ساد توقع في أن تؤدي عمليات توزيع اللقاح المضاد لفيروس كورونا، وبدء حملات التطعيم حول العالم، إلى تخفيف مفاعيل الجائحة الكارثية، وإلى وضع العالم على سكة العودة إلى الحياة الطبيعية. بيد أن الأمر، حتى الآن على الأقل، لم يقد إلا إلى أزمات تتوالد من بعضها بعضاً.
في هذا الإطار يخوض المسؤولون في بروكسل (عاصمة الاتحاد الأوروبي) نزاعاً علنياً مع المديرين التنفيذيين لشركة الأدوية البريطانية "أسترازينيكا"، ويتبادل الطرفان الاتهامات في التسبب بإبطاء توزيع اللقاحات. وكان الاتحاد الأوروبي أُجبر على إعلان تراجع محرج عن محاولته فرض إجراءات حدودية للقاح [قيود على تصدير اللقاحات ] عند معابر إيرلندا الشمالية من جهة جمهورية إيرلندا، مستخدماً بنداً ورد في اتفاقية بريكست الموقعة أخيراً مع المملكة المتحدة.
أما في إيران، فقد قام المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، بإقحام عدائه الأيديولوجي للغرب في مسألة الصحة العامة، فحرم استيراد اللقاحات من بريطانيا والولايات المتحدة، كما رفض حتى تبرعات قُدمت لإيران تمنح بموجبها 150 ألف جرعة من لقاح "فايزر" الذي يتعاظم عليه الطلب عالمياً.
في المقابل، وبالإطار ذاته، أثارت صحيفة ألمانية موجة ذعر في أوساط الناس جراء نشرها مقالاً، خاطئاً كما تبين، تحدث عن عدم نجاعة اللقاح في أوساط المتقدمين في السن.
على أن هذه السجالات الدائرة اليوم، تزامناً مع طرح اللقاح المضاد لكورونا، لا تسهم إلا في رفع مستوى الحذر العام، وفي زيادة ما يسميه خبراء الصحة العامة "تردداً في الموقف من اللقاح"، أي ميل في أوساط الناس إلى تجنب التطعيم. وعن أجواء السجالات القائمة تحدث لوك أونيل، المتخصص بعلم المناعة في جامعة "ترينيتي كوليدج" في دبلن، قائلاً إن "الفيروس يكون في أحسن أحواله حين يتشاحن الناس ويُسيسون سجالاتهم". أردف "نحن في خضم حالة طوارئ، ويجب المحافظة على الثقة بيننا. لكن، بدل هذا، يشعر الناس اليوم بقلق شديد، ويتفاقم قلقهم ذاك عندما يتابعون مستجدات الأخبار".
وثمة اليوم 10 لقاحات قيد الاستخدام حول العالم. وقد تحقق هذا الأمر بعد أن جرى اختبار 63 لقاحاً على البشر، وتجريب 173 لقاحاً في المختبرات. وتمثل جميع تلك اللقاحات الأمل الواعد على طريق القضاء على جائحة أزهقت حتى الآن أرواح 2.2 مليون شخص حول العالم، وأصابت أكثر من 100 مليون شخص، كما تسببت بنكبة اقتصادية شاملة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن تلك الطريقة الفوضوية في طرح اللقاحات وفي عمليات التطعيم حول العالم، تُبرز العمل الشاق المضني والمديد، الذي ينتظرنا لا محالة قبل أن تبدأ أزمة فيروس كورونا بالانحسار. وكذلك تُبين عمليات التطعيم والتلقيح الشاملة في المعمورة مقدار التحديات اللوجستية والمضامين السياسية الكامنة فيها. ويقدر الخبراء بأن حملة التلقيح العالمية الشاملة، التي ستؤدي إلى مناعة عالمية عالية المستوى في وجه فيروس كورونا، لن تُنجز قبل عام 2023.
وكان العديد من كبار مسؤولي الصحة في العالم حذروا طوال أشهر مما اعتبروه "قومية اللقاح" vaccine nationalism، إذ تقوم الدول حول العالم بوضع برامج متنافسة ومتعارضة كي يحصل كل منها على إمدادات اللقاح. الأمر الذي ينجم عنه تنافس يبطئ جهود وقف الجائحة. وقال مدير منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، في كلمة ألقاها مؤخراً، إن "مقاربة "أنا أولاً"، هذه، تضع الناس الأفقر والأكثر هشاشة في العالم بدائرة الخطر". وأضاف "كما أن ذاك النهج يأتي بنتائج عكسية. إذ إنه لن يسهم إلا في إطالة أمد الجائحة، ويُمدد بالتالي أمد القيود التي نحتاجها لاحتواء هذه الجائحة، كما يُطيل [أمد] المعاناة البشرية والاقتصادية الناتجة منها".
