علي الرغم من أن مشروع سد النهضة تنتمي فكرته إلى مكتب استصلاح الأراضي الأميركي، الذي خطط له عام 1963 لتطويق عبد الناصر، إلا أن الذهنية المصرية تركز على وجود علاقة أساسية لإسرائيل بهذا المشروع لا تقتصر على الإسناد والتمويل، لكنها تقفز إلى أن السبب الرئيس لبناء هذا السد قد يكون هو إمكانية حصول إسرائيل علي مياه النيل، فما حقيقة هذا التقدير؟ وهل النيل ومياهه يحتلان بالفعل هذه المكانة المتقدمة في الفكر الإسرائيلي؟
إن الباحث في التفاعلات الإسرائيلية قبل قيام الدولة عام 1948، يكتشف أن مسألة المياه تحتل مكانة محورية في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي، ليس فقط بسبب وقوع الأراضي الفلسطينية التي تحتلها تل أبيب في إقليم صحراوي وشبه جاف في الجنوب، وصحراوي وشبه ممطر في الشمال، لكن أيضاً لطبيعة المشروع الإسرائيلي التاريخي القائم على ركيزتين أساسيتين هما الهجرة والاستيطان.
فالهجرة تحتاج إلى المزيد من الأرض، والسكان والأرض يحتاجان إلى مزيد من المياه، وربما طبيعة هذه الجدلية خلقت مرتكزات للعمل الزراعي الاستيطاني، بحيث يجري الربط بين المهاجرين اليهود والأرض ربطاً يشمل الجوانب العقائدية والنفسية والمادية، وذلك إلى الحد الذي يفسر معه البعض مقولة "حدودك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات" تفسيراً مائياً.
ويمكن القول إن المسألة المائية كانت محل اهتمام أساسي، إذ تم التركيز على تسخير جميع طاقات فلسطين التاريخية لتلبية الحاجة لاستقدام المستوطنين، من هنا تم إنجاز تقرير بريطاني عام 1875على خلفية الطموحات في فلسطين، حيث انحصرت مهمات اللجنة المنوط بها كتابة هذا التقرير في بيان مدى القدرة على استجلاب المياه من شمال فلسطين إلى جنوبها. كما حضر هذا التقرير أيضاً في إطار ترسيم الحدود السورية اللبنانية الفلسطينية عام 1897 بمؤتمر بال في سويسرا، وكان الهاجس المائي حاضراً أيضاً لدى تيودور هرتزل الذي اعتبر أن "مستقبل فلسطين واعد بشرط معالجة مشكلة الري على نطاق واسع".
وانطلاقاً من هذه الرؤية، كانت هناك محاولات منذ عام 1916 لتكون حدود الدولة المطلوبة من جانب اليهود في فلسطين تضم منابع نهر الأردن كافة، وأن ترسم حدود فلسطين الشمالية على طول خط نهر الليطاني. ووثّق كتاب محمد سليمان طايع الصراع الدولي علي المياه في بيئة النيل المشاريع الإسرائيلية لترسيم حدود فلسطين طبقاً لطموحاتها المائية.
ومن الثابت أن هذه الطموحات اصطدمت برفض فرنسي في إطار التفاهمات الاستعمارية لتقسيم الدولة العثمانية. ولم يمنع الموقف الفرنسي من تواصل الإلحاح الإسرائيلي للحصول على موارد المياه العربية، إذ طرح مشروع "وتينبرغ" عام 1920 لتوليد الطاقة الكهربائية من نهر اليرموك، كما طُرح مشروع "هايس لوذر ميلك" عام 1938، ويقوم على شق قناة بين حيفا والبحر الميت للحصول على مياه الليطانى، ومن ثم مشروع "هيس" 1948 و"كلاب" 1949 ومشروع "السبع سنوات" 1953.
وهناك تقديرات إسرائيلية تذهب إلى أن أحد أسباب حرب 1967 هو المياه، إذ قال ليفي أشكول رداً على قرار الجامعة العربية 1964 بتحويل مياه الجولان ولبنان لترفد نهر اليرموك إن "هذا التحويل مبرر للحرب". وأضاف آرييل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أن حرب الأيام الستة بدأت حين قررت إسرائيل العمل ضد تحويل نهر الأردن، فيما أوضحت غولدا مائير في أعقاب حرب 1967 أن "التحالف مع تركيا وإثيوبيا يعني أن أكبر نهرين في المنطقة النيل والفرات سيكونان في قبضتنا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومما يؤكد جدية المواقف الإسرائيلية بشأن المياه، ما صرّح به إسحاق شامير في مارس (آذار) 1991 بأنه على استعداد لتوقيع معاهدة حظر أسلحة الدمار الشامل وقبول التفتيش على المنشآت النووية الإسرائيلية مقابل اشتراك إسرائيل في اتفاقيات لإعادة توزيع المياه في المنطقة، ورصدت مجلة "أكتوبر" المصرية هذه التصريحات في حينه.
وفي سياق هذه الأهمية المركزية للمياه، كان الملف المائي حاضراً في كل ترتيبات السلام بين العرب وإسرائيل، فأُعلن في إطار مفاوضات مدريد أن إسرائيل تطالب بالمياه والأمن في مقابل الانسحاب من الأراضي العربية، كما أن اتفاقاً للسلام بين سوريا وإسرائيل عام 1996 واجه معضلتي المياه والترتيبات الأمنية.
