دعت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشيل باشليه، الخميس الرابع من مارس (آذار)، إلى فتح "تحقيق موضوعي ومستقل" في إقليم تيغراي الإثيوبي، بعد "إثبات حدوث انتهاكات خطيرة قد تشكل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
وأعلنت باشليه في بيان نُشر في جنيف، أن مكتبها "تمكن من إثبات معلومات حول بعض الأحداث التي وقعت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تفيد بعمليات قصف عشوائية في مدن ميكيلي وحميرة وآديغرات في منطقة تيغراي" الواقعة في شمال إثيوبيا، وتشهد معارك منذ أشهر.
وبحسب البيان، تحقق مكتب المنظمة الأممية أيضاً من "معلومات تتحدث عن انتهاكات خطيرة وتجاوزات تشمل مذابح في أكسوم ودينغيلات في وسط تيغراي من جانب القوات المسلحة الإريترية".
وأضاف، "قد تكون ارتُكبت انتهاكات خطيرة للقانون الدولي يمكن أن ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
أطراف عدة دخلت النزاع
ويذكر بيان مفوضة الأمم المتحدة أن القوات الموجودة على الأرض تشمل قوات الدفاع الوطني الإثيوبية وجبهة تحرير شعب تيغراي والقوات المسلحة الإريترية وقوات أمهرة الإقليمية والميليشيات التابعة لها. وقالت إنه "مع وجود أطراف عدة في النزاع وإنكار عام، فمن الواضح أن ثمة حاجة لتقويم موضوعي ومستقل".
وحضّت باشليه الحكومة الإثيوبية على السماح لمكتبها ومحققين أمميين آخرين بالوصول إلى تيغراي، "بهدف تحديد الوقائع والإسهام في المحاسبة، أياً كان أصل مرتبكيها"، مشيرة إلى أن مكتبها لا يزال يتلقى معلومات حول معارك دائرة في وسط الإقليم.
ونددت بـ "معلومات مقلقة للغاية تفيد بأعمال عنف جنسية وجنسانية وإعدامات خارج نطاق القضاء، وعمليات تدمير ونهب معممة لأملاك عامة وخاصة من جانب الأطراف كافة".
وقالت مفوضة الأمم المتحدة إنه "من دون تحقيقات سريعة وحيادية وشفافة، ومن دون المطالبة بمحاسبة المسؤولين، أخشى أن يتواصل ارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان مع الإفلات من العقاب، والوضع سيبقى غير مستقر لوقت طويل".
توقيف الصحافيين
وأعربت باشليه أيضاً عن قلقها حيال توقيف صحافيين ومترجمين يعملون لمصلحة وسائل إعلام محلية وعالمية خلال الأسبوع الحالي في تيغراي.
وفي حين تم الإفراج عنهم، أشارت المفوضة إلى تصريحات مقلقة صادرة عن عضو في الحكومة أكد فيها أن ممثلين لـ "وسائل إعلام عالمية مخادعة سيتحملون المسؤولية". وأضافت، "لا ينبغي أن يُمنع ضحايا انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان والشهود عليها من مشاركة شهاداتهم خشية حصول ردود".
وفي أواخر نوفمبر الماضي، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد انتهاء العملية العسكرية في إقليم تيغراي مع استعادة السيطرة على عاصمته ميكيلي، إلا أن قادة المنطقة الفارين وعدوا بمواصلة نضالهم، وتم الإبلاغ بعدها عن استمرار المعارك.
وتم توثيق حصول مذابح عدة نسب ناجون منها بعضها إلى القوات الإريترية في الإقليم، التي لا تزال أديس أبابا وأسمرة تنفيان وجودها فيه.
روايات المجازر
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن روايات العنف الذي وقع في تيغراي، قصة منزل بيينش تيتكليوهانيس، الذي كان يضج ظهر أحد أيام نوفمبر بالحياة، بحضور أكثر من 30 ضيفاً يغنون ويصلون ويتشاركون طبق "شيرو" التقليدي والعدس احتفالاً بعطلة أرثوذكسية مهمة، من دون أن ينتبه أحد إلى تقدم الجنود الإريتريين سيراً على الأقدام على الطريق الرملي الطويل باتجاه قرية دينغولات في الإقليم، إلا بعد فوات الأوان.
وأجبر الجنود الذين كانوا يرتدون ملابس عسكرية ويتحدثون اللغة التغرينية بلهجة إريترية، جميع الضيوف على الدخول إلى المنزل، وانتزعوا الرجال والصبيان واقتادوهم إلى مكان أسفل تلة.
وسمعت بيينش أصوات إطلاق الرصاص، بينما هرعت تبحث عن مكان آمن في الاتجاه الآخر. وانتابها القلق فوراً على أحبائها من الرجال الذين اقتيدوا إلى الأسفل، زوجها ونجلاها إضافة إلى أبناء أحد أشقائها، ولدى خروجها من مخبئها بعد ثلاثة أيام، اكتشفت بيينش أن جميعهم قضوا في المجزرة، وكان الجنود كبلوهم بالأحزمة والحبال وأطلقوا النار عليهم في الرأس.
وقالت بيينش لوكالة الصحافة الفرنسية والدموع تنهمر من عينيها، وهي تروي كيف تحول عيد القديسة مريم السنوي إلى حمام دم، "ليتني مت قبل أن أرى ذلك".
يشير مسؤولون محليون في الكنيسة إلى أن 164 مدنياً قتلوا في دينغولات، حيث سقط معظم الضحايا في 30 نوفمبر، أي بعد العيد بيوم، وتعد المجزرة بالتالي بين الأسوأ التي شهدها نزاع تيغراي المتواصل حتى اللحظة.
قاعدة لا استثناء
وفرضت حكومة أحمد قيوداً مشددة على وصول فرق الإغاثة الإنسانية والإعلام على حد سواء إلى المنطقة، وعلى مدى نحو ثلاثة أشهر، يئس سكان دينغولات من فرص إيصال قصتهم إلى العالم.
ووصلت وكالة الصحافة الفرنسية إلى المنطقة الأسبوع الماضي، وقابلت ناجين وعاينت المقابر الجماعية التي باتت منتشرة في القرية التي تضم منازل حجرية تحيط بها الكتل الصخرية العملاقة.
وتخشى المجموعات الحقوقية من أن تكون أحداث دينغولات قاعدة لا استثناء في نزاع تيغراي.
وبحسب الباحث المتخصص في شؤون إثيوبيا لدى منظمة العفو الدولية، فيسيها تيكلي، "هناك عدد من المواقع التي شهدت أعمال عنف ومجازر في تيغراي، ولم يتضح بعد حجمها الكامل".
وتابع، "لذلك نطالب بتحقيق تقوده الأمم المتحدة، ويجب أن تخرج تفاصيل الفظائع إلى العلن وأن تتبع ذلك عملية المحاسبة".
واكتفت أديس أبابا حتى الآن بالإعلان بأنها تحقق في "جرائم مشتبه فيها" في المنطقة.
وأعلن أحمد، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 2019، عن العمليات العسكرية في تيغراي قبل أربعة أسابيع من يوم عيد القديسة مريم، قائلاً إنها جاءت رداً على هجمات نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ضد معسكرات الجيش الفيدرالي.
وهيمنت الجبهة على المشهد السياسي الإثيوبي لعقود، وازداد التوتر مع أحمد منذ توليه السلطة العام 2018 لاتهامه بتهميشها.
محاولة "لإبادتنا"
وفيما تتواصل الحرب وسط تقارير متزايدة عن فظائع مرتكبة، كثيراً ما يشار بأصابع الاتهام إلى جنود من إريتريا المجاورة، الذين تتحدث تقارير عدة عن دعمها للقوات الإثيوبية.
وتنفي أديس أبابا وأسمرة أي وجود للجيش الإريتري في تيغراي، ونشرت منظمة العفو الأسبوع الماضي تقريراً يفصل كيفية قتل الجنود الإريتريين "بشكل ممنهج مئات المدنيين العزل" في مدينة أكسوم في تيغراي خلال نوفمبر 2020 أيضاً.
