قطعت الصين شوطاً كبيراً نحو إصدار عملتها الرقمية الرسمية "اليوان الرقمي"، الذي بدأ ملايين الصينيين استخدامه في المدفوعات والتعامل مع البنوك بشكل تجريبي منذ أكثر من عام.
وخلال الأشهر الأخيرة، أعلنت دول كثيرة استعداداتها لتطوير عملة سيادية رقمية تصدرها بنوكها المركزية، وتستخدم بالأساس في المدفوعات، على أن تصبح وسيلة تعامل مع البنوك وفي الصفقات الاقتصادية ما بين الشركات والأعمال، وعملة حسم للتعاملات عبر الحدود.
ونشرت صحيفة "ساوث تشاينا موررنغ بوست" تقريراً عن تفكير الولايات المتحدة الآن في اللحاق بقطار الاستعداد لطرح العملات الوطنية الرقمية، أي العمل على طرح الدولار الإلكتروني. وأشارت الصحيفة إلى المؤتمر الذي عقدته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية الشهر الماضي، وتحدثت فيه وزيرة الخزانة الأميركية الجديدة جانيت يلين بإيجابية عن فكرة "الدولار الرقمي"، مشيرة إلى أنه قد يفيد الأميركيين الذين ليس لديهم حسابات مصرفية، من بين فوائد أخرى محتملة للعملة الرقمية.
الحاجة للعملات الرقمية
وذكرت الصحيفة الصينية أن وزير الخزانة السابقة في عهد دونالد ترمب، ستيفن مانوشين، لم يكن متحمساً لفكرة العملة الرقمية. وكان مانوشين قال العام 2018 إن وزارة الخزانة والاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي ما زالا يدرسان سلبيات وايجابيات الدولار الرقمي، وأضاف "ولا نعتقد أن هناك حاجة له الآن".
ويخلص تقرير صحيفة ساوث تشاينا مورننغ بوست إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن لا تريد أن تتخلف الولايات المتحدة كثيراً في مجال التكنولوجيا المالية، لذا تستعد بجدية للعمل على إصدار الدولار الرقمي خشية أن تفقد الريادة في هذا السياق لمصلحة الصين وغيرها.
اليوان الصيني
وبدأت الصين العمل على إصدار عملة وطنية رقمية مبكراً في عام 2014، وذلك ضمن جهود الصين للتقدم في سباق التكنولوجيا المالية. ومنذ نحو عام الآن، أي بعد نحو ست سنوات، تكرر بكين الإعلان عن قرب إطلاق اليوان الرقمي، لكن يبدو أنها مازالت تفضل الاستمرار في المرحلة التجريبية مدة أطول.
ويجري بنك الشعب المركزي الصيني تجارب اليوان الرقمي بالأساس على مدفوعات المواطنين الصينيين. وفي العام الماضي شهدت التجارب نحو 4 ملايين عملية دفع باليوان الرقمي، أنفق فيها المستهلكون الصينيون 307 ملايين دولار (2 مليار يوان). وتمت المعاملات مع محال التجزئة والمطاعم وعمليات الدفع عبر الإنترنت في أربع مدن رئيسة يجري اختبار العملة الرقمية فيها.
وتأمل الصين بأن يؤدي طرح اليوان الرقمي إلى ما هو أبعد من استخدامه في المدفوعات للمواطنين داخل الصين، بل إن أول عملية استخدام تجريبي للعملة الرقمية بين الشركات والأعمال تمت أخيراً في اقليم لياوننغ شمال الصين لصفقة في مجال النقل بالسفن، وكان الطرف المالي في الصفقة بين الشركتين بنك إدخار البريد الصيني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يشكل اليوان الصيني سوى نسبة ضئيلة من عملات الاحتياط الدولية، وأيضاً نسبة أقل من عمليات المدفوعات الدولية. وبحسب بيانات الصندوق الدولي، يشكل اليوان نسبة أربعة في المئة فقط من عملات الاحتياط الدولية، بينما يشكل الدولار الأميركي نحو 60 في المئة من عملات الاحتياط حول العالم. كذلك يمثل اليوان نسبة اثنين في المئة فقط من معاملات المدفوعات الدولية، بينما نحو 38 في المئة من تلك المعاملات تتم بالدولار، بحسب بيانات نظام سويفت للمدفوعات الدولية.
هيمنة الدولار
وبحسب تقرير الصحيفة الصينية، تأمل بكين عبر طرح اليوان الرقمي قبل بقية الاقتصادات الرئيسة في العالم، بأن يزيد استخدامه في المدفوعات عبر الحدود، مما يجعل العملة الرقمية الصينية تحصل على نصيب من هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي.
ويبدو أن عين الصينيين على 15 دولة وقعت نهاية العام الماضي اتفاقاً تجارياً، إذ باتت تسمى "الشراكة الاقتصادية الاقليمية الشاملة". كما تراهن بكين أيضاً على الانضمام لاتفاق الشراكة التقدمية عبر المحيط الهادئ. ومن شأن تبني دول من تلك المجموعات لليوان الرقمي في المدفوعات عبر الحدود أن يعيد توجيه تدفقات الاستثمار المباشر في المنطقة، ويوفر للعملة الوطنية الصينية مكانة متزايدة على حساب التعاملات بالعملات الرئيسة الأخرى، وفي مقدمها الدولار.
