقت شهدت اتصالات تأليف الحكومة جموداً، وأملت مصادر سياسية في تحرك فرنسي أوروبي جديد ضاغط من أجل خفض شروط عون التوزيرية.
لم تقتصر رسالة الاستقلال على توجيه عون السهام إلى الحريري، بل غمزت من قناة البرلمان، بالتالي بري، حين خاطب اللبنانيين معتبراً لا قيام لدولة قادرة في ظل الفساد، والبداية هي في فرض التحقيق المالي الجنائي، ثم عبر إقرار مشاريع واقتراحات قوانين الإصلاح والمحاسبة، والانتظام المالي الموجودة في مجلس النواب وفي مقدّمتها استعادة الأموال المنهوبة والمحكمة الخاصة بالجرائم الماليّة"... وأوحى عون بذلك أن البرلمان يقصّر في إنجاز قوانين محاربة الفساد.
ويقول مصدر سياسي بارز إنه فضلاً عن أن العناوين التي أثارها عون حول مكافحة الفساد والإصرار على التحقيق المالي الجنائي، تجعل الخطوة الأساسية الملحّة في مواجهة المأزق المالي، أي تأليف الحكومة في المرتبة الثانية من الأهمية، فإن هناك توجّهاً لدى عون من أجل تحميل مسؤولية الأزمة الاقتصادية المالية إلى ثلاثة فرقاء، عبر التحقيق المالي الجنائي هم بري والحريري ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط ووزراؤهم في الحكومات السابقة، إضافة إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، مع استمرار إنكار مسؤولية وزراء "التيار الحر" وباسيل عن الاشتراك في هدر المال العام. وفيما أيّد الفرقاء الثلاثة التدقيق المالي الجنائي، خصوصاً أنه أحد بنود الورقة الإصلاحية التي وضعها الجانب الفرنسي والتزموا بها أمام ماكرون، فإن المصدر السياسي يشير إلى أن بري والحريري وجنبلاط، يرصدون مؤشرات رغبة الفريق الرئاسي في توجيه الاتهامات إلى وزرائهم، ازدادت بعد العقوبات على باسيل عبر حملات مركّزة من أوساط إعلامية مقربة من عون على الهدر في وزارات ومؤسسات تولّاها من ينتمون إلى هؤلاء، لتحييد الأنظار عن الاتهام الأميركي لرئيس "التيار الحر".
ويعتبر المصدر السياسي نفسه أن بري ردّ على هذا الاستهداف بتحديد موعد لجلسة للجان النيابية المشتركة الأربعاء 25 نوفمبر، من أجل مناقشة مشروع قانون جديد للانتخاب بهدف تعديل الحالي الذي يعتبره طائفياً، في وقت يتمسك به عون و"التيار الحر"، ويلتقي بذلك مع حزب "القوات اللبنانية". وبين المشاريع المطروحة، ما اقترحته كتلة بري النيابية بانتخاب برلمان 2022 مع اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة على قاعدة النسبية وخارج التوزيع الطائفي والإبقاء على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، على أن ينشأ مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف. فالأطراف المسيحية الرئيسة تعتبر القانون الذي جرت على أساسه انتخابات عام 2018 الأفضل بالنسبة إلى المسيحيين لأنه أتاح اقتراع الناخبين المسيحيين لمرشحيهم، بدلاً من أن تحدد الأكثرية الإسلامية في دوائر عدة من يفوز منهم. وهي تعارض اقتراح بري بشدة إلى درجة اعتبر رئيس حزب "القوات" بأنه "مؤامرة". وعليه، هناك خشية من أن يتحول النقاش بشأن القانون إلى سجال طائفي في جلسة الأربعاء، وأن تتحول مناقشة رسالة عون إلى البرلمان إلى تقاذف للمسؤوليات عن الوضع الاقتصادي المزري وعن تحوّل مؤسسات الدولة إلى مصدر تنفيع للأزلام والمحازبين.