حتى من قبل هيمنة اليمين المتطرف بل الفاشي أحياناً، ومن ثم زمن الفضائح وبرلوسكوني، وبعدهما الكورونا التي أصابت إيطاليا أكثر من أي بلد أوروبي آخر، كان كثر يتساءلون: أين اختفى حسّ المرح الإيطالي؟ من الذي قتل تلك الضحكات المجلجلة المستثارة بذكاء ولؤم في ثنايا تيار سينمائي بكامله هيمن على عدد كبير من الأفلام الإيطالية في سنوات الـ70 والـ80 من القرن الـ20؟ وكانوا محقّين في دهشتهم أمام ذلك التيار وأقطابه، وقد خلت منهم الساحة إلى حد كبير بعدما ملأوا الدنيا وشغلوا الناس حائزين أرفع الجوائز العالمية، ومستقطبين أعداداً هائلة من متفرجين، راحت تلك الأفلام تحلّ لديهم محل معظم الأفكار والإيديولوجيات الكبرى كما محل الأحزاب.
لا أحد فوق المحاسبة
في تلك الحقبة، انتشرت السينما الهزلية السياسية الإيطالية في العالم، تحصد ضحايا لؤمها في أوساط السياسيين الفاسدين والطبقات المتسلطة، وحتى رجال الكنيسة المنحرفين والمال والأعمال وصولاً إلى الأحزاب السياسية والنقابات العمالية التي كانت لا تمسّ قبل ذلك. ولئن كان العثور على أجوبة عن هذه الأسئلة يحتاج إلى دراسات طويلة في علم الاجتماع وسيكولوجيا الجماهير، سيكون من المناسب هنا الاكتفاء بطرح الأسئلة في وقت بات نوع من الجدية والتساؤل الميتافيزيكي يهيمن على أفضل ما تنتجه السينما الإيطالية على قلته، في انتظار ظهور مثل تلك الدراسات مع تذكر مخرج من هنا أو فيلم من هناك ممن يبدو غيابهم مؤسفاً. نقول هذا ونفكر بإيتوري سكولا وإيليو بيتري وبيترو جرمي وماريو مونيتشيللي ودينو ريزي ولويجي كومنشيني بين لائحة تطول.
لعل تذكّرنا لحدث مرّ قبل نصف قرن من الآن، يوفر لنا المناسبة الصالحة للغوص في هذه الذكرى. ففي مثل هذه المرحلة أوائل السبعينيات، كان الحدث السينمائي الكبير في دورتي 1970 و1972 من مهرجان "كان" يحمل اسم إيليو بيتري، وتحديداً اسمي فيلمين له عرفا كيف يسلطان الضوء بشكل مفاجئ على ذلك التيار بأسره. ولئن كان "تحقيق حول مواطن فوق الشبهات" قد نال حظه من الكتابة والشهرة، فإن الأقوى بين الفيلمين "الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة" بدا أقل شهرة على الأقل خارج أوروبا. ولئن كان بيتري قد تصدى لمؤسسة الأمن والفساد المستشري فيها في أول الفيلمين، فإنه في الثاني نسف صورة الطبقة العاملة على قوتها، كما سدد سهاماً قوية إلى النقابات، ما كان أحد يجرؤ قبله على تسديدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين العمال والطلاب
في الفيلم الثاني، كان همّ بيتري منصباً على رسم صورة دقيقة عنيفة وساخرة للممارسات العمالية والنقابية من خلال حكاية العامل "لولو"، الذي يخوض معركته وحيداً ضد نظام الأجور ومنظومة التعامل مع حوادث العمل كما ضد شروط عمل ومعيشة العمال، من دون كبير أمل في مساندة نقابية له. بل على العكس، ها هي النقابات تحاول تسوية الأمور لصالح أصحاب العمل. وتبدو حدّة هذا الوضع فاقعة في الفيلم من خلال تزامن حكاية "لولو" مع تظاهرات عنيفة يقوم بها الطلاب خارج المصنع وسط عداء السلطات والعمال والنقابات لهم!
الحقيقة أن إيليو بيتري كان لا يزال شبه مجهول خارج إيطاليا في 1970، حين فاز "تحقيق حول مواطن فوق الشبهات" بجائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان "كان" لذلك العام، ثم بأوسكار أفضل فيلم أجنبي. غير أن ذلك الفيلم القوي والاستثنائي لم يطلق مخرجه وحـده في العالم، بل أطلق كذلك تياراً سينمائياً كاملاً، هو تيار "السينما السياسية على الطريقة الإيطالية"، بحسب تعريف الناقد الإيطالي غويدو آريستوركو. ولئن كان هواة السينما قد فوجئوا بالفيلم وصاحبه، فإنهم بعد ذلك بعامين، حين فاز فيلمه التالي "الطبقة العاملة تذهب إلى الجنّة" بالسعفة الذهبية في "كان" أيضاً الكبرى، كانوا قد باتوا يعرفونه جيداً، ويعرفون غيره، من مبدعي ذلك التيار السينمائي الذي كان أبرز تيار في السينما العالمية طوال سنوات الـ70.
