منذ اندلاعها في العام 2011، شكلت الأزمة السورية مادة أولية للكثير من الأعمال الروائية التي راحت ترصد تداعياتها وانعكاساتها الخطيرة على البشر والحجر. لعل آخرها رواية "من التراب إلى الماء" للروائية اللبنانية/ السورية زهراء عبدالله (دار الآداب). فما التداعيات التي ترصدها وانعكاساتها على شخوص الرواية؟
بالدخول إلى الرواية من عنوانها، نشير إلى أن مفردتَي "التراب" و"الماء" تنزاحان عن المعنى المعجمي في العنوان إلى معان أخرى في المتن، تكتسب الأولى الزواج المبكر وداعش والفقر والحرب، وتدل الثانية على مغامرة العبور إلى الضفة الأخرى وما تنطوي عليه من مخاطر.
في روايتها، تتناول عبدالله النزوح السوري، في جلجلته المندلعة، منذ أعوام تسعة، بدءاً من التهجير من الوطن، إلى التخييم خارجه، وصولاً إلى مغامرة العبور نحو الضفة الأخرى من المتوسط. تروي ما له يتعرض النازحون من أخطار في كل مرحلة من الثلاث، وتقتفي مساراتهم الوعرة ومصائرهم الفاجعة في لحظة تاريخية حرجة، لم يُعرهم العالم "المتحضّر" خلالها سوى قليل الاهتمام، لتتحول الأزمة السورية إلى إحدى أبرز مآسي القرن الحادي والعشرين.
سما وأخواتها
تقارب الروائية النزوح وتداعياته، في حكاية سما و"أخواتها". ابنة خياطٍ سوري، تحلم، منذ صغرها، بأن تصبح مصممة فساتين أعراس، ويغذي الأب الخياط هذا الحلم فيها. غير أن اندلاع الأزمة السورية يضع حلمها في مهب الريح، فتُهجّر الأسرة من قبل النظام، لتلقي بها الأقدار بين يدي الشاويش الذي يقوم بتهريب النازحين إلى لبنان ويبتزّهم في أموالهم ومصائرهم. حتى إذا ما وضعت الأسرة رحالها في بلدة لبنانية تشي الرواية بأنها عرسال، تكون قد انتقلت من الوطن إلى مخيم الوطن، أو من "عيشة مبتورة في الوطن [إلى] عيشة كاملة مُذلّة تحت سقف هذه الخيمة"، على حد تعبير أمها (ص 83).
في المخيم، "ذاك الجحيم الذي يقرع أجراسه، يشدّ كل الذين وُجدوا فيه إلى أسفل إلى أسفل، حيث النار المُضْرَمَة تعتاش من لحمهم الحيّ" (ص 119)، ويخضع النازحون لقسوة الطبيعة وظلم الإنسان، ويصح فيهم المثل القائل، "الهرب من تحت الدلف إلى تحت المزراب"، وعليهم أن يعانوا تَغَولَ النظام، وتوحش داعش، وفقد الوطن، وذلّ التخييم، وابتزاز الشاويش، وشحّ الموارد، وقسوة الطبيعة، وغياب العالم. يزيد الطين بلة عادات وتقاليد يمارسها النازحون بعضهم على بعض، في طليعتها الإكراه على الزواج في سن غير قانونية، ما يقع على سما و"أخواتها".
في الخامسة عشرة من العمر، تقع سما ضحية زواجين متعاقبين تفصل بينهما مدة العدة فقط، ما يطيح أحلام الصبا في الحب والحياة، فترى في زواجها نوعاً من الموت، تعبّر عنه بالقول: "جربت القبر مرتين" (ص 18)، وتطلق على الزوجَيْن اسمَي مُنْكر ونكير، ويتحول الفستان الأبيض إلى كفن، وتجد نفسها "امرأة مطلقة في السابعة عشرة، في مجتمع لا ترحم فيه ذئابه، ولا حملانه. لكل منها أنيابٌ يُظهرها متى سنحت لهما الفرصة" (ص 18). ويأتي موت الأب في المخيم، ورغبة العم المقطوع الرجل في تزويجها من الشاويش الذي يبتزه في عصاه، ليُضيّقا دائرة الحصار عليها، ويُحدّدا خياراتها القليلة.
إزاء هذه الوقائع التي تُرهق كاهلها الطريّ، وتحدث فيها صدوعاً عاطفية، وثقوباً نفسية، تلجأ سما إلى آليات الدفاع المتاحة لها، سواءٌ مشروعة أو غير مشروعة، ففي الظروف الاستثنائية تبيح الضرورات المحظورات. تقوم بسرقات صغيرة ردماً لثقوبها النفسية ما يشعرها بالأمان، وتنخرط في علاقة حب مع باسل، جارها في المخيم، الذي يبادلها الحب ويطمح إلى الارتباط بها، في محاولة منها لترميم صدوعها العاطفية. ويعود حلمها القديم في تصميم الأزياء إلى الظهور.