اليورو الرقمي
وربما يكون الاتحاد الأوروبي التالي بعد الصين في تطوير عملة سيادية رقمية، فمن المتوقع أن يوافق الاتحاد الأوروبي الشهر المقبل على البدء في تجارب "اليورو الرقمي" الذي يعمل البنك المركزي الأوروبي على تطويره مستفيداً من تجربة اليوان الرقمي الصيني.
وقبل أسابيع، قالت رئيس البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد إن "أوروبا قطعت شوطاً معقولاً في هذا السياق، وتستفيد من التجارب التي سبقتها لطرح اليورو الرقمي الذي لن يكون بديلاً عن أوراق النقد، بل مكملاً لها، لمن يرغب في التعامل الرقمي في المدفوعات وغيرها".
وقالت لاغارد، "علينا تسريع العملية، ونعم الصين تسبقنا، وقد أطلق بنك الشعب الصيني العملية منذ ست سنوات، وبدأوا بالفعل طرحاً تجريبياً للعملة الرقمية لمئات ملايين الصينيين الذين يستخدمونها". وأضافت، "أصدرنا ورقة بهذا الخصوص في أكتوبر الماضي، وانتهينا من دراسة استشارية في الدول الأوروبية شملت 8 آلاف مستجيب للمسح، عبروا عما يريدونه منها، سواء الأمان والضمانات وخضوعها لتنظيم البنك المركزي والحفاظ على الخصوصية وغير ذلك من الخصائص".
النظام المصرفي
وتوقعت كريستين لاغارد أن تأخذ عملية الطرح مدة أقل مما أخذت في الصين، وقدرت أن يكون ذلك في غضون أربع سنوات تقريباً.
وأشارت إلى أنه "في تلك الفترة سيتم التجريب والاختبار بحيث تلبي العملة الرقمية كافة المتطلبات التي عبّر عنها الأوروبيون، بألا تكون وسيلة لبيع بيانات ومعلومات من يستخدمونها، وأن تكون آمنة ومضمونة".
وأكدت رئيس البنك المركزي الأوروبي أن العملة الرقمية الأوروبية ستكون أمراً اختيارياً لمن يريد استخدامها، وأنها بالتأكيد "لن تكون بديلاً تماماً للأوراق النقدية، وعلينا أن نضمن استقرار النظام المصرفي وأن تكون العملة الرقمية وسيلة مدفوعات وليست وسيلة مضاربات".
الدولار الرقمي
في مسح لبنك التسويات الدولية، الذي يسمى بنك البنوك المركزية العالمي، نشر أخيراً أن نسبة 86 في المئة من البنوك المركزية التي شملها المسح تجري أبحاثاً وتجارباً لإصدار عملة رقمية وطنية، ويقدر أن نحو 60 بنكاً مركزياً حول العالم تعمل على الاستعداد لاصدار عملات رقمية وطنية.
وبحسب تقرير التكنولوجيا المالية الصادر في الصين الخريف الماضي، تأتي الولايات المتحدة في مرتبة متأخرة عالمياً في هذا السياق، وربما تكون المكانة العالمية للدولار الأميركي كعملة احتياط ومدفوعات وأيضاً عملة حسم في إنهاء إجراءات التحويل والتبادل النقدي العالمي، سبباً في تحفظ السلطات المالية والنقدية الأميركية تجاه إصدار عملة رقمية.
لكن التقدم الذي قطعته الصين في هذا المجال، وكذلك الأوربيون وغيرهم، جعل المسؤولين الأميركيين يغيرون موقفهم في ما يبدو، وإلى جانب تصريحات جانيت يلين في مؤتمر "نيويورك تايمز" الشهر الماضي، قال رئيس الاحتياطي الفديرالي جيروم باول في شهادة له أمام الكونغرس الشهر الماضي، إن البنك المركزي ينظر بدقة في مسألة إصدار دولار رقمي، معتبراً ذلك "مشروعاً ذا أولوية قصوى".
وكان بنك الاحتياط في بوسطن، وهو جزء من نظام البنك المركزي الأميركي، أعلن أغسطس (آب) الماضي أنه سيجري دراسة بالتعاون مع معهد ماساشوستس للتكنولوجيا حول دولار رقمي افتراضي للاستخدام في معاملات التجزئة.
ويعزز ذلك ما يراه معظم الاقتصاديين من أن مجال التكنولوجيا المالية سيكون ساحة المنافسة الحادة بين الاقتصادات الكبرى خلال السنوات المقبلة، بخاصة بعد ما أفرزته أزمة وباء فيروس كورونا (كوفيد-19) العام الماضي من اعتماد أكبر على التعامل الرقمي في أكثر من مجال اقتصادي.