بعد أكثر من دعوة أثارت الجدل في الأوساط العراقية، أطلق زعيم التيار الصدري في العراق مقتدى الصدر دعوة لإعادة ترميم "البيت الشيعي"، بعد أيام من أحداث مدينة الناصرية الأخيرة، ما أثار موجة انتقادات واسعة. ولا تخرج تلك الدعوة عن سياق الحديث عن مخاوف الصدر، التي لم يعد يخفيها، حيال ما يتعلق بحراك الانتفاضة العراقية، والتي بدأ منذ فبراير (شباط) الماضي، باتخاذ خيارات مناوئة لها، إثر محاولاته فرض مرشح لرئاسة الوزراء على ساحات الاحتجاج. ويرى مراقبون أن مواقف الصدر الأخيرة تأتي في إطار محاولاته إعادة ترميم تياره، الذي شهد انشاقاقات عدة على وقع تأثير الانتفاضة.
البيت الشيعي واستمرار الدعاية المبكرة
وتأتي دعوة الصدر تلك، بعكس مطالبات الشارع العراقي بالعبور من الطائفية ودولة المكونات، التي عبّرت عنها انتفاضة أكتوبر (تشرين الثاني) بشكل متكرر، الأمر الذي عدّه مراقبون استكمالاً للدعاية المبكرة التي بدأها التيار الصدري، فضلاً عن كونها رسالة سياسية إلى أطراف عدة، من بينها طهران. وقال الصدر في بيان، إنه "في خضم التعدي الواضح والوقح ضد الله ودينه ورسوله وأوليائه من قبل ثلة صبيان لا وعي لهم ولا ورع، تحاول من خلاله تشويه سمعة الثوار والإصلاح والدين والمذهب، مدعومةً من قوى الشر الخارجية، ومن بعض الشخصيات في الداخل، أجد من المصلحة الملحة الإسراع بترميم البيت الشيعي من خلال اجتماعات مكثفة لكتابة ميثاق شرف عقائدي وآخر سياسي... بمنهج إصلاحي وحدوي نزيه بلا فاسدين ولا تبعيين"، مردفاً "فهل من مجيب؟".
"البيت العراقي" مقابل "البيت الشيعي"
وقوبلت دعوة الصدر برفع المحتجين في الناصرية وبغداد ومحافظات أخرى لافتات حملت شعار "البيت العراقي"، خلال إحيائهم تظاهرات "جمعة الناصرية"، والتي أعدّ لها ناشطون قبل أيام على إثر مقتل 7 أشخاص وإصابة 90 آخرين خلال اقتحام أتباع التيار الصدري ساحة الحبوبي وسط مدينة الناصرية، الأسبوع الماضي.
في السياق، قال الناشط البارز في مدينة الناصرية، حسين الغرابي، إن "تظاهرات اليوم التي شهدتها المدينة أعادت أجواء ثورة تشرين، وأتت رداً على ما حصل في مجزرة الناصرية قبل أسبوع، فضلاً عن أنها حملت رداً على الدعوة إلى البيوت الطائفية". وأضاف أن "دعوة إعادة إحياء البيت الشيعي تؤكد مخاوف الصدر من حراك الثوار، بعد أن كان يروّج لبقية الفرقاء الشيعة بأنه قادر على السيطرة على ثورة تشرين"، مبيناً أن "الثوار رفعوا في المقابل شعار البيت العراقي تأكيداً على التزامهم بالوطن كعنوان جامع للعراقيين".
استكمال الدعاية الانتخابية
ويبدو أن توقيت دعوة الصدر لترميم "البيت الشيعي"، مرتبط بسياق استكمال دعايته الانتخابية المبكرة، والتي بدأها بالحديث عن "الأغلبية الصدرية" في الاستحقاق المقبل، وحصد منصب رئيس الوزراء، فضلاً عن حشد أنصاره للتظاهر يوم الجمعة الماضي، لتعزيز هذا الخيار.
ولعل ما جرى في الناصرية، جعل الصدر يدرك أن حجم تياره وقدرته على الحشد لا يكفيان لتمكينه من الوصول إلى منصب رئاسة الوزراء، بقدر بناء التفاهمات والتوافقات مع القوى الشيعية الرئيسة الأخرى، الأمر الذي دفعه إلى إطلاق دعوة "البيت الشيعي".
