شهدت المناطق الشمالية والغربية من إيران هطول أمطار غزيرة منذ أواسط الشهر الماضي بعد فترة جفاف دامت عدة سنوات. وقد تأثر إقليم عربستان بهذه الأمطار منذ 30 مارس (آذار) عندما فاضت أنهر كارون والديز والكرخة التي تنبع من أعالي جبال زاغروس. وتأثرت بعض مدن إقليم لورستان الجبلي الواقع في شمال عربستان ايضا بالفيضانات، إلا أن الدمار والخراب في سهل عربستان وبسبب الطبيعه المسطحة للأرض والدور السلبي للحكومة الإيرانية كان أشد بل وأخذ يهدد الوجود العربي التاريخي في هذا الإقليم.
في جانب من وظائفها، أصبحت السدود التي تمت إقامتها في أعالي الجبال على هذه الأنهر في عهدي الشاه والجمهورية الإسلامية، أداة لتفريغ مياه هذه السدود أكثر من المعتاد، بل وأحيانا استغلالها لأغراض سياسية لتذكير الأهوازيين بأن السلطة المركزية يمكن أن تستخدم هذه الأداة في حال عصى العرب أمر الحكام في طهران.
وقد أعلن وزير الداخلية الإيراني أن السيول أوقعت أضرارا بلغت نحو 35 الف مليار تومان في إيران واجتاحت لحد اللحظة أكثر من 250 قرية في عربستان (إقليم الأهواز) فقط.
وخلافا للحالات المماثلة في الدول الأخرى، لم تتدخل القوات المسلحة الأيرانية، لاالجيش ولا الحرس الثوري، في عمليات إقامة السواتر والإغاثة، واقتصر الأمر على المتطوعين العرب الذين هبوا لنجدة بني جلدتهم من الساحل الشرقي للخليج الى إقليم عربستان (من جنوبه الى شماله). وقد كان ذلك انتهاكا للمادة 147 من دستور الجمهورية الإسلامية الذي ينص على أنه " ينبغي استخدام الجيش وأجهزته للإغاثة والبناء في زمن السلم"، بل وكان موقف السلطة الإيرانية وخاصة الحرس الثوري سلبيا رغم زيارات قادتهم الاستعراضية للمناطق المنكوبة وجلب ميليشيات شيعية حليفة لهم لما يسمى بالإغاثة ولكن في الحقيقة لأغراض أخرى.
وقد وصف البعض السيول بـ"المفتعلة" و"المفروضة"، فيما يرى البعض الآخر أن هناك سوء تدبير وسوء إدارة من قبل الحكومة الإيرانية، ليس في مواجهة السيول ومعالجتها في الإقليم فحسب، بل وفي إدارتها قبل الفيضانات وبعدها. بمعنى أن الحكومة ورغم علمها قبل أربعة أشهر من وقوع الفيضانات - وفقا لتوقعات مراكز الأرصاد الجوية - لم تحرك ساكنا لتفريغ مخازن السدود قبل هطول الأمطار. والأسوأ من ذلك منعت الحكومة المزارعين العرب من زراعة الرز (الشلب) في الصيف المنصرم بحجة شحة المياه المخزنة وراء السدود فيما حرفت مصادر مياهها الى المدن الفارسية وسط إيران.
وقد اتهم نواب مدن الصالحية (انديمشك) والفلاحية والخفاجية حكومة روحاني وخاصة وزراء الطاقة والنفط بالقصور والخيانة مطالبين بمحاكمتهما. لكن الأمر أوسع وأعمق من ذلك، والمتهم، أكبر من هؤلاء.
المناطق المحظورة
حرصت السلطة - ولاسيما الحرس الثوري - ان تحول دون اجتياح الفيضانات، منطقتين محظورتين، ولو على حساب إغراق قرى ومزارع وبساتين ونفوق مواشي القرويين العرب: الأولى، مزارع قصب السكر الحكومية والأخرى، حقول النفط ومنشآته في هور الحويزة الواقع بين إقليم عربستان (إيران) والعراق.
