قطع الرئيس اللبناني العماد ميشال عون الطريق على احتمال أي تسوية مع الرئيس المكلف تأليف الحكومة سعد الحريري، تستعجل ولادتها بعد أكثر من 6 أشهر من الفراغ الحكومي، المرشح لأن يستمر فترة إضافية، وسط تقديرات بأن يدخل الصراع على تشكيل السلطة التنفيذية والمواقع الدستورية في البلد، مرحلةً جديدة أكثر حدة وقساوة. وسيترك ذلك انعكاسات مالية واقتصادية ومعيشية أكثر سلبية من السنة السابقة، على سائر اللبنانيين والمقيمين.
ورفض عون صيغة الحريري الحكومية مجدداً، على الرغم من أن رئيس الحكومة المكلّف أبدى استعداده لتغيير بعض أسماء الوزراء الذين سبق أن طرحهم على رئيس الجمهورية، أو تبديل عدد محدود من الحقائب، من دون المساس بأساس هذه الصيغة.
وأعلن عون والحريري استمرار الانسداد في جهود تذليل العقبات من أمام ولادة الحكومة، إثر اجتماع دام 20 دقيقة بينهما يوم الجمعة 12 فبراير (شباط) الحالي، من دون أن يكلفا رجال الإعلام والصحافة عناء التفتيش عن مصادر تكشف لهم حقيقة ما دار في ذلك الاجتماع.
رفض من الحريري واستعلاء من عون
وخرج الحريري من ذلك الاجتماع وصرح أن المجتمع الدولي يريد حكومة من الاختصاصيين غير الحزبيين كي يساعد لبنان وإلا لن يفعل، مؤكداً تمسكه بهذا المعيار الذي وصفه بـ "الفرصة الذهبية"، وبأن تكون حكومة مصغّرة من 18 وزيراً، وقال إن "هذا لن يتغير أبداً... ومخطئ مَن يعتقد أن المجتمع الدولي سيبدي انفتاحاً" إذا ضمت الحكومة "أعضاء سياسيين". كما كرر الحريري رفضه منح الثلث المعطل لأي فريق، (الأمر الذي يريده الرئيس عون على الرغم من نفيه المتكرر، عبر مطالبته بحصته من الوزراء التي يعتبرها من حقوقه، فضلاً عن إصراره على رفع عدد الوزراء إلى 20 لضمان حصوله على الثلث زائداً واحداً).
ومع تأكيده أن "لا تقدم" على مسار تأليف الحكومة، كان البارز في تصريح الحريري فور خروجه من مكتب عون، قوله إن "على كل فريق سياسي أن يتحمل مسؤولية مواقفه من الآن فصاعداً"، ما يؤشر إلى تحميله عون وزر تأخير الحكومة.
ولم يتأخر عون في إصدار بيان قاصداً الرد على تجرؤ الحريري على مقارعته، عند باب مكتبه، فأشار البيان إلى أن الاجتماع حصل بناءً لطلب الرئيس المكلف، في إيحاء استعلائي بأنه لم يطلب هو لقاءه. وجاء في البيان أنه "تبيّن أن الرئيس المكلف لم يأتِ بأي جديد على الصعيد الحكومي بعد الجولات التي قام بها إلى الخارج"، مشيراً بذلك إلى زيارات الحريري إلى كل من الإمارات، وتركيا، ومصر وأخيراً فرنسا. وكان الحريري اجتمع تباعاً خلال الأسابيع الماضية، إلى كل من الرؤساء رجب طيب أردوغان، عبد الفتاح السيسي وإيمانويل ماكرون.