في السياق، رأى أستاذ العلوم السياسية إياد العنبر أن "دعوة الصدر تحمل تفسيرين، الأول أنه يريد توجيه ضربة استباقية إلى حراك القوى الشيعية المناوئة له، والتي تحاول ترميم صفوفها قبل الانتخابات، بعد حديثه عن أن منصب رئاسة الوزراء سيكون من حصة التيار الصدري الذي سيفوز بأكثر الأصوات. أما التفسير الآخر فيتعلق بمحاولات الصدر تصوير نفسه على أنه مع الإجماع الشيعي لترتيب أوراقه مع القوى الأخرى من أجل تحقيق غايته بالظفر برئاسة الوزراء".
ولعل المشكلة الرئيسة أمام الدعوة إلى إعادة ترميم "البيت الشيعي"، بحسب العنبر، تتمثل بـ"عدم قناعة الشارع الشيعي بتأدية القوى الشيعية لوظائفها، الأمر الذي يدفع للاعتقاد بأنها دعوة للتكتل بين القوى السياسية بوجه الشارع المحتج الذي أعلن صراحة كسره جمود الاحتكار الطائفي، وبات يرفع شعارات وطنية عابرة للطائفة".
ورجّح العنبر أن تكون تلك الدعوة "مناورة أو تكتيكاً لترتيب مستقبل التحالفات المقبلة المؤدية لنيل منصب رئيس الوزراء"، لافتاً إلى أن "حديث الصدر الأخير، ربما يحمل دعوة للعودة إلى سيناريو التوافقات الطائفية ما قبل الانتخابات، ومحاولة إحياء تجارب التحالفات الشيعية التي أثبتت فشلها في السابق وانشأت المأزق العراقي الحالي".
تقارب مع المالكي
وتأتي تلك الدعوة على بعد أيام من التسريبات التي تحدثت عن تقارب محتمل بين زعيم "ائتلاف دولة القانون" نوري المالكي وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. وأبدى قياديون في "ائتلاف دولة القانون" حماسةً إزاء هذا التقارب، حيث صرح القيادي في الائتلاف حيدر اللامي، في 1 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، إنه "لا يوجد خلاف شخصي بين المالكي والصدر"، داعياً الطرفين إلى التقارب.
واعتبر اللامي أن "الأضلاع القوية للشيعة هي التيار الصدري ودولة القانون وتحالف الفتح".
في المقابل، صرح النائب عن تحالف سائرون رياض المسعودي يوم الخميس 3 ديسمبر، أن "تغريدة الصدر يوم أمس (الأربعاء) تضمنت شقين، عقائدي وسياسي، ولا ترتبط بمفهوم الانتخابات والتحالفات، وإنما وحدة الكلمة سياسياً وعقائدياً، بمعنى وضع أطر عامة لمواجهة التحديات أمام المكون الشيعي". وأضاف أن "التيار الصدري وضع هذه الدعوة أمام الجميع ولم يعنِ طرفاً من دون آخر كما لم يقصد بها التحالف مع ائتلاف دولة القانون كما أُشيع، فالتيار جهة سياسية واضحة المعالم ومَن يرغب بالتفاعل إيجاباً مع مشروع الصدر ونداءاته فأهلاً به".
عزلة الصدر وحاجة طهران لحلفاء
ويرى مراقبون أن النفوذ الإيراني في العراق خلال المرحلة الحالية يمر بظروف سيئة، الأمر الذي قد يدفعها إلى البحث عن بدائل لدعمه من خلال استغلال دعوة الصدر الأخيرة لترميم البيت الشيعي.
ولعل ما يدعم هذا الخيار، هو تراجع أدوار حلفاء طهران الرئيسيين في العراق، الذي عبّر عنه زعيم "عصائب أهل الحق" قيس الخزعلي بشكل صريح، إذ قال في لقاء متلفز قبل نحو أسبوعين، "أصبحنا أقلية، لعدم مجيء رئيس وزراء من اختيارنا بشكل كامل".
وتعطي دعوة الصدر تلك انطباعاً بأنها موجهة بشكل حصري لـ "التيارات الولائية"، خصوصاً مع حديث زعيم "تيار الحكمة" عمار الحكيم المتكرر عن الكتلة العابرة للمكونات. وكتب الحكيم تغريدة على صفحته في "تويتر"، بعد ساعات على دعوة الصدر، قال فيها إن "الشباب والمشاريع الوطنية والكتلة العابرة للمكونات، استشرافات مبكرة لحلول باتت ضرورية".
