ملخص
يختلف المراقبون حول طبيعة تأثير مغادرة العمال السوريين في الاقتصاد التركي، فبينما يرى بعض المتابعين أن رحيلهم سيتسبب في تراجع الإنتاج، يرى آخرون أن هذا الأمر سيفتح فرص عمل أمام الشباب الأتراك.
"ربما لو كان الطيب صالح حياً لكتب عن موسم الهجرة إلى دمشق، كجزء آخر من روايته الشهيرة "موسم الهجرة إلى الشمال"، وهو القائل إن السودان بلد لا تقف عنده القوافل، تالله لو عاش في تركيا كلاجئ سوري لأدرك أن بلاده تقف عندها القوافل وترحل من إسطنبول، وهي، أي إسطنبول، التي تأسر قلب زائرها وتجبره على العودة إليها راغباً، لكن هذا الأسر وتلك الرغبة لم تزرع في قلب لاجئ ربما من حمدانية حلب أجبرته الهجرة على تحمل مرارة صاحب عمل تركي أو "أوستا" كما يلفظ باللغة التركية، ذلك الـ"الأوستا" أدرك صعوبة الطريق الذي مرت به التغريبة السورية فيرى أن السيئ للسوريين في بلاده أفضل لهم من أي شيء سبق، لذلك قرر أن يعطيه أقل من الحد الأدنى للأجور، إذ يؤمن قوت يومه ويعينه على أداء عمله، ضارباً بعرض الحائط أي معايير أخرى للعمل أو حقوق العمال، هذا ما قاله لاجئ سوري يريد العودة إلى وطنه.
قد لا يمثل ما كتب أعلاه رأي جميع العمال السوريين في تركيا، فهناك من أصحاب العمل الأتراك من يعامل السوريين كما يعامل أبناءه، ويؤمن لهم جميع حقوق العمال المنصوص عليها في القوانين المحلية، وعلى رغم ذلك يتجه معظم السوريين في تركيا للهجرة المعاكسة، فيعودون إلى وطنهم المنهك، مما قد يترك فراغاً في سوق العمل التركية، ويتسبب في تراجع الإنتاج وخسائر لبعض الشركات المتوسطة والصغيرة، لكنه، في المقابل، يساعد في خفض نسبة البطالة في تركيا وتراجع التضخم.
في هذا التقرير نرصد تأثير عودة العمال السوريين في الاقتصاد التركي.
الأرقام الرسمية
بحسب البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة العمل والضمان الاجتماعي في تركيا، كان عدد السوريين الحاصلين على تصريح عمل في تركيا عام 2011 هو 118 شخصاً فحسب، هذا الرقم ارتفع إلى 239 ألفاً بحلول 2023، وهذا العدد يشمل فقط العمال السوريين الحاصلين على تصريح رسمي بالعمل، بينما هناك ما يقارب نصف مليون عامل سوري في السوق التركية يعملون من دون تصريح.
رجل الأعمال التركي مسعود كايا يقول إن عدداً من العمال السوريين في معمل النسيج الذي يملكه في إسطنبول غادروا بالفعل، مشيراً إلى أن "هناك أزمة حقيقية في قطاع النسيج، هذا القطاع يعتمد بصورة أساس على اليد العاملة الأجنبية، والسوريين على وجه الخصوص، إذا أردنا أن نتحدث بموضوعية فإن الأتراك لا يجيدون العمل في هذا القطاع، لأن العمل في مصانع النسيج في غاية الصعوبة، العمال السوريون الذين يعملون لدينا ماهرون ويتقنون عملهم بشكل جيد".
يضيف كايا "الأحد عندما سقط نظام بشار الأسد كانت العطلة الأسبوعية في تركيا، في اليوم الثاني، أحد العمال لم يأت إلى العمل، لقد أدركت على الفور أننا مقبلون على أزمة ستسبب لنا بعض المشكلات، وتحتاج إلى معالجة، ونحن نطلب رسمياً من حكومتنا المساعدة، لأن تعطل قطاع النسيج على سبيل المثال يؤثر في الناتج المحلي لتركيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مصلحة مشتركة
على العكس تماماً يقول أحمد بيرات العضو في حزب "الظفر" المعارض في تركيا، إن "عودة العمال السوريين إلى بلدهم ستوفر ملايين فرص العمل للشباب الأتراك، أعتقد أن البطالة ستنخفض بصورة كبيرة للغاية خلال أشهر مع بدء العودة التدرجية للعمال السوريين، بالفعل لديهم هناك بلد مدمر بالكامل، ويحتاج إلى بناء من جديد، لا أعتقد أنهم سيبنون تركيا ويتخلون عن سوريا، وقد شهدنا موجات عودة لكنها أقل من المطلوب، رحيل السوريين سيسهم في نمو الاقتصاد التركي وكذلك الاقتصاد السوري، أعتقد أن هذا مصلحة مشتركة للبلدين".
