عندما نذكر الشموع تحضر في مخيلة كل شخص صورة مختلفة. فالشمعة هي التي لطالما أضاءت ليل الأجداد، وأسندت أجيالاً عاشوا الحروب فكانت بصيص النور في ظلامهم الدامس والمرعب، وحملت أمنيات أصحاب أعياد الميلاد وهم يتمتمونها وينفخونها دفعة واحدة ليحظوا بأمانيهم، وما زالت تحتفظ بالنذور والنوايا والصلوات الصامتة في المعابد، وهي التي تهب التعب بُعداً هادئاً مسالماً، وتعزز الرومانسية والاسترخاء، وتزين البيوت بشكل فني وكذلك المتاحف التي تقلد أشكال المشاهير والشخصيات المتعددة.
في البدء كان الضوء
يُظن أن أول استخدام للشمع كان كمصدر للضوء في الحضارات القديمة. فلقد استخدم قدامى المصريين لب القصب والدهون الحيوانية وصنعوا منه المشاعل. وينسب إلى الرومان تطوير الشمعة بغمس ورق الأشجار بالشحم وشمع العسل، واستخدامها في الإضاءة والاحتفالات. أما الصينيون فشكلوها من الأنابيب الورقية الملفوفة حول الفتيل مع استخدام الحشرات والبذور كوقود لها. وفي الهند صُنع الشمع من ثمار أشجار القرفة.
وكانت الشموع ذات المصدر الحيواني ذات لهب ودخان ورائحة قوية، بينما تلك المصنوعة من النبات رائحتها زكية، واستخدمت في بيوت الأثرياء كونها مكلفة وفي الاحتفالات الدينية تقرباً من الآلهة.
في القرن الثالث عشر أصبحت صناعة الشموع حرفة. وكانت الإضاءة والثريات تصنع منها. وجرت محاولات عدة لتحسين الشمع، فدرج استخدام بعض الأشجار وصمغها أو النباتات الزيتية الطابع، إلى أن أصبح استخدام شحوم الحيتان أكثر رواجاً، كونه أرخص ثمناً، ووفرة ولا رائحة له مثل شحوم الحيوانات الأخرى، ونوعيته أفضل في إبقاء الشعلة متوهجة. إلى أن اكتشف الكيميائي الفرنسي ميشال شيفرويل كيفية استخلاص المادة الفعالة من الدهون الحيوانية وطورها لتكون صلبة.
وفي أواسط القرن التاسع عشر أصبحت الشموع بمتناول كل طبقات المجتمع. إلى أن أطاحها المصباح الكهربائي، ووضعها على رف الديكور في القرن العشرين. فلم تعد الشمعة حاجة ضرورية في معظم البلدان. وبدأ الناس نسيانها، فتحوّلت إلى أداة زينة، ودخلت في صناعة الهدايا كأنها من كماليات الحياة، بعد أن كانت أداة النور الوحيدة لعصور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسط الظلام
لكن، الشموع تستعيد هيