تنفست مدينة الحسكة، شمال شرقي سوريا الصعداء بعد رفع السواتر الترابية والكتل الإسمنتية عن الطرق الواصلة إلى مركزها تمهيداً لدخول شحنات الغذاء والمحروقات عقب تمركز قوات سوريا الديمقراطية لقترة دامت أكثر من عشرين يوماً.
أتى ذلك إبان اتفاق برعاية روسية، وأتاح في المقابل وصول الإمدادات لأحياء تقطنها غالبية عربية، في الطريق الممتد من حي "النشوة" إلى مركز المدينة في الحسكة وحيي "طي" و"علكو" بمدينة القامشلي.
العودة إلى المربع الأول
وحسب تأكيد مصادر محلية، أنبأت عن عزم المدنيين في الحسكة مواصلة تظاهراتهم أمام القصر العدلي على الرغم من فك الحصار، معتبرين ضرب طوق حول تجمعات سكانية ومحاصرتهم أمراً غير مقبول وليس مبرراً إزاء أهالي المنطقة، حيث أسفر عن خنق المدنيين، وكاد يسفر عن كارثة إنسانية.
وتشير المعلومات الواردة إلى توتر جلي بين طرفي النزاع، كما يخيم هدوء حذر لأي تصرف من شأنه إشعال المنطقة مجدداً والتي تقبع تحت صفيح ساخن، ويعيد الأمور إلى المربع الأول بين طرفي النزاع جيش النظام السوري وقوات الأسايش التابعة للإدارة الذاتية الكردية، لا سيما بعد مصرع أحد أفراد الشرطة الحكومية برصاص أحد قناصي القوات المحاصرة.
من جهته أعرب محافظ الحسكة، غسان خليل عن أمله بعد إتمام عملية فك الحصار في أن يستمر الأمر على هذا النحو، وألا يحاصر أهالي المدينة مجدداً بلقمة عيشيهم ويمنع عنهم الطحين والمحروقات والدواء، وفق تصريحه لوكالة الأنباء السورية "سانا".
في المقابل أكدت قوات الأسايش عودة الحياة إلى طبيعتها والسماح بدخول جميع المواد إلى المناطق المحاصرة في القامشلي والحسكة على حد سواء، وفق بيان لها جاء فيه "فك الحصار بادرة حسن نية للحفاظ على وحدة التراب والأرض السورية وحفظ دماء السوريين".
حال المدينة المتغير
في غضون ذلك، تذهب توقعات مراقبين إلى احتمالات عدة أبرزها عدم استمرار الاستقرار لمدة طويلة، وعودة تأجج الصراع مجدداً أو على النقيض من ذلك سيكون الامتثال إلى الاتفاق الروسي هو المشهد الحالي من دون توترات أمنية والذي لا يعدو عن تسوية صغيرة لا يعتد بها كثيراً، خصوصاً بعد إعلان الرئيسة المشتركة، إلهام أحمد إنهاء المفاوضات مع العاصمة السورية قبل شهر.
ومع كل ذلك، تتجهز القبائل العربية في كل من القامشلي والحسكة اللتين تعيشان فيها مكونات مثل الأكراد والآشوريون والسريان والأرمن، إلى قلب موازين المعركة المقبلة لصالحهم عبر التوسع في مناطق النفوذ والتمرد وكذلك الانشقاق من صفوف قوات سوريا الديمقراطية، وهو تحالف يضم كل المكونات سالفة الذكر.
ويبرر وجوه وشيوخ العشائر العربية هذا الأمر، إلى ما يصفونه باستحواذ الأكراد على قيادة هذا التشكيل العسكري في حربها إلى جانب قوات التحالف الدولي ضد داعش منذ عام 2015 وإلى الآن.
فيما يرى متابعون أنه مهما اختلفت الأسباب والدوافع المباشرة بين طرفي النزاع إلا أن النفط هو السبب الخفي وغير المباشر، إذ توقفت "قسد" التي تمسك بقبضتها على آبار النفط في المنطقة مدعومة من قوات التحالف التوريدات لمناطق سيطرة الدولة السورية التي تعاني مدنها من أزمة محروقات خانقة.