لكن ما يبدو أنه يحصل على أرض الواقع يشوبه كثير من الفوضى، فيصعب بالتالي تحديد ما وراءه. إلا أنه قد يستمر بالتراكم، وينتهي إلى تقويض ثقة الناس باللقاح ويثبط حماستهم في تلقي الطعم. ومن بين المستجدات المقلقة في هذا الإطار، بالنسبة لمسؤولي الصحة، هي تلك النزاعات العلنية بين القادة السياسيين والمديرين التنفيذيين لشركات الأدوية. ففي أوروبا تندلع اليوم مشاحنة علنية، غير معهودة، بين المسؤولين الأوروبيين وشركة "أسترازينيكا" AstraZeneca. إذ يقوم المسؤولون الأوروبيون باتهام الشركة المذكورة بإحالة جرعات اللقاح التي كانت مخصصة لمواطني الاتحاد الأوروبي، نحو التصدير إلى أمكنة أخرى، بغية جني أرباح أكبر.
وفي السياق ذاته أيضاً، يدور نزاع على عقد الحصول على اللقاح بين دولة الكويت وبين شركة "موديرنا" المنتجة للطعم، الأمر الذي أخر شحنات الطعوم. وفي واقعة متصلة، أثارت صحيفة "هانديلسبلات" Handelsblatt الألمانية موجة من الهلع في أوساط المواطنين عندما أوردت في تحقيق نشرته، وعلى نحو خاطئ كما ظهر، أن لقاح "أسترازينيكا" غير مجد في أوساط كبار السن.
يعتبر الخبراء أن وقائع التأخير في عمليات توزيع اللقاحات، وتلك النزاعات الحاصلة، إضافة إلى مظاهر سوء التواصل والفهم، تمثل حالات معهودة ترافق صفقات شراء الأدوية وتوزيعها، لكنها نزاعات وسجالات تبقى في العادة محصورة ضمن مكاتب الشركات التي تعالج الإجراءات البيروقراطية، ولا يجري الإضاءة عليها إلا في مجلات علمية متخصصة محدودة الانتشار، ونادراً ما تحظى الأخبار المتصلة بها بمثل هذه التغطية التلفزيونية اليومية على مدار الساعة، أو تتصدر عناوين الأخبار على الإنترنت.
ويشير الدكتور أونيل في هذه المسألة إلى إنه "من غير المعتاد أبداً أن تدور سجالات من هذا النوع أمام الجمهور وضمن النطاق العام". كما يُشير إلى "أن ذلك يجري اليوم على نحو مباشر وفي وقت حساس".
في المقابل، وضمن أجواء طرح اللقاح هذه، يدلي السياسيون بدلوهم، ويظهرون رغبة في تسجيل مواقف تحقق لهم مكاسب بمسرحهم السياسي المحلي. بيد أن ذلك يأتي على حساب الصحة العامة. إذ إن خوض القادة السياسيين في قضايا الصحة العامة غالباً ما يضر أكثر مما يُفيد. وقد جرى في هذا الإطار انتقاد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وتوبيخه على منصة "فيسبوك" لدعوته الإسرائيليين عبر فيديو نشره إلى تزويد الحكومة بأسماء وأرقام هواتف المترددين في تلقي الطعم. وذكر نتنياهو في تعليق على الإنترنت "ربما سيتلقون مكالمة هاتفية مفاجئة مني، وأنا سأقوم بإقناعهم"، الأمر الذي اعتبره مسؤولو الصحة العامة خطوة قد تثير الشكوك حول طعم كوفيد.
أما الزعيم البرازيلي اليميني المتطرف، جايير بولسونارو، وفي محاولة لمكافأة المقربين منه وبث الثقة العامة بإدارته، فقد أقحم بوزارة الصحة في حكومته رجالاً من الجيش لا خبرة لهم في شؤون الصحة، وذاك أدى إلى إفشال عمليات نشر اللقاح، تاركاً البرازيل، التي تعد من أكثر البلدان تضرراً بفعل الجائحة، عاجزة تقريباً عن تأمين ما يكفي من الطعوم، بحسب تحقيق أجرته وكالة "رويترز" الإخبارية.
وإيران، التي قامت بخطوة استعراضية في ما قالت إنه بداية تجارب لقاح خاص بها على البشر، رفضت تقدمة تبرع بها أميركيون من أصل إيراني هي عبارة عن 150 ألف جرعة من لقاح "فايزر"، قائلة إنها لا تثق بأدوية مصدرها الغرب. وقال السيد خامنئي في سياق الموضوع، ضمن بيان أصدره لاقى تنديداً على نطاق واسع، إنه "من غير المستبعد أن تكون غاية (بريطانيا والولايات المتحدة) هي تلويث (أو تسميم) الأمم الأخرى".