المشاريع الإسرائيلية للحصول على مياه نهر النيل
يرتبط المشروع الإسرائيلي بكل من نهري النيل والفرات، فتقول التوراة "فقطع مع إبراهيم ميثاقاً بأن يعطي لنسله هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"، وربما هذا المعطى الديني هو ما يفسر وجود مشاريع إسرائيلية مرتبطة بنهر النيل، ومتزامنة مع مشروع هرتزل نفسه في مطلع القرن العشرين، والقائم على نقل مياه النيل من سحارات تحت قناة السويس إلى سيناء ومنها إلى إسرائيل. وبناء على ذلك، تقدّم هرتزل للحكومة المصرية بمشروع للحصول على امتياز الاستيطان في شبه جزيرة سيناء لمدة 99 عاماً، مطالباً في سياق هذا المشروع بجزء من مياه النيل الزائدة في فصل الشتاء التي تذهب إلى البحر المتوسط، إلا أن هذا المشروع واجه رفضاً مصرياً بريطانياً مؤسساً على أن المشروع البريطاني يربط مسارات واتجاهات الزراعة المصرية بمتطلبات الصناعة البريطانية في لانكشاير، وهي المتطلبات التي جعلت من زراعة القطن أولوية في كل من مصر والسودان من جهة، إضافة إلى ما قد تسببه السحارات تحت قناة السويس من ملوحة للأراضي في سيناء، تؤدي إلى انهيار أية مشاريع زراعية فيها طبقاً لوثائق ودراسات متخصصة عن العلاقات المصرية السودانية.
وجاءت الخطوة الثانية للمشاريع الإسرائيلية المرتبطة بالمياه عام 1974، إذ طرحت أهم المشاريع الإسرائيلية المتطلعة إلى الحصول على مياه من نهر النيل، وهو مشروع "إليشع كالي" مهندس المياه الإسرائيلي الذي اهتمت بترجمة نص المشروع مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1991، فصدّر أليشع كالي مشروعه بالقول إن "معطيات منطقتنا البيئية والسياسية تفرض أن يكون لكل اتفاق سلام بند مياه".
وتدور فكرة مشروع كالي الأساسية حول أن الحصول على قدر يوصف إسرائيلياً بأنه صغير من المياه لإسرائيل من النيل (0.8 متر مكعب) عن طريق مصر لن يؤثر في الميزان المائي المصري. أما الأساس الفني للمشروع، فيعتمد على توسيع ترعة السلام في مدينة الإسماعيلية، لتنقل ما بين 100 إلى 500 مليون متر مكعب من المياه، وتنقل هذه المياه بسحارات تحت قناة السويس وصولاً إلى إسرائيل، على أن تتحول المياه في هذه الحالة إلى سلعة تشتريها إسرائيل.
ويبدو أن هذا المشروع مركزي لإسرائيل، فهو يطرح دورياً وفي كل مناسبة على مصر اعتباراً من عام 1974، وطُرح عامي 1986 و1989، كما طُرح في إطار مفاوضات مدريد عام 1991. وتبلور موقف مصري رافض لهذا المشروع مستند إلى اعتبارات فنية واستراتيجية، إذ يرتكز الجانب الفني على إمكانية رفع ملوحة الأرض الزراعية في سيناء، وكذلك تدشين مبدأ تسعير وبيع المياه وهو مبدأ يكون باهظ التكاليف لمصر المحرومة من أية مصادر للمياه عدا نهر النيل، بخاصة إذا فكرت في استخدامه دول منابع حوض النيل، كما أن وصول مياه النيل إلى إسرائيل فضلاً عن أنه مخالف لقواعد القانون الدولي المتعلقة بأحواض الأنهار المشتركة، فهو يضيف إلى دول الحوض دولة جديدة في سابقة هي الأولى من نوعها.
أما الجوانب الإستراتيجية، فتتمثل في أن حصول إسرائيل على هذا القدر من المياه يكون بمثابة ولادة جديدة لها، لأنه يعطيها 20 ضعف المساحة المزروعة حالياً ويمكّنها من زيادة المساحات المزروعة في صحراء النقب بما يساوي 500 ألف فدان، إضافة إلى أنه يدعم القدرات الإسرائيلية في استجلاب المزيد من المستوطنين.
وبالتأكيد فإن كلاً من الجانبين الفني والاستراتيجي يشكّل خسائر هائلة لمصر على مستوى أمنها القومي، كما يشكّل ارتفاعاً لمستوى التهديدات للأمن القومي العربي على المستوى الإجمالي طبقاً لتقديرات مفيد شهاب في كتابه نهر النيل بين الماضي والحاضر والمستقبل.
وطبقاً للمعطيات السالفة الذكر، يكون نهر النيل هو أحد ركائز السياسات الإسرائيلية، وتكون مصر هي البوابة المتاحة الوحيدة للحصول على جزء من مياه النهر. ويأخذ السودان موقعه المهم في هذه الركائز باعتبار أنه دولة مصب لنهر النيل أو أن يكون أحد أوراق الضغط في يد إسرائيل، إذا ما استطاعت أن تكون لاعباً مؤثراً في مجريات التفاعلات السودانية الداخلية.
إجمالاً تبدو إسرائيل ومخططاتها بشأن سد النيل غير بعيدة من تفاعلات سد النهضة، وتحوّله خلال عشر سنوات من المفاوضات من منشآت هندسية معنية بتوليد الكهرباء إلي منشآت متحكمة في التدفقات المائية المرتبطة بحياة ما يزيد على 150 مليون نسمة في دولتي المصب مصر والسودان.