يضيف بيرات "نحن سعداء بما حصل في سوريا، سقوط مجرم حرب مثل بشار الأسد يعد زلزالاً كبيراً، هذا الحدث المهم سيجلب الخير على المنطقة كلها، أولاً سيعود السوريون إلى بلدهم وتحل مشكلة اللجوء، وثانياً ستتوقف تجارة المخدرات، وثالثاً ستتحسن العلاقات السورية - التركية، سيصبح بيننا وبين سوريا تجارة، نحن لا نكره السوريين، ونشجعهم على العودة لبناء وطنهم، أما بالنسبة إلى الاقتصاد التركي فسيكون أفضل عندما يعتمد على اليد العاملة المحلية، وكما يقول العرب إن أهل مكة أدرى بشعابها، لذلك الأتراك أولى بأن يعملوا في بلدهم، وبناء سوريا واجب على السوريين، لذلك رحيلهم هو في غاية الإيجابية، والاقتصاد التركي سيتأثر بصورة إيجابية".
تأثير سلبي وآخر إيجابي
الباحث الأكاديمي أنس نزيبلي أوغلو يقول، من ناحيته، إن "مغادرة العمال السوريين من تركيا ستؤثر بصورة أو بأخرى في الاقتصاد التركي، سواء من الناحية السلبية أو الإيجابية، أولاً سيؤدي هذا الأمر إلى نقص العمالة، ونقص العمالة يؤدي بالضرورة إلى تراجع الإنتاج في بعض القطاعات خصوصاً تلك التي تعتمد على اليد العاملة السورية مثل البناء والزراعة وصناعة الألبسة والمنسوجات والخدمات، هذا النقص قد يؤدي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي وزيادة كلف الإنتاج، والمعاناة الكبرى ستكون لأصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة، لأن الشركات الكبرى يمكنها تعويض العمال السوريين بجنسيات أخرى وإن كانت الكلف أعلى"، ويضيف الباحث التركي "من جانب آخر قد يؤثر رحيل هؤلاء العمال في الاستهلاك المحلي، فمع مغادرة مئات الآلاف من الأشخاص سيقل الطلب على السلع والخدمات، مما قد يؤثر سلباً في الشركات المحلية ويؤدي إلى تقليل الإيرادات، كما أن رحيل السوريين سيؤدي إلى زيادة الضغط على النظام الاجتماعي والاقتصادي، إذ قد تحتاج الحكومة إلى توفير الدعم للقطاعات المتضررة من هذا التغيير المفاجئ، أما التأثيرات الإيجابية فتتمثل في توفير فرص عمل جديدة للشباب الأتراك، كما أن تراجع الطلب على السلع سيسهم جزئياً في خفض التضخم".
وعن الحلول البديلة أو المقترحة لتغطية النقص، يتابع الباحث التركي "هذا يعتمد على مدى سرعة تعويض العمالة من خلال توظيف عمال محليين أو جذب عمالة جديدة من الخارج، وفي حقيقة الأمر، الخياران يواجهان تحديات، إذ إن توظيف عمال محليين سيزيد من كلف الإنتاج لأن العمال الأتراك يطلبون أجوراً عالية إضافة إلى الضمانات الاجتماعية، أما بخصوص جلب عمالة جديدة من الخارج فهذا سيعيد إلى الواجهة قضية الوجود الأجنبي في تركيا، مما تسبب خلال الأعوام الماضية في حدوث أعمال شغب بين السوريين والأتراك، وأسهم في تنامي خطاب العنصرية، لذلك هناك مشكلة حقيقية تواجه الحكومة ووزارة العمل خصوصاً".
إذاً بالنتيجة، يتفق المراقبون على أن رحيل السوريين سيؤثر بصورة مباشرة في الاقتصاد التركي، ويختلفون حول طبيعة هذا التأثير، بين من يراه تأثيراً سلبياً سيضر اقتصاد تركيا الذي شهد تراجعاً ملحوظاً خلال السنوات الماضية، ومن يراه تأثيراً إيجاباً إذ سيفتح الأبواب أمام الشباب الأتراك العاطلين من العمل، لكن يتفق الجميع على أن رحيل العمال السوريين سيسهم في تراجع خطاب الكراهية تجاه الأجانب في تركيا، الذي كان طاغياً خلال العامين الماضيين.