استقواء الحريري بدعم دولي وعربي
بدا واضحاً أن الحريري عاد إلى بيروت مستقوياً بدعم الدول التي زارها، وبمساندة غيرها أيضاً، لا سيما بعد ظهور التوافق الفرنسي - الأميركي عبر البيان المشترك الذي صدر عن وزيرَي الخارجية جان إيف لو دريان وأنتوني بلينكن في 4 فبراير (شباط) الحالي، وشددا فيه على الإسراع بتشكيل حكومة فعّالة وذات صدقية. وعلمت "اندبندت عربية" أن الحريري شرح في لقاءاته في العواصم الأربع أسباب تأخير تشكيل الحكومة، فضلاً عن أن كبار مسؤولي الدول التي زارها ودولاً أخرى، مطلعون على تفاصيل المأزق الحكومي من بعثاتهم الديبلوماسية في بيروت. وأفادت أوساط قريبة من الحريري وأخرى ديبلوماسية، بأن الرؤساء الذين التقاهم الحريري بدوا متابعين لتفاصيل الخلافات اللبنانية، لاسيما خلاف الحريري - عون حول تأليف الحكومة ورفض الأخير توقيع اللائحة الوزارية التي كان قدمها الأول له في 10 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حين أصرّ على حقه بتسمية 6 وزراء مسيحيين إضافة إلى الوزير الأرمني الحليف، من أصل 9 (وهو نصف عدد وزراء الحكومة التي اقترحها الحريري من 18 وزيراً، علماً أن الحكومة اللبنانية تُشكّل مناصفة بين المسلمين والمسيحيين)، وعلى رفع عدد الوزراء إلى 20 من أجل إضافة وزير درزي حليف له يسميه النائب طلال أرسلان، وآخر كاثوليكي لضمان الثلث المعطل.
واطلعت عواصم الدول المذكورة على الدور الذي يلعبه رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل (صهر الرئيس) في وضع الشروط على الحريري تارة بحجة حقوق المسيحيين، وأخرى باسم صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي، لكن هدفه الحقيقي من وراء ذلك دفع الحريري إلى الاعتذار من أجل إخراجه من المعادلة الحاكمة، طالما أنه على خلاف معه. ومن شأن موقف باسيل أن يعدم حظوظه بوراثة عمه في رئاسة الجمهورية عند نهاية ولاية الأخير في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022 وفي ظل العقوبات الأميركية المفروضة عليه. فهذه المسألة تتحكم بالكثير من مواقف الرجلين.
وعلى الرغم من أن الدول المذكورة لم تجاهر بقناعتها أن عون وفريقه، هما سبب عرقلة تأليف الحكومة، إلا أن ما بات مسلماً به هو أن صيغتها غير الحزبية هي شرط تقديم المساعدات الاقتصادية والمالية للبنان كي يتعافى، بعدما أفلس نتيجة فساد وسوء إدارة حكامه وهيمنة "حزب الله" على قراره، والمعطيات التي أعقبت زيارات الحريري تشير إلى امتعاض الرؤساء الذين التقاهم من جنوح فريق عون نحو الهيمنة على القرار السياسي مدعوماً من "حزب الله" باسم حقوق المسيحيين. فهؤلاء بلغتهم تقارير عن رفض عون تليين موقفه من التشكيلة الحكومية عندما تدخل البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي لهذا الغرض معه. فرأس الكنيسة المارونية يعتقد أن شل البلد بإبقاء الفراغ الحكومي، يعمّق أزمته الاقتصادية والمعيشية وانعكاسها على المسيحيين بمزيد من الهجرة والإفقار، رافضاً الأخذ بحجة الدفاع عن حصة المسيحيين الوزارية، في حكومة ستكون من غير الحزبيين، مع احترام التوزيع الطائفي التقليدي.