وحذّر خبراء الصحة العامة من أن يتقوض نجاح إسرائيل في تطعيم مواطنيها، جراء فشلها حتى الآن في شمل الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال الإسرائيلي بعمليات التطعيم، وهو الأمر الذي يلحق الضرر في جهود تحقيق مناعة القطيع بأوساط شعبين يعيشان في منطقة جغرافية واحدة.
إلى هذا، تعتبر الاندفاعة التي طال توقعها، والتي تظهرها الدول الغنية لتأمين اللقاحات لنفسها، عاملاً مؤثراً آخر يحاول مسؤولو الصحة العامة تخفيف وطأته. إذ إنه، وعلى الرغم مما يمثله تلقيح مواطني دولة معينة من تلك الدول الغنية من شعور بالأمان والمكتسبات السياسية المحلية، فإن عدم تلقيح العالم بأسره سيترك الجائحة على غاربها وفي حالة تفاقم.
فالتلكؤ بتوزيع اللقاحات ونشرها يسمح للفيروس بالاستمرار، والانتشار، والتطور إلى مزيد من السلالات المتحورة. وغالباً ما تكون الدول والشعوب الأفقر أشد معاناة في الحصول على اللقاحات، بينما هي أكثر من يحتاجها. وفي هذا الإطار قال جدرافكو كريفوكابيتش، رئيس وزراء جمهورية الجبل الأسود (مونتينيغرو)، الأمة الصغيرة غرب البلقان، إن "مشكلتنا الأكبر تتمثل بعدم بناء مستشفى جديد في بلدنا منذ عام 1974. لذا، فإن نظامنا الصحي بدا أكثر ضعفاً في خضم الأزمة". وأضاف كريفوكابيتش "أملنا الرئيس يكمن في حملة التلقيح".
من جهة أخرى، أطلق مسؤولو منظمة الصحة العالمية منصة دولية لتوزيع ونشر اللقاحات تدعى "كوفاكس" Covax، وذلك للمساعدة في إيصال اللقاحات للأمم الأفقر، والمساهمة في تطوير مقاربة دولية لعمليات التلقيح.
بيد أن تلك المنصة لم تتلق سوى تبرعات شحيحة مقارنة بالمليارات التي تنفقها الدول الغنية لتطعيم شعوبها حصراً. وحتى ضمن الدول الغنية هذه، فإن تباينات التلقيح بين الأغنياء والفقراء باتت تبرز للعيان، وهي قد تلحق الضرر بثقة الناس بمؤسسات الصحة العامة، كما قد تؤدي إلى إبطاء حصر الوباء. إذ في مدينة شيكاغو الأميركية مثلاً، تشير التقارير إلى أن سكان المناطق الأغنى في شمال المدينة وشمالها الشرقي، بدأوا يتلقون اللقاح على نطاق واسع، فيما السكان الأكثر تضرراً بالجائحة والذين يعيشون في حالة عوز هم أقل من يحظى بالتطعيم.
وثمة فضائح هائلة تشير إلى قيام الأغنياء والنافذين بتجاوز أدوار غيرهم للحصول على الطعم المضاد لكورونا. وقد جرى في هذا السياق إقالة مسؤولين عسكريين بارزين في إسبانيا جراء حصولهم على الطعم قبل المرضى وكبار السن. وفي كندا أثار أحد أقطاب الكازينوهات وزوجته الممثلة، غضباً شعبياً عارماً لسفرهما جواً عبر البلاد إلى منطقة للسكان الأصليين، مُخلان بذلك بقوانين الحجر الصحي، وذلك كي يتصورا ويظهرا بمظهر العاملين في الخطوط الأمامية لمواجهة الجائحة، فيحصلان بفضل هذا على الطعم قبل الأشخاص الأكثر عرضة وضعفاً واستحقاقاً.
وعن تلك الظواهر قال الدكتور أونيل إن "منح عدد كبير من اللقاحات إلى الأغنياء قد يهدد حملة التلقيح الشاملة". وأردف أونيل "الحالة الأمثل هنا تتمثل في أن تتاح هذه اللقاحات مجاناً ومن دون مقابل، وأن تُعطى الأولوية إلى من تمس حاجتهم إليها".
في المقابل، اعتبر عدد غير قليل من الأشخاص، أن مشهد الأغنياء والنافذين وهم يخالفون القواعد بوقاحة وصلف، كي يسبقوا غيرهم ويتلقون الطعم باكراً، قد يسهم أيضاً في إقناع المشككين بسلامة اللقاحات بأنها آمنة ولا تشكل خطراً على الصحة. ففي بولندا مثلاً، وبعد شيوع خبر تلقي نجوم مشاهير اللقاح قبل استحقاق دورهم المفترض، أمثال الممثلة كريستينا يندا، فإن الحماسة الشعبية للتطعيم تزايدت، وقفزت من معدل الـ43 في المئة إلى معدل الـ70 في المئة.
(أسهم شون لينترن أيضا في إعداد هذا التقرير)
© The Independent