واقترب خطاب الصدر في الأشهر الأخيرة بشكل كبير من خطاب التيارات الموالية لإيران في ما يتعلق بالموقف من الانتفاضة العراقية، من خلال استخدامه ذات الاستعارات في توصيف ناشطي الاحتجاجات، من قبيل "الجوكر" و"الجهات المدعومة خارجياً". وعلى الرغم من التوقعات بأن دعوة الصدر ستلاقي ترحيباً فصائلياً، إلا أن أي مواقف واضحة من تلك الدعوة لم تصدر حتى الآن، والتي ربما تتأخر بانتظار الموقف الإيراني منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إيران والمخاوف من الصدر
ويعتقد متابعون أن مناوأة الصدر للانتفاضة في الفترة الأخيرة ومواقفه السابقة من التيار الولائي، وضعته في عزلة يحاول تجاوزها من خلال الدعوة إلى ترميم البيت الشيعي.
ويرى الكاتب هشام الموزاني أن "الصدر أدرك أخيراً أنه بات يتحرك في سياق منفرد، من خلال إعلان العداء الواضح للقوى المدنية المتمثلة في الانتفاضة من جهة، ومخاوف التيارات المسلحة المستمرة منه من جهة أخرى"، مبيناً أن "عزلة الصدر تلك هي التي دفعته لمحاولة التمترس في إطار البيت الشيعي، كدعوة ربما تستهوي حلفاء طهران من جديد".
ويشير الموزاني إلى أن "الصدر يعتقد بإمكانية تصوير نفسه في المرحلة الحالية كبديل شيعي ناجع بالنسبة لطهران"، لافتاً إلى أن هذا الأمر "يواجه تحدياً آخر يرتبط بالاستراتيجية التي تنتهجها طهران في عدم حصر ريادة الجبهات الموالية بتيار واحد خوفاً من احتمالية الانقلاب عليها". وإضافة إلى تلك المخاوف، يلفت الموزاني إلى أن "طهران ربما تتخوف أيضاً من التقلبات المستمرة في مواقف زعيم التيار الصدري ما يعرقل إمكانية إعطائه تلك المساحة".
تقبل طهران وممانعة حلفائها
وانتهج الصدر ثلاثة مسارات منذ مقتل القائد السابق لـ"فيلق القدس" الإيراني قاسم سليماني، ضمن محاولات إقناع صانعي القرار في طهران بأنه يمثل البديل القادر على ضبط إيقاع المشهد الشيعي في العراق، تمثلت بـ"محاولات إضعاف الحراك الاحتجاجي المناوئ لنفوذ طهران، وقدرته على التحشيد في الشارع، فضلاً عن طرحه خيار توحيد الجبهات المناهضة للوجود الأميركي".
ويشير الصحافي محمد حبيب إلى أن ثلاثية الصدر تلك تمثل "إغراءً لطهران التي ربما تسمح له مرحلياً بتسيّد مشهد حلفائها في محاولة ترميم وضعها في العراق وتجاوز قواعد اللعب التي اعتمدتها سابقاً في تفتيت التيارات الموالية لها".
ويرى حبيب أن الاستراتيجية الإيرانية في التعامل مع وكلائها في العراق والتي كانت تقتضي بـ"عدم تسييد طرف على الأطراف الأخرى الحليفة لها في العراق، وحرصها على جعلهم أكثر من 40 فصيلاً، كما حصل إبان تشكيل الحشد الشعبي، ما مكنها من المناورة في حال تمرد أي فصيل". إلا أن وضع إيران في العراق بات مختلفاً في الفترة الحالية، بحسب حبيب، إذ لفت إلى إمكانية أن "تبادر طهران إلى إغراء الصدر بدور الزعامة والموافقة على ذلك، بعد تضاؤل أدوار وكلائها وتكرار حديثهم عن الضعف الذي يمرون به".
ولفت حبيب إلى أن "الإشكالية لن تكون متعلقة بالإرادة الإيرانية في هذا الإطار، بقدر تعلقها بعدم تقبل حلفائها فكرة أن يدينوا بالولاء لأي شخصية، لأنها ستكون بالنسبة لهم مسألة وجود، وحينها لن تعود هناك قيمة لطاعة صانعي القرار الإيراني"، مبيناً أن تلك المجموعات "ترفض الاندماج في ما بينها على الرغم من تبنيها ذات الأيديولوجيا، نتيجة تشعب المصالح السياسية والمالية لكل مجموعة. وأي محاولة لإجبار تلك الأطراف على الانضمام تحت لواء قيادة مركزية قد تقود إلى تداعيات خطرة على إيران نفسها، وربما تدفع بعض الفصائل الموالية لها إلى التمرد".
وختم حبيب قائلاً إن "ما يعقد إمكانية تطبيق تلك الرؤية، هو أن الصدر لن يقبل سوى بمشهد الزعامة، التي تمثل الهاجس الدائم الذي يراوده في جميع تنقلاته بين السياسة والاحتجاج والسلطة".