ولادة سينما جديدة
حين مات بيتري بالسرطان، عام 1982، في الـ53 من عمره، وكان يعد بالكثير، إلى جانب عدد من المخرجين الإيطاليين المنتمين إلى جيله والذين أحدثوا في سينما بلادهم وفي العالم تلك القفزة التي جعلت منها، من دون أن تكون ثقيلة الظل كما اعتادت تلك السياسية، فناً احتجاجياً رفيع الطراز. والحال أنه مع فيلم "تحقيق حول مواطن فوق الشبهات" ثم مع غيره من الأفلام التي لم يكف بيتري عن تحقيقها بحماسة أثارها اهتمام الجمهور والنقاد، ولدت السينما من جديد وصارت على علاقة بالمجتمع وقادرة على أن تتنطح لفضح بعض المفاهيم السـلطوية والعديد من الممارسات، التي قد يكون من الممكن القول إنها كانت تبدو "شديدة الإيطالية" في ذلك الزمان، الذي كان يتحالف فيه على الحكم جهاز السلطة البوليسي القمعي مع حكومة "الديمقراطية المسيحية"، مع المافيا، لكنها كانت تبدو فحسب كذلك، بيـــنما في حقـيقتها تشير إلى ممارسات سلطوية أكثر عمومية. على هذا النحو وفضحاً لها، أعاد بيتري ورفاقه اختراع السينما السياسية من جديد. وهنا تكمن فضـيلته الأولى، لأنها كانت سـينما مسلية أيضاً، ورفيعة المستوى من الناحية التقنية.
يساري ضد غزو المجر
ولد إيليو بيتري في روما، ابناً لعائلة متواضعة، وبدأ حياته العملية صحافياً وناقداً سينمائياً، لكنه كان دائم الاهتمام، منذ البداية، بالقضايا الاجتـماعية، لا سـيما مسألة العلاقة بين الفرد والسلطة، الموضوع الذي جعله محور معظم أفلامه التي حققها لاحقاً حين تحول إلى الإخراج. ولفرط اهتمامه بالقضايا الاجتماعية انضم إلى الحزب الشيوعي الإيطالي باكراً، لكنه سرعان ما تركه في 1956، إثر تدخل القوات السوفياتية في ثورة المجر، لكنه ظل مع ذلك رجل يسار واعٍ، وإن كان يفخر دائماً بأنه قد أصبـح "يسارياً مـستقلاً". بالنسبة إلى العمل السينمائي، اشتغل بيتري بين 1952 و1961 ككاتب سيناريو مركزاً على مواضيع تدور حول المجتمع الإيطالي ومشاكله، كما يتضح من خلال فيلمه الأول "القاتل" الذي حققه في 1961. صحيح أنه فيه حقق فيلماً رؤيوياً مستقبلياً بعنوان "الضحية العاشرة" يخرج عن إطاره السينمائي المـعتاد، لكنه كان فريداً في مسيرته التي شهدت قـبل ذلك الفيلم فيلمين اجتماعيين - سياسيين هما "الأيام المعدودة" و"أستاذ المدرسة".
بعد ذلك، أتت مجموعة الأفلام التي بدأت تصنع لبيتري سمعته الكبرى أولاً في إيطاليا (العام 1967 مع فيلمه "لكل واحد ما يستحقه")، وبعد ذلك في العالم حيث كشفت دورتان لمهرجان "كان" عن فيلميه اللذين أشرنا إليهما، ويظلان حتى الآن من أبرز ما حققته السينما الإيطالية إلى جانب أفلام فرانشسكو روزي وإيتوري سكولا، وإن كان بيتري يتفوق على الأول من ناحية طرافة مواضيعه واهتمامه بالبعد الفني في أفلامه، ويتميز عن الثاني في جديته بطرح مسألة السلطة وأجهزتها على بساط البحث.
يأس مطلق
في 1976، أوصل بيتري أسلوبه إلى غايته الكاريكاتورية القصوى مع فيلمه "المُلكية ليست سرقة"، ثم أعقب ذلك بفـيلم "تودو مودو" الذي اقتبسه عن رواية الكاتب ليوناردو شاشا، وفيه بدا بيتري أكثر غوصاً في نوع من العبثية واللامعقول. وهنا ظهر واضحاً أنه كان أول أمره مؤمناً بحتمية الصراعات، وصار أقرب إلى نوع من اليأس حول العلاقة التي يمكن ويجب أن تقوم بين الفرد والمجـتمع، أو بين الفرد والسلطة، من حيث أن المجتمع هو والسلطة شيء واحد في نهاية الأمر، وفي المدلول الإيديولوجي وقدرة القمع. في 1982 حين مات إيليو بيتري بفعل سرطان قضى عليه بسرعة، كان قد أنجز أعماله الكبرى، وبدأ يعلن سأمه من السينما ومن المجتمع ورفضه كل سلطة... بما فيها سلطة السينما!