لا يزال القمر يمارس تأثيره السحري على البشر والحجر فوق كوكب الأرض، حتى بعد ما بات في مقدور الإنسان الهبوط فوق سطحه وسبر أغواره. وبحسب الكاتب الألماني بيرند برونر (1964) فإن ما سوف نفهمه في المستقبل عن "القمر الذي نثق به ونعرفه منذ زمن"، يمكن أن تكون له صبغة دينية أو لا تكون؛ لكن في كل الحالات، فإن ما سنعرفه سوف يتوافق بسشكل وثيق مع فكرتنا عن كوكبنا وموقعنا في الكون". والمنسوب إلى برونر هنا ورد في كتابه "القمر" الذي ترجمته هبة الشريف عن الألمانية لدار "العربي" في القاهرة، وفي خلاصته: "لم يعد القمر يبدو لنا اليوم غامضاً كما كان منذ قرون قليلة، ولكن على الرغم من كل ما نعرفه اليوم عنه سوف يظل له سحر يمارسه علينا، وهو شيء لا يمكن شرحه بطريقة عقلانية تماماً، فهل يخفي القمر سراً أبدياً؟".
وبرونر، المعروف بكونه كاتب مقالات ومؤلف كتب غير روائية، تشتهر أعماله باستكشافها العلاقة بين الإنسان وكل ما يبدو بسيطاً في ظاهره، وهو في كتابه الذي نعرض له هنا يتناول القمر في التاريخ والأساطير، وأثره على النساء! ويختمه بـ"اقتراح أخير": "سمى فنان الفيديو الكوري نام جون بايك أحد أعماله الفنية (القمر هو أقدم تلفاز) وقد أنجز هذا العمل في عام 1967. لماذا لا نقوم إذن ولو لمرة واحدة بإغلاق الكمبيوتر لنلقي نظرة على سماء الليل؟ فوجه القمر يمكن أن يخبرنا ببعض الأشياء عن حاضرنا ومستقبلنا، تماماً كما يكشف لنا تاريخ القمر عن بعض الأشياء في ماضينا".
صور مجازية
في بعض الأحيان كان وضع القمر في السماء يستخدم كأساس لصور مجازية عن الوقت، فنجد مثلاً عند بعض شعوب أفريقيا الوسطى تعبيراً مثل "القمر يسقط فوق الغابة"، ويعني أن القمر يظهر منخفضاً عند الأفق، أو "ينام القمر في الهواء الطلق"، وذلك عندما يكون القمر مرئياً في السماء عند طلوع الفجر. وفي مصر القديمة تحديداً، أراد علماء الفلك أن يوفقوا بين أنظمة تقسيم الزمن المختلفة والمعتمدة على القمر والنجوم والشمس، فقاموا في عام 3000 قبل الميلاد بتحديد 365 يوماً للسنة، وثلاثين يوماً للشهر، وقسموا الشهر إلى أسابيع؛ طول كل منها عشرة أيام.
وفي سياق المجاز، فإنه عندما يلتقي اثنان من المحبين سراً تحت ضوئه، يصبح القمر الشاهد الوحيد على ارتباطهما، وربما الشاهد الأول أيضاً، وفي المقابل، فإن حضور القمر يجعل مشاعر المحبين أكثر قوة، ويصبح بالفعل رمزاً للرباط الذي يجمع بينهما.
وفي هذا الصدد كتبت دورين فالنته كتاباً بعنوان "حيث يعيش السحر"، ذكرت فيه أن الناس في مختلف الأماكن يعتقدون أن "ضوء القمر له أثر يحفز الرغبة الجنسية لدى الإنسان ويؤججها"، لكن ما نعرفه- يقول برونر- هو أن هذا الأمر يعود في الواقع إلى الأفكار المرتبطة بالقمر في ثقافات بعينها. ويضيف أنه يمكن للقمر أن يؤدي بالفعل إلى حالة مزاجية رومانسية أو روحانية باطنية؛ لأنه يوقظ ذكريات وتتداعى معه الخواطر في نفس الإنسان. ولا تقل رومانسة ممارسة الحب تحت ضوء القمر- يلاحظ برونر- عن اللقاء بين أنواع الشموع، إلا أن جمال القمر والمشاعر القوية التي نشعر بها تجاه المحبوب يمكن أن تجعلنا ننسى الأخطار العادية الناتجة عن التعري في الليل.
سحابة صغيرة بيضاء
قد يكون مارسيل بروست قد أشار إلى مثل هذه الأخطار عندما كتب عن أحد الرجال أنه "نسي غالباً الليالي الجميلة التي قضاها في الغابات تحت ضوء القمر"، على الرغم من أنه ما زال يعاني من الروماتيزم الذي أصيب به أثناءها. ورغم إدراك بروست لقدرة القمر على إحداث الضرر، فإنه يشير في موضع آخر إلى براءة القمر عندما نراه نهاراً، فهو يبدو في ذلك الوقت "وكأنه سحابة صغيرة بيضاء ذات حدود واضحة وشكل لا يتغير".