وقد فتحت قوات الحرس الثوري، سواتر ترابية عديدة أقامها الأهالي على ضفاف نهري كارون والكرخة لبلوغ هذا الهدف، مما اثار غضب المزارعين العرب ومقاومتهم لهذه الأعمال التمييزية، أدت الى مواجهات بين قوات الحرس الثوري والقرويين، سقط خلال إحداها، المزارع عبود خلف الجليزي قتيلا وعدة جرحى برصاص عناصرالحرس الثوري في قرية الجليزي التابعة لمدينة الخفاجية يوم 4 أبريل (نيسان) 2019.
لكن رغم ذلك تمكن القرويون من فتح ثغرات في السواتر الترابية لنهر كارون لتجري الفيضانات على معظم مزارع قصب السكر الحكومية المغتصبة اساسا من أراضي العرب، ليخففوا من السيول التي دمرت مزارعهم. غير أن الأمر يختلف تجاه حقول النفط في هور الحويزة، اذ نشر الحرس الثوري والأمن الإيرانيين عناصر ودبابات في محيط الهور للحيلولة دون محاولات القرويين لإدخال مياه نهر الكرخة اليه. ونحن نعلم أن هور الحويزة، وعبر الوف السنين، يُعد المصب الطبيعي لنهر الكرخة. وقد جففت شركة النفط الإيرانية قبل سنوات، مساحات واسعة من هور الحويزة لتمكن الشركات الصينية من التنقيب عن النفط واستخراجه بسهولة، فيما يتم استخراج النفط من البحوروالمحيطات بتقنية حديثة لم تملكها إيران أو لم ترغب في استخدامها لأسباب أخرى، وقد أدى ذلك الى تدمير البيئة الطبيعية وبروز ظاهرة الأعاصير الترابية التي يعاني منها الإقليم بين الحين والآخر.
وعلمت من مصادر أهوازية أن إيران لم تكتف باستخراج النفط من الآبار الواقعة في القسم الإيراني لهور الحويزة، بل تسحب النفط أيضا من حقل "مجنون" العراقي بموافقة ضمنية من الحكومة والمليشيات العراقية التابعة لفيلق القدس وقائده قاسم سليماني.
المطلوب "أراضٍ بدون شعب"
تعمل في حقول هور الحويزة، عدة شركات صينية بالتعاون مع شركات إيرانية تابعة لشركة النفط الإيرانية، وأخرى تتبع بشكل مباشر وغير مباشر قوات الحرس الثوري. فهذه الحقول أيضا تقع ضمن منطقة غنية بالنفط توصف في قاموس شركة النفط الإيرانية بحقول "غرب كارون" للنفط ، والتي يحدها نهر كارون شرقا وهور الحويزة غربا ومدينة الخفاجية شمالا ومدينة المحمرة جنوبا.
وقد قال لي خبير في شؤون النفط الإيراني إن الحكومة الإيرانية عقدت اتفاقية مع الحكومة الصينية قبل خمس سنوات، تستخرج بموجبها الشركات الصينية، النفط من حقول هور الحويزة لمدة عشر سنوات، تستورده مجانا لمدة خمس سنوات عرفانا لمواقف الصين السياسية والاقتصادية الداعمة لإيران. وبموجب هذا الاتفاق ومقابل النفط المستخرج لصالح الشركات الصينية، ستترك هذه الشركات، منشآتها النفطية للحرس الثوري بعد السنوات الخمس الأولى. وقد انقضى نحو أربع سنوات من هذا الاتفاق ولم يبق إلا عام واحد وسيستحوذ الحرس الثوري على تلك المنشآت. وهذا يظهر سبب استماتة الحرس في حراسة هذه الآبار ومنشآتها. كما ستسدد الصين-لمدة 5 سنوات بعد العام 2020-ثمن النفط المستخرج من هذه الآبار بسلع ستصدرها الى إيران وذلك هربا من العقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ويطرح صمت الشركات الغربية وحكوماتها – البعيدة، ظاهرا من هذه الصفقات - إزاء مايجري حاليا في إقليم عربستان والكوارث التي تحل بالشعب العربي الأهوازي، يطرح سؤالا كبيرا: هل الصين والشركات الصينية هي اللاعب الوحيد فيما يجري على أراضي آبائنا وأجدادنا؟ أم أن هناك دوراً للبنوك والشركات الغربية لم نره بالعين المجردة؟
إن الأمر لا يقتصر على منطقتي حوضي نهرالديز ونهر الكرخة بل يشمل حوض نهر كارون الذي أغرقت الفيضانات الجارية منه، المزارع والنخيل وبعض القرى الواقعة على ضفتيه. كما اتسعت السيول خلال الأيام الماضية لتصل الى قرى واقضية مدينة الفلاحية الواقعة في جنوب شرق عربستان. فهنا توجد حواجز مصطنعة على نهر سيحان (بهمنشير) - الذي يربط نهر كارون بالخليج - تحول دون وصول السيول الى الخليج. وكما سمعت من عناصر عليمه في الفلاحية أن شخصيات نافذة قريبة للسلطة أقامت هذه الحواجز والسدود.
