كان الطبيب يحاول إنعاش مريض يحتضر في قسم فيروس كورونا في بغداد حين سمع صوت انفجار أول لأسطوانة أكسجين متبوعاً بصوت الغاز الذي يتسرّب منها.
ولعلمه بوجود أكثر من 12 أسطوانة أخرى، وبأن مخزون الأكسجين الرئيس في المستشفى قد يحترق، صرخ الدكتور كمال الرباعي بالجميع طالباً أن يخلوا المكان.
حدث ذلك ليلة السبت في مستشفى ابن الخطيب حيث تخطّت أقسام مرضى "كوفيد-19" قدرتها الاستيعابية أساساً. أما ذلك الجناح بالتحديد- وحدة الرعاية التنفسية- فكان فيه 30 مريضاً حالتهم صعبة ولكنهم بكامل وعيهم، إضافة إلى العشرات من أقربائهم الذين استقرّ معظمهم تقريباً داخل المستشفى للعناية بأحبائهم.
حين انفجرت الأسطوانة، عجز معظم الزوار عن فصل المرضى عن أجهزة التنفس الاصطناعي التي تبقيهم على قيد الحياة في الوقت المناسب، أو عن التخلي عن أحبائهم.
ويقول الدكتور الرباعي البالغ من العمر 27 سنة، الذي كان الطبيب المناوب عندها، فيما يتذكّر اللحظة المرعبة التي اضطر فيها إلى التخلي عن بعض الأشخاص لكي يقود غيرهم إلى برّ الأمان "رفض معظم الأقرباء المغادرة، فيما لم يكن ممكناً نقل بعض المرضى لأنهم لن يعيشوا سوى دقائق معدودة من دون الأكسجين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف "بدأت أسطوانات الأكسجين تنفجر الواحدة تلو الأخرى. شبّت النيران في كل شيء بغضون دقائق فقط".
"كان الجميع يصرخ وكل شيء يحترق. ظللت أفكر في أنه لا يمكنني فعل شيء. لا يمكنني فعل شيء".
قُتل 82 شخصاً على الأقل، فيما جُرح 110 آخرون في الحريق الضخم الذي اجتاح المستشفى الحكومي. ويعتقد المسؤولون أن ما تسبب به هو تخزين أسطوانات الأكسجين بشكل غير مناسب وغير آمن وقد ترتفع حصيلة الوفيات، فيما تستمر العائلات بالبحث عن أقارب مفقودين.
ألقى رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي بالمسؤولية عن الحادثة على الإهمال المستشري في صفوف مسؤولي قطاع الصحة وأمر بفتح تحقيق فيه. كما أعلن الحداد لثلاثة أيام. وعقد مجلس الوزراء جلسة خاصة يوم الأحد لمناقشة الحريق، قامت الحكومة على إثرها بإيقاف مسؤولين بارزين عن العمل، بمن فيهم وزير الصحة حسن التميمي ومحافظ بغداد. كما أقيل مسؤولون آخرون، ومنهم مدير المستشفى.
كان من بين الضحايا 28 مريضاً على الأقل موصولين بأجهزة التنفس الاصطناعي، وفقاً لعلي البياتي، المتحدث باسم لجنة حقوق الإنسان العراقية المستقلة وشبه الرسمية.
كشفت صور الضحايا داخل المشرحة عن جثث مغطاة ومشوّهة ومحترقة إلى حد يجعل التعرف إليها مستحيلاً. كما ظهرت في الفيديوهات صور غرف المستشفى الفارغة والسوداء.
وقع الحريق فيما بدأ العراق بمواجهة موجة ثانية من الجائحة. سجّلت الحالات أعداداً قياسية تبلغ نحو 8 آلاف إصابة جديدة يومياً بالمعدّل، وهي أعلى نسبة منذ بداية الجائحة. وتوفي 15200 شخص على الأقل بسبب فيروس كورونا من بين 100 ألف إصابة مؤكدة.
حوالى الساعة العاشرة من مساء ليلة السبت، اجتاحت النيران، التي وصفها أحد الشهود بأنها "براكين نار"، القسم المخصص لرعاية مرضى "كوفيد-19" الذين يعانون من أعراض شديدة. وقال المسؤولون إن الحريق تسبب كذلك بإصابة 110 شخصاً ويرجّح أن يكون اندلع بسبب انفجار أسطوانة أكسجين. أخبرت مصادر المستشفى "اندبندنت" أنه لم يوضع أي جهاز إنذار في القسم ولم يُجهز بأي نظام إطفاء مركزي مثل المرشّات للمساعدة في إطفاء النيران.
ويوضح الدكتور الرباعي الذي بات شبه عاجز عن النوم، ومهجوساً بذكرياته عن صراخ المرضى واحتراقهم،أن الطاقم الطبي لطالما خشي من احتمال اندلاع حريق بسبب الظروف السيئة.