كما يلاحظ أن أحداث مسرحية "حلم ليلة صيف" لوليم شكسبير تدور تحت ضوء القمر في بلد مليء بالجنيات. القمر في هذه المسرحية طاقة قوية لها تأثير السحر في الشخصيات، ويدفعهم أحياناً لسلوك غريب غير مسموح به. يرمز القمر إلى الأحلام، وإلى عالم يختلط فيه الخيال مع الواقع، تقول هيبوليتا، خطيبة ثيسيوي، دوق مدينة أثينا، معبرة عن فرحتها بقرب زفافها: "سريعاً ما تغوص الأيام الأربعة في جوف الليل/ وسريعاً ما تمضي الليالي الأربع بالزمن في غمرة الأحلام/ ثم يشرق الهلال مثل قوس فضي/ شُدَّ من جديد وسط السماء ليشهد ليل حفلاتنا" (ترجمة محمد عناني).
هذا القمر الذي يبارك الرباط بين المحبين هو نفسه الذي يهددهم؛ لأنه قابل للتحول، فهو يأتي بخطر التعرض للشهوات الحسية والفوضى. يصور القمر في مسرحية أخرى لشكسبير بأنه تهديد للحب الخالد، لدرجة أن جولييت ترجو محبوبها: "أرجوك لا تقسم بهذا القمر/ فالبدر كذاب أشر/ يقلب الوجوه في مداره بكل شهر/ وإن حلفت به أصابتك الغير". (ترجمة محمد عناني). وشبه الشاعر الإنجليزي بيرسي بيش شيلي القمر تشبيهاً كئيباً: "القمر فوق الأرض الغارقة في الضباب/ مثل امرأة تحتضر، شاحبة وضعيفة/ تخرج من الغرفة ملتفة في حجاب رقيق/ تتأرجح بسبب الفزع المخبول/ خجلة من العقل المرتبك الحالم/ يظهر القمر مثل كتلة بيضاء وبلا شكل".
لورد جيم
ويلاحظ كذلك أن كُتاب أدب الرعب استغلوا المخاوف المرتبطة بالليل والقمر ووظفوها في كتاباتهم. مثلاً جوزيف كونراد في روايته "لورد جيم"، يقول: "القمر وهو يصعد من بين شقوق التلال كأنه شبح للشمس الميتة وهو يطلع من أحد القبور. يسقط ضوؤه بارداً وشاحباً". ويضيف: "للقمر صفة شبحية: يمتلك برودة روح بلا جسم، كما يمتلك سرها الغامض. علاقته بالشمس- التي تمثل الحياة بالنسبة إلينا- أياً كان ما تقولوه عنها، مثل علاقة الصدى بالصوت. إنها علاقة مضللة ومربكة، فلا نعرف إذا كانت النبرة ساخرة أم حزينة. يسرق القمر كل المادة التي تشكل عناصرنا، يسرق محتواها ويلقي فقط ظلالاً لواقع مخيف".
وفي قصص الخيال والرعب يصبح القمر موضوعاً يثير الفزع وتظهر معه في كثير من الأحيان حيوانات مثل البوم والخفافيش التي تنشط في الفجر والليل بصفة خاصة، أو تظهر كائنات أخرى مثل مصاصي الدماء.
والقمر في اللوحات يضفي على المشهد روعة وأحياناً هالة سحرية. فلوحة "الهروب إلى مصر" (1609 – 1610) التي رسمها آدم إلسهايمر، ويبدو أنه كان على دراية قوية بأعمال غاليليو، تصور أطوار القمر بكل المناطق المظلمة فيه بدقة جاذبة للنظر. ولكن هذا ليس كل شيء فقد استحضر إلسهايمر أمامنا أيضاً دلالة منظر الطبيعة في الليل وكل مصادر الضوء فيه؛ حتى ضوء القمر المنعكس على سطح الماء.