وأفاد أهالي تيغراي في البلدتين بألا شك لديهم إطلاقاً حيال جنسية مرتكبي الفظائع، فإضافة إلى اللهجة، تحدثوا عن ندوب في الوجه تميز مجموعة بني عامر العرقية الإريترية.
وقال الناجي من مجزرة دينغولات، تمرات كيدانو (66 عاماً)، إنه كان يسير باتجاه حقول الذرة التي يملكها صباح وصول الإريتريين الذين أطلقوا النار عليه في فخذه الأيمن، ولم يتمكن من الحراك، فاستلقى على الأرض ليسمع الجنود وهم يقتلون رجالاً آخرين، بينهم ابنه البالغ 26 عاماً وتزوج حديثاً.
قبل عقدين، عندما هيمنت جبهة تحرير شعب تيغراي على الحكومة المركزية، انخرطت إريتريا وإثيوبيا في حرب حدودية طاحنة أودت بعشرات الآلاف، ويرى عدد من المنتمين لعرقية تيغراي، بمن فيهم تمرات، أن ما يقوم به الجنود الإريتريون اليوم يعد انتقاماً لخصومة الماضي.
وقال تمرات من سريره بمستشفى في ميكيلي، حيث يستعين بحبل من أجل الجلوس، "يهدف هذا النوع من الجرائم إلى إبادتنا وإهانتنا".
المقابر الجماعية
بينما أطلق الجنود الإريتريون النار على الرجال في وسط دينغولات، احتمى مئات المدنيين الآخرين داخل كنيسة أرثوذكسية بنيت قبل قرون في الجبال، لكن سرعان ما حذر الجنود من أن الكنيسة ستتعرض للقصف ما لم يخرج الرجال ويستسلموا، وحاول بعضهم يومها الفرار عبر الصعود إلى مناطق جبلية أعلى، لكن ما لبث أن أطلق الجنود الإريتريون النار عليهم.
وكان غبريمريم (30 عاماً)، والذي طلب عدم الإفصاح عن اسمه الحقيقي خشية تعرضه لأعمال انتقامية، بين قلة سلموا أنفسهم للإريتريين، وأوكلت إليه مهمة نقل الجثث ودفن الموتى الذين انفجرت رؤوسهم جراء الرصاص، على متن حمالات يدوية الصنع إلى مقابر جماعية.
وبينما وقف أمام إحدى تلك المقابر الواقعة خلف مجموعة من النباتات الشوكية، سخر غبريمريم من مزاعم المسؤولين بأن النزاع لم يتسبب إلا بالحد الأدنى من الأذى للمدنيين. وقال، "ما ترونه أمامكم يثبت أن هذه كذبة".
وبعدما غادر الجنود الإريتريون، لون غبريمريم وآخرون من سكان القرية بعض الصخور التي وُضعت لتحديد أماكن المقابر الجماعية باللون الأزرق السماوي. وقال غبريمريم، "اعتقدنا أن ذلك قد يمكن الأقمار الاصطناعية من الكشف عنها".
وعندما وصل الصحافيون إلى القرية، سارع عشرات الرجال والنساء إلى الخارج، حيث حمل بعضهم صوراً لأقارب قضوا في الأحداث.
ووسط نحيب النساء اللواتي ضربن على الأرض بأيديهن، وصرخ بعضهن أسماء أبنائهن الذين قتلوا، غطى رجال وجوههم وأجهشوا بالبكاء.
وانتقد الكاهن في الكنيسة الأرثوذكسية في دينغولات، كاهسو غيبرهيوت، عدم تنديد زعماء الأرثوذكس الإثيوبيين بعمليات القتل، ناهيك عن الحكومة الفيدرالية. وقال، "عندما يموت الناس وهم (زعماء الكنيسة) لا يقولون أي شيء، فإن هذه إشارة إلى أنهم يخشون على حياتهم".
وتابع، "لكن كما يعلمنا الإنجيل، إذا رأيت أمراً سيئاً يحصل للناس فعليك الصلاة، لكن عليك أيضاً أن تتكلم".