وقال لـ"اندبندنت"، "تعمّ الفوضى أقسام المستشفى. فهي مزدحمة بالأقارب، وغالباً ما يقوم الزوار باستخدام أسطوانات الأكسجين مع أنهم لم يتدربوا على طريقة استعمالها. وروى بعض أقرباء المرضى حتى إن بعض الأشخاص أحضروا معهم مواقد محمولة لتسخين الطعام. وأسطوانات الأكسجين أشبه بالقنابل الموقوتة. هناك العشرات منها في القسم. كنّا نتوقع حدوث كارثة".
وصرّح طبيب آخر لم يكن مناوباً تلك الليلة، لكنه سارع للمساعدة في إخراج الناس إلى أماكن آمنة أن المستشفى، مثل كثير من المستشفيات الحكومية، كانت تنقصه الإجراءات الوقائية وتدابير السلامة بشكل كبير جداً.
وتحدّث بشرط عدم الكشف عن اسمه خوفاً من عقاب السلطات.
وأضاف "لا يوجد أي نظام. بعض الأقرباء كانوا يدخنون وبعضهم الآخر يشوي الطعام بما أنهم شبه مستقرين في المكان".
"لم يخصّص أي مخرج للطوارئ، فكان الناس يقفزون من الطابق الأول".
أشار الطبيبان إلى أن المستشفى بلغ بالفعل طاقته الاستيعابية القصوى وأعربا عن قلقهما من تأثير الحادثة الكبيرةفي استجابة العراق للجائحة بسبب تدمير وحدة الرعاية التنفسية وقد يخشى المرضى الجدد من المجيء إلى المستشفى بعد الانفجار.
وأضاف الطبيب "وفي هذه الأثناء، لدينا في بعض الأقسام (الأخرى) 10 مرضى أكثر من القدرة الاستيعابية القصوى لهذه الأقسام".
قال الدكتور البياتي، من لجنة حقوق الإنسان، لـ"اندبندنت" إن وزارتي الداخلية والصحة تتحملان مسؤولية الحادث لأن كليهما لم تحضّرا المستشفى لحادثة كهذه ولم تستجيبا بسرعة للحريق.
ولفت إلى أن "هذه نتيجة الإهمال وغياب الاهتمام"، مضيفاً أن فرق الدفاع المدني العراقية استغرقت ساعة لكي تصل إلى مكان الحادثة "مما ضاعف من الخسائر في الأرواح".
"قد يقع حادث مماثل في أي مكان من العراق. يجب أن يكون نظام الإنذار المبكر والاستجابة الفورية موجودين من أجل التخفيف من الخسائر والأضرار".
وتابع أن الحكومة شكّلت لجنة بعد اندلاع آخر حريق كبير في مستشفىعام 2016 لكن توصيات ذلك التقرير، مثل نظام المرشات المناسب، لم تُطبّق كما يبدو بوضوح. في تلك الحادثة التي وقعت داخل قسم ولادة في مستشفى اليرموك، قُتل 13 طفلاً خديجاً في الحريق الذي يُرجح أن سببه تماس كهربائي.
وأشار إلى أن "المستشفيات ما زالت تعتمد على الأساليب اليدوية التقليدية في مكافحة النيران، وليست مزوّدة بسلالم خارجية كافية لمساعدة المرضى في الخروج ولا بأنظمة إنذار مبكر. وليس فيها عدد كافٍ من الموظفين المدرّبين للتعامل مع حوادث كهذه".
أعربت مبعوثة الأمم المتحدة الخاصة للعراق، جانين هينيس بلاسخارت عن "صدمتها وألمها" بسبب الحريق ودعت إلى تشديد إجراءات الحماية في المستشفيات.
في الفاتيكان، ذكر البابا فرنسيس الذي اختتم زيارة تاريخية إلى العراق الشهر الماضي، الضحايا الذين قضوا في خطبته أمام حشد تجمّع في ساحة القديس بولس لمشاهدته يوم الأحد كالمعتاد.
وبالعودة إلى مستشفى ابن الخطيب، يقول أفراد الطاقم الطبي إنهم ما زالوا يخشون من عدم حصول أي تغيير على الرغم من حصيلة الوفيات المرتفعة.
وقال الطبيب الذي طلب عدم الكشف عن اسمه "خُزّنت عشرات أسطوانات الأكسجين بشكل عشوائي في الشمس خارج المستشفى هذا الصباح، وقد ينفجر المزيد منها".
"نحتاج إلى تغيير. بلغنا أقصى حدود طاقتنا. بتنا نعالج الأشخاص في الممرات. نحن نعيش كارثة".
© The Independent