رد فعل الشعب
أدركت الجماهير الأهوازية بوعيها واستنادا على معرفتها التاريخية بمخططات النظام الإيراني الرامية الى تغيير ديمغراقية الإقليم على حساب العرب أي السكان الأصليين. اذ شاهدنا في الفيديوهات والتسجيلات الصوتية والصور، مدى اتساع هذا الوعي القومي والإحساس بالخطر الداهم الذي يهدد الوجود العربي في عربستان. وقد تجلى ذلك في مواجهة الناس للمسؤولين الكبار والصغار، العسكريين منهم والمدنيين. والسلاح هو الزجل المرافق لـ"الهوسة" الأهوازية وهي الدبكة التي تشحذ همم الذين بذلوا جهداً كبيراً لإقامة السواتر الترابية. وكان للمرأة العربية دور في الإغاثة وتحفيز الرجال في ساحات الكفاح ضد طغيان الطبيعة بل وأحيانا المشاركة الى جانب الرجال.
كما شهدت عدة احياء في مدينة الأهواز العاصمة تظاهرات تشجب أداء الحكومة الإيرانية وتؤكد على عروبة الأرض وضرورة الدفاع عنها. وقد تلى ذلك، اعتقالات شملت العشرات من القائمين على حملات الإغاثة والمشاركين في التظاهرات.
وقد جلب الحرس الثوري المليشيات الشيعية العراقية (الحشد الشعبي وعصائب أهل الحق) والأفغانية (الفاطميون) الى إقليم عربستان بحجة تقديم المساعدات والإغاثة للمنكوبين، لكن في الواقع كان الغرض هو قمع الجماهير الأهوازية المستاءة من أداء السلطات الإيرانية.
ورغم أهمية "الهوسات" في إلهاب العواطف والأحاسيس القومية للشعب العربي الأهوازي في محنته الراهنة، إلا أن هذه الأحاسيس يجب أن تتطور وتتحول الى تنظيمات وتشكيلات – سرية وشبه سرية وأخرى علنية - تخطط لمواجهة طويلة الأمد لمخططات أعداء الشعب العربي الأهوازي وترسم تكتيكات مناسبة لكل مرحلة نضالية. لا شك أن الشباب والفتيات النشطاء في الداخل هم القادة الحقيقيون لنضال شعبنا الذي يواجه خيارا صعبا وهو أن "يكون أو لا يكون".
وفي النهاية ينبغي أن اشير – رغم كل الدمار والمحن – إلى أن هذه السيول أكدت على أمرين هامين: أولاً: كل القرى و الأغلبية الساحقة لمدن سهل عربستان هم عرب، ناهيك عن عرب الساحل وجزر الخليج ويشكلون شعبا عربيا متماسكا، وثانيا: مدى تكاتف أبناء شعبنا من ساحل الخليج الى سفوح جبال زاغرس.