في غمرة هذه الوقائع، يتفق الحبيبان على الرحيل بحراً إلى إيطاليا، هرباً من الشاويش والعم، من جهة، وسعياً وراء حلمهما المشترك في الزواج وتصميم الأزياء، من جهة ثانية. يرتكبان فعل الخيانة لتأمين المال اللازم لتحقيق مغامرتهما؛ فتقوم برهن بطاقة الأسرة لدى صاحب السوبرماركت حارمةً إخوتها من فرصة الحصول على الطعام، ويقوم هو بمصادرة مهر أخته الصغيرة ورد حارماً إياها من فرصة العملية الجراحية لعلاج عينيها. بذلك، نكون إزاء شخصيتين ماركنتيليتين، الغاية عندهما تبرر الوسيلة.
ماء الأحلام
خلال الهرب من "تراب" الوطن والمخيم والنظام وداعش والحرب واللجوء إلى "ماء" الأحلام، ينتقل الحبيبان الهاربان من "دلفة" شاويش المخيم إلى "مزاريب" المهرب الوسيط والمهرب الكبير، في رحلة بحرية، بدءاً من طرابلس، مروراً بمرسين وأضنا وإزمير، وصولاً إلى بحر إيجة، يعانيان خلالها الذل والجوع والتشرد والنوم في العراء، ويترجحان بين ألم الرحيل وأمل الوصول، ويستشعران الندم والخوف من المجهول. وإذ يتكامل، من منظور سما، العبور إلى باسل مع العبور إلى الحلم الإيطالي، فهي تنجح في تحقيق الأول عشية البدء بتحقيق الثاني، وتعبر من "التراب الزوجي إلى ماء الحب النقي" (ص 189)، لكنها تفشل في تحقيق العبور الثاني، وتكون النهاية الفاجعة لجميع العابرين بالغرق في بحر إيجه، المأساة التي لا تزال تتوالى فصولاً منذ اندلاع الحرب. بذلك، لا يكون الماء جسر خلاص للهاربين من التراب، ويتحول إلى تراب آخر، يزيد في ترابيته أنه بعيد عن الوطن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحكاية المأساة تضعها زهراء عبدالله في ست وخمسين وحدة سردية، قصيرة أو متوسطة، وتوكل مهمة الحكي فيها إلى راوييَيْن؛ الأول من منظور الراوي العليم يروي في أربعين وحدة سردية حكاية سما و"أخواتها" من النازحات القاصرات، ويشكل رَوْيُهُ إطار الأحداث، والثاني، سما نفسها تروي حكايتها في ست عشرةَ وحدة سردية، من منظور الراوي الشخصية، يشكل رَوْيُها جزءاً من المحتوى الروائي، ورواية فرعية داخل الرواية الأصلية. الرواية هي هذا التفاعل الجدلي بين ما يرويه الراويان العليم والشريك. على أن العلاقة الزمنية بين الأحداث تختلف بين الإطار والمحتوى، ففي حين يراعي الراوي العليم المسار الخطي المتسلسل للزمن، يقوم الراوي الشريك بتكسير الخطية التسلسلية، فتتناثر وحداته السردية على الأزمنة المختلفة من دون معيار واضح إلا ما ترتئيه الكاتبة من توزيع يخضع لذائقتها الفنية، ويكون على القارئ أن يجمع أجزاء الحكاية المتناثرة على الوحدات المختلفة. بذلك، تجمع عبدالله بين التقليد والتجديد في مقاربة خطابها الروائي. وتأتي اللغة الروائية التي يكثر فيها السرد ويقلّ الحوار لتناسب اللحظة التاريخية للرواية والعالم المرجعي الذي تمتح منه أحداثها، حيث يطغى صوت الحرب على ما عداه، ويغيب الحوار عن برنامج المتحاربين. ولعل إيثار الكاتبة الجمل القصيرة والمتوسطة يسهم في ترشيق لغة الرواية، ويشكل قيمة مضافة إلى روائيتها.
بهذا الخطاب، وتلك الحكاية، تقدم زهراء عبدالله نصاً روائياً رشيقاً، يمتع ويفيد، ويلقي ضوءاً آخر على المأساة السورية التي لمّا تنتهِ فصولها بعد. غير أنه نص يفتقر إلى الموقف الشخصي (وجهة نظر، كما يقال في النقد) في النظر إلى تلك المأساة، فالكاتبة تتخذ موقفاً حيادياً ممّا يجري، وتتجنب تحديد المسؤول عنه، مكتفية بسرد الوقائع القاسية للنزوح ومشتقاته، ولا تكفي الملاحظات الخجولة عن قيام النظام بالتهجير لتحديده.