الممثل الأميركي نيكولاس كيدج، الذي دأب على مدار السنوات الماضية بتقديم أفلام يصفها النقاد إنصافاً بالتجارية، فيما أغلبها أقل ما يقال عنها أنها لا تليق بموهبته وتاريخه وجماهيريته، عاد أخيراً إلى رشده بتقديم عمل حقق مشاهدة عالية عبر "نتفليكس" وهو "تاريخ الكلمات النابية"، ومثلما جاء العنوان الصادم للسلسلة الوثائقية التي تمر خفيفة في ست حلقات مدة كل منها عشرين دقيقة تقريباً، فإن فكرة اختيار الفنان، البالغ من العمر 57، ليقدم هذه الفكرة أضافت كثيراً للعمل الذي يعتبر دراسة توثيقية مسلية حول عالم غير مطروق كثيراً في ما يتعلق بمجالات البحث والتحليل.
وسيلة للسب أم التنفيس؟
الحلقات تبدو كأنها وثيقة مصغرة مصنوعة بطريقة لا تخلو من الدراما، حيث الضيوف بمختلف مجالاتهم من ممثلين وموظفين وباحثين متخصصين في اللغة يبحثون عما تمثله "الكلمات السيئة" بالنسبة لهم، وكيف نشأت؟ خصوصاً أن خلف لفظ أسطورة وخرافة ما، وحقيقة أيضاً يتم سردها بذكاء، لتظهر مفاجآت شتى في أصول كلمات يستعملها الشخص يومياً، ولكن لم يفكر أحد بـ"مسقط رأسه"، من قبل ولا متى نشأ ولا في أي قرن بدأ استعماله، خصوصاً أن اللغة متطورة دوماً، وبالتالي فإن بعض تلك الألفاظ لم تكن موجودة مثلاً إلا منذ خمسة قرون، ولكن مستخدميها يشعرون بأنها قديمة قدم الإنسان نفسه.
التطرق إلى الجانب النفسي كان من أكثر النقاط اللامعة في الحلقات، حيث ذكر عدد من المتحدثين أنه عند التلفظ بتلك الكلمات أثناء الشعور بالغضب والحنق، فإن الأمر من شأنه أن ينفس عن صاحبه، ويجعله أكثر هدوءاً وكأنه انتقام "سلمي" بشكل ما من المتسبب في الأذى، إذ ذكر المشاركون أمثلة على هذا الأمر، كذلك تم التطرق إلى أسلوب الكلام ونبرة الصوت وطريقة التلفظ بالكلمة وهي أمور من شأنها أن تجعل عبارة واحدة تبدو إيجابية ومصدراً للسعادة والفرح وأيضاً يمكن للكلمة ذاتها أن تكون سلبية ووسيلة انتقاد حادة ومصدراً للإهانة وأسلوباً للاعتراض، فلهجة الكلام تقلب وظيفته، فالمدح المفرط والذم المبالغ فيه يأتيان من اللفظ ذاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إحصاءات غير تقليدية
حلقات "History of Swear Words" لا تطرح معيار التهذيب هنا كفكرة للقياس، فالألفاظ الست "غير اللائقة" التي يتم تناول قصصها هي في أغلب الأحوال تستخدم كضرورة حياتية يومية بالنسبة لناطقيها الذين يشعرون براحة نفسية حين التفوه بها في بعض الأوقات التي تزداد فيها حدة حنقهم في موقف محدد، ولا يشترط أن توجه لشخص بعينه أو تكون في حضرة أحد ولكنها فكرة للتنفيس، كما أنها قد تخرج من أكثر الأشخاص تهذيباً بالمعايير المعروفة، بحسب ما يشير العمل، الذي يحفل بكثير من التفاصيل المشوقة، حيث يذكر أغلب المشاركين أن السينما كانت المصدر الأول الذي عرفوا من خلاله "الكلمات النابية"، ويصفها نيكولاس كيدج الذي لا يتعدى ظهوره الدقائق القليلة في كل حلقة ولكن تدخلاته تكون فارقة، بأنها أمر مهم للغاية، حيث نشر إحصاء لنسب الكلمات غير اللائقة التي استخدمها في أعماله، فيما كان الإحصاء الأكثر طرافة أن الممثل جونا هيل البالغ من العمر37 هو صاحب المركز الأول في استخدام هذه الألفاظ في أعماله الفنية بـ376 مرة، والنصيب الأكبر منها قاله في فيمله الشهير "The Wolf of Wall Street" عام 2013، وبعده ليوناردو دي كابريو ثم صامويل آل جاكسون، وفي المركز الرابع آدم ساندلر وآل باتشينو يأتي في المرتبة الخامسة، حيث كانت تلك الكلمات قاصرة على السينما حتى باتت متداولة في الأعمال التلفزيونية منذ عام 2004.
كيف تحولت "اللعنة" من كلمة ممنوعة سينمائياً إلى لفظ عادي؟
تتكرر في الحلقات تيمة أساسية أخرى وهي أن قاموس الكلمات "النابية" مر بمراحل للتطور، فالكلمة التي باتت "غير لائقة" كان أصلها عادياً تماماً، ثم مع الوقت أصبحت في ثقافة ما من ضمن المحرّمات، ومع ذلك هي تتحول في حديث بعض الفئات العمرية إلى أسلوب حياة وتصبح جزءاً من الحوار اليومي وغير دالة على السب ولا تعد في عرفهم نوعاً من "الشتائم"، وهو جزء من تطور اللغة وفقاً للمحيط الثقافي الذي تركز عليه سلسلة الحلقات التي بدت كأنها دورة مكثفة عن سياق وتاريخ ومستقبل هذه النوعية من الألفاظ، ومثلما تخطت الحلقات كثيراً من الخطوط الحمراء لكنها قدمت جانباً علمياً وتاريخياً يغفل عنه كثيرون، وطوال المشاهدة يكتشف المتابع مفاجآت من بينها تاريخ إنتاج الأفلام السينمائية الذي كان معمولاً به في هوليوود خلال الثلاثينيات والذي كان يحرم استخدام كلمات مثل "الجحيم ـ والرب ـ بئساً ـ اللعنة"، وحدث تحايل من قبل منتجي فيلم "ذهب مع الريح" عام 1939، ليتمكن البطل كلارك غيبل من قول "اللعنة" ضمن الحوار، حيث تم إصدار ملحق للقانون الرقابي ليحدث هذا الأمر، فيما أن الكلمة يصنفها المسلسل الوثائقي بأنها كلمة بسيطة وضئيلة تقع في الصف ذاته مع تعبير مثل "الجبان"، فبعدما كانت هناك قوانين تجرم التلفظ بها في السينما، باتت كلمة متداولة بكثرة بل يعبترها بعض المشاركين وسيلة مهمة للتواصل بين الأشخاص، حيث يتبنى العمل وجهة نظر تطرح قاموس الشتائم بأكمله من ضمن طرق التعبير عن النفس والمشاعر، ولا تصنف بكونها عنفاً لفظياً مؤذياً إذا تم استعمالها في سياقها وبشروط.