باريس تطلب من باسيل تغيير موقفه
من ناحية ثانية، وبعد لقاء ماكرون – الحريري، سرّبت مصادر الرئاسة الفرنسية أنها متمسكة بمبادرتها الإنقاذية وفق خريطة الطريق التي صاغها فريق الرئيس الفرنسي ووافق عليها سائر الفرقاء اللبنانيين خلال اجتماعهم به في 1 سبتمبر (أيلول) الماضي في بيروت. وأفادت مصادر قصر الإيليزيه أن باريس لن تقدم على أي خطوة جديدة في اتجاه لبنان ما لم يحصل تقدم في تشكيل الحكومة، وأنها تنتظر من النائب باسيل تحديداً تعديل موقفه. وتردّدت معلومات في هذا السياق عن أن أحد مستشاري ماكرون تحدث هاتفياً إلى باسيل طالباً منه تعديل موقفه من صيغة الحريري، إلا أن هذا المسعى لم ينجح. وأفادت مصادر لبنانية اطلعت على جانب من لقاء الحريري - ماكرون أن الأخير تفهّم موقف الحريري بعدما عرض أمامه تفاصيل اللقاءات الـ14 التي عقدها مع عون منذ تكليفه تأليف الحكومة من أكثرية البرلمان في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بالإصرار على صيغة الـ 18 وزير، ورفض إعطاء الثلث المعطل لفريق عون باسيل حتى لا يجري تعطيل عمل الحكومة.
فريق عون وحيداً و"حزب الله" محرَج
وذكرت شخصية مواكبة لتحرك الحريري أن الجانب الفرنسي ليس بعيداً عن خطوة الرئيس المكلف الاجتماع مع عون، فشجعه على لقائه على الرغم من أنه يُفترض بالأخير أن يبادر إلى دعوته إلى الاجتماع به لمعالجة الخلاف الحكومي لا سيما بعد تسريب الفيديو الشهير الذي اتهم فيه عون الحريري بأنه "يكذب". وبالتالي فإن سيناريو اللقاء قضى بتجاوز الحريري الإساءة الشخصية التي تعرض لها، ورمي كرة التعطيل عند الرئاسة ومحيطها. ويذهب قياديون في تيار "المستقبل" إلى حد القول إن حتى حليف عون "حزب الله" المتهم بأنه يدعمه في التعطيل، إذ إنه يترك تأليف الحكومة ورقة تفاوض في إطار الحوار الأميركي - الإيراني المرتقب، بات محرجاً من التشدّد العوني، فضلاً عن أن نواب كتلة رئيس البرلمان نبيه بري ينقلون عنه امتعاضه من "عناد" الرئيس عون وباسيل إثر محاولة توسط قام بها، لاقتناعه بأن الحريري قدم كل التسهيلات، لإنجاز الحكومة. وأعلن بري أكثر من مرة أنه ضد منح الثلث المعطل لفريق عون، وأيّد الحريري في تمسكه بحكومة الـ 18 وزيراً.
وقال القياديون في "المستقبل" إنهم يستندون في اعتبار فريق عون معزولاً ووحيداً خارجياً وداخلياً، إلى معلومات بأن قيادة "التيار الوطني الحر" عاتبت قياديين في "حزب الله"، معتبرةً أنه يقوم بتغطية الحريري. وقالت "أنتم تفضلونه علينا". وأضاف قياديو "المستقبل" أن "هذا يفسر مطالبة التيار الحر في بيانه بمناسبة الذكرى الـ15 لتفاهم التيار مع الحزب في 6 فبراير، بإعادة النظر في التفاهم بحجة أن الحزب لم ينسجم مع الشق المتعلق ببناء الدولة في الاتفاق بينهما".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
روسيا تلاحق التفاصيل وتتصل بباسيل
لم يقتصر تفهّم موقف الحريري ولوم فريق عون في تأزيم الوضع في البلد والتسبب بتعطيل الحكومة، على الدول الأربع التي زارها. وأكدت مصادر سياسية في بيروت على صلة بالقيادة الروسية أن موسكو تتابع بدورها تفاصيل الأزمة اللبنانية لاهتمامها بانعكاساتها الإقليمية وفي سوريا حيث تتواجد قواتها بكثافة.