قريب بعيد
أما فنانو عصر الرومانسية فقد تركوا لنا العديد من اللوحات التي يظهر فيها القمر – يبدو فيها قريباً منا، ولكنه بعيد في الوقت نفسه. ويظهر في العديد من اللوحات كرمز أسطوري أو ديني، فهو يمثل الرهبة من الطبيعة أو يرمز إلى قوة الخلق. صوَّر الرسامون ضوء القمر وهو ينعكس على صفحات البحيرات والبحار ويتسلل بين فروع الأشجار والسهول والجبال والمدن والموانئ. ويمكن؟ أن نستخلص من هذه الرسومات كلها تصنيفاً كاملاً للحالات المزاجية المختلفة التي يضعنا فيها القمر. كان الرسام الإنجليزي جوزيف رايت أوف دربي، متخصصاً في رسم المناظر الطبيعية، وكان يحب التجريب بمؤثرات الضوء، لذلك نجد أن الضوء الوحيد الذي ينير لوحاته هو ضوء القمر كما في لوحة "قبر فيرجيل" مثلاً، حيث يظهر ضوء القمر مكثفاً لدرجة أنه ينير القبر من الداخل أيضاً. أما القمر بالنسبة إلى الرسام الياباني تسوكيوكا يوشيتوشي، فكان أمراً مقدساً، فقد أنجز الفنان في الثمانينيات من القرن التاسع عشر سلسلة فاتنة من اللوحات الملوَّنة المحفورة في الخشب بعنوان "مئة جانب للقمر". تصور هذه اللوحات شخصيات مستمدة من الأساطير اليابانية والصينية وهي وسط سياق الطبيعة الواقعة تحت تأثير القمر.
وفي المقطوعة الموسيقية "حمام القمر" 1959 تغني الإيطالية مينا، أغنية عن فتاة تفضل أن تأخذ حمام القمر بدلاً من حمام الشمس، فهي تريد أن تكتسب بشرتها لوناً مثل الحليب، فهذا اللون في بلد تعد البشرة السمراء فيه الأمر الاعتيادي يجعل من الفتاة الشابة "الأجمل وسط الجميلات". حتى النباتات البرية التي تنمو في الطبيعة الحرة، يمكن أن تترك انطباعاً غريباً للغاية في ضوء القمر، فنجد أن غي دو موباسان كان مفتوناً بغابات الصبار التي رآها في شمال تونس: "تبدو الجذوع الملتوية مثل أجساد تنانين، وكأنها أطراف لوحوش بحراشف شائكة ومتأهبة للهجوم. عندما تدخل مثل هذه الغابة ليلاً تحت ضوء القمر، تشعر كأنك انتقلت إلى عالم مخيف من الأشباح".
تأثير خاص على النساء
يقدم هذا الكتاب عبر 265 صفحة من القطع الوسط، تاريخاً موجزاً للآثار التي تركها القمر في المخيلة الإنسانية، فيوضح لنا تصورات الثقافات والأساطير المختلفة عن القمر، حتى استنهض القمر طموح الناس ودفعهم للقيام باختراعات كان لها تأثير واسع النطاق. سنرى استخدام الناس للقمر من أجل تشكيل بنية الوقت وأولى خرائطه التي رسموها له، وكيف قاموا بشرح أصله ونشأته وتأثيره على الطبيعة وعلى النساء بشكل خاص؛ فنعرف علاقة القمر بحالتهن المزاجية وسلوكهن، وكيف يمكنه أيضاً أن يحدد لهن مجرى حياتهن. ما هذه العلاقة الغريبة بين أطوار القمر والنساء، وهل يمكن لضوئه أن يحدث تغييرات بيولوجية لديهن، وهل يمكن لاكتمال القمر أن يتحكم في كل ما يتعلق بالحياة اليومية، كقص الشعر وحتى موعد الولادة؟
سنرى أيضاً كيف تخيل العلماء والكُتاب وصانعو الأفلام الحياة فوق سطح القمر، ولماذا ما زال بعض البشر يفترض أنه لم يحدث أن هبط الإنسان على سطحه، وأن الهبوط عليه كان مشهداً مدبراً على الرغم من تعدد برامج رحلات وكالة ناسا للقمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ربما علينا- يقول بيرند برونر في ختام رحلته تلك– أن نزيح معارفنا الحالية للحظة واحدة. فإغفال كل الآراء العلمية قد يسمح لنا بإدراك القمر بشكل أقل تحيزاً، تماماً كما يحدث لنا عندما نترك المدينة وأنوارها الليلية خلفنا من أجل أن نرى القمر بشكل أوضح. إنه تدريب على التركيز. يمكن أن نجعل هنا "خوسيه أركاديو بوينديا" يلهمنا هذه الشخصية الجاذبة في رواية غابرييل غارسيا ماركيز "مئة عام من العزلة". فقد عزل "بوينديا" نفسه في حجرة من الأجهزة الفلكية ليستطيع رصد ما يحدث في السماء، ثم أخذ يحلم بأنه يقوم برحلات خيالية في محيطات غير معروفة لنا. إن لرجل مثل "بوينديا" يقول برونر– أهمية خاصة وسط أولئك الذين يراقبون النجوم اليوم، ربما لا نريد أن يكون لنا نفس عناده، وربما لن نضيع كما حدث له، ولكن ما يبعث على الراحة هو أن نعرف أن النظر إلى القمر والنجوم ليس دائماً مسألة تخص الفيزياء الفلكية والرياضيات فقط، وأن الخيال الذي يتجاوز كل النظريات يصلح أيضاً في عالم مشبع بالتقنية العالية.