قسد تحاصر مربعات أمنية
ويعزو المختص في الشأن الكردي، والسياسي المعارض جوان اليوسف أسباب الحصار على الحسكة كونه رداً على الحصار الذي فرضته قوات النظام السوري على تل رفعت وبعض أحياء في مدينة حلب كـ"الشيخ مقصود" ذات الغالبية الكردية وتسيطر عليها قوات قسد محاصرة إياها لمربعات أمنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد أن الأمر بمجمله امتداد لما فشل فيه الروس بالضغط على قوات سوريا الديمقراطية لتسليم "عين عيسى" لحكومة النظام، مشيراً إلى سعي روسي لإتمام لعبة خفية، بحسب رأيه.
ويضيف اليوسف "موسكو تحرك أنقرة أحياناً ودمشق أحياناً أخرى لتضييق الخناق على قسد وإجبارها على قبول مصالحات كالتي تمت في الغوطة ودرعا ومناطق متعددة في الداخل السوري وعندما تفشل تقدم نفسها وسيطاً".
العشائر والهدوء الحذر
وعلى عكس كل التوقعات السورية بأن تلتحم "قسد" مع القوات النظامية في الشمال الشرقي بعد تقدم فصائل سورية مدعومة تركياً إلى نقاط أمامية وقرى متاخمة لبلدة "عين عيسى" أبرز وأكبر معقل للإدارة الذاتية، كان الحصار بمثابة رسائل متبادلة بين الجانبين ولي الأذرع خصوصاً بعد فشل اتفاق بدخول الجيش النظامي إلى عين عيسى.
في حين يعد متابعون أنه من الخطأ دخول "قسد" في مناوشات جانبية في حين يتربص الأتراك بالفصائل الكردية التي تعدها ميليشيات إرهابية وخطراً على حدوده ومعها شهد منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، ذروة الصراع بين قسد وأنقرة، وسبقتها عملية اجتياح كبيرة لأنقرة تسمى "عملية نبع السلام" احتلت قرى وبلدات كردية.
في حين ينظر وجهاء العشائر العربية بعين الريبة من تصرفات الإدارة الذاتية التي أجحفت بحق "العرب" في المنطقة والذين يمثلون غالبية السكان، ويروي أحد شيوخ عشيرة طي العربية مفضلاً عدم ذكر اسمه "عن شكوك كانت تساورنا من اتجاه قسد لتغيير ديمغرافي في المنطقة لصالحهم".
ويتطابق الأمر ذاته، مع جملة روايات من مصادر أهلية في مدينة منبج، الواقعة في ريف حلب وتخضع لسيطرة من الإدارة الذاتية حيث تروي الأنباء الواردة من هناك عن شراء عقارات بأسعار مرتفعة لصالح المكون الكردي.
تبدل الولاءات وصوت الحكمة!
من جهته، يأسف السياسي السابق والباحث في الشأن الكردي، جوان اليوسف من موقف العشائر العربية في المنطقة، واصفاً إياها بالمتبدلة الولاءات وغير مستقرة في موقفها السياسي، فهي تقلبت بولائها بين الحكومة والمعارضة والفصائل الإسلامية.
ويوضح "العشائر ذاتها تضمر العداوة لقسد على الرغم من محاولات الأخيرة ترغيبها واستمالتها، ولذلك أكثر ما تخشاه قسد حالة الاشتباك مع هذه العشائر فهي تدرك أن محيطها عدائي، وتركيا تتربص بها، وفصائل ما تسمى المعارضة تتحين الفرص لخرق حالة الوئام النسبي الموجود".
فيما يرى أنه ليس هناك مصلحة في حالة الانفجار إلا لداعش وداعميه، معتقداً في الوقت ذاته أن تركيا داعم أساسي لهم، وفق تقارير أممية عدة.
إزاء ذلك، دعت أطراف كردية إلى إعلاء صوت الحكمة وضبط النفس، وعدم الانجرار إلى إثارة الفتن، أو اللجوء إلى السلاح، بحسب بيان مشترك لثلاثة أحزاب سياسية هي الإرادة الشعبية والوحدة الديمقراطي الكردي (يكيتي) والديمقراطي التقدمي الكردي في 2 فبراير (شباط).
كما أهابت المبادرة الوطنية للكرد السوريين جميع الأطراف إلى تغليب لغة الحوار والعقل والحفاظ على أمن المحافظة واستقرارها، داعية إلى مواصلة التفاوض مع الحكومة في دمشق.