وأجرى نائب وزير الخارجية الروسية، مبعوث الرئيس الروسي لشؤون الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف قبل مدة قصيرة، اتصالاً بباسيل سائلاً إياه عن عقبة الثلث المعطل، (يرد نواب تكتل عون هذا المطلب إلى وجوب الاحتياط لإمكان حصول فراغ رئاسي تتسلم بعده الحكومة سلطات الرئاسة العائدة للمسيحيين، وبالتالي المطلوب تمكين الفريق المسيحي من التحكم بالحكومة).
وأشارت المصادر عينها إلى أن بوغدانوف لم يقتنع بمبررات باسيل لتأخير الحكومة ولم يكن الاتصال إيجابياً، حيث قال بوغدانوف "إلى أين تأخذون البلد؟ هذا التأزيم يضر بالمسيحيين ولا يسمح بإعادة الاستقرار في حين أن حكومة من غير الحزبيين تحقق الإصلاحات التي يطالب بها المجتمع الدولي، هي التي تجلب الدعم للبنان كي يخرج من أزمته".
القاهرة وأنقرة تلتقيان وطهران ضد التعطيل؟
دأب بوغدانوف على ترداد تأييد بلاده الصيغة التي يطرحها الحريري خصوصاً أن موسكو تنسق مع باريس بشأن مبادرة ماكرون حيال لبنان، وتدعمها. كما نقل زوار العاصمة الروسية عن ديبلوماسيين روس تأكيدهم أن من المسائل التي تتقاطع فيها كل من تركيا ومصر، هي رفض أنقرة الشروط التي يضعها عون على الحريري للتأليف. وهذا الموقف نتج من لقاء الحريري مع كل من الرئيس أردوغان قبل زهاء شهر، والرئيس السيسي في 3 فبراير. وفي التفسيرات التي تُنقَل عن الجانب الروسي لهذه المعلومات، أن الجانب المصري لن يقبل بمواصلة الضغط على المكوّن السني في لبنان ليقدم مزيداً من التنازلات، بعدما أدت الضغوط عليه إلى إضعاف دوره في السلطة.
أكثر من ذلك، يُنقل عن موسكو أنها طرحت مرة جديدة على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف حين زارها للقاء نظيره سيرغي لافروف في 26 يناير (كانون الثاني) الماضي، أن تسعى طهران عبر حليفها "حزب الله" كي يلعب دوراً في تليين موقف حليفه عون حيال تأليف الحكومة، (كانت موسكو طرحت الأمر على ظريف حين زارها في سبتمبر الماضي) وكان جواب طهران أنها لا توافق عون على طلب الثلث المعطل في الحكومة وأن "حزب الله" يعتبر أنه بوجوده في الحكومة يمكن أن يشكل مع وزراء مقربين من "التيار الحر" الثلث المعطل، ولا حاجة للأخير أن يحصل على الثلث زائداً واحداً وحده. كما أن طهران أبلغت موسكو، ما سبق أن أبلغه الحزب لـ "التيار" في بيروت، بأنه يتمسك ببقاء الحريري رئيساً للحكومة ويخالف عون وباسيل في محاولتهما دفعه نحو الاعتذار عن تشكيل الحكومة.
ويبرر الجانب الروسي، وكذلك بعض السياسيين في بيروت، تجنب طهران وبالتالي "الحزب"، ممارسة ضغوط على عون كي يعدل موقفه من تشكيل الحكومة، بإن الظرف الحالي في لبنان والمنطقة حرج للحزب في ظل الضغوط الغربية عليه بحيث لا يمكنه أن يقوّض تحالفه مع عون.
وتفضي الوقائع المتعددة، الخارجية والداخلية، إلى تغليب احتمال عدم تراجع الحريري عن موقفه بشأن الحكومة، إذ تشير مصادره إلى أن تأليف حكومة بغير المواصفات التي يتمسك بها يعني أن لا مساعدات دولية للبنان تعينه على مواجهة أزمته، وتصبح الحكومة الجديدة بلا فائدة. ولذلك فهو سيعكس تشدده تجاه عون وفريقه في خطابه يوم الأحد 14 فبراير، طالما أن لا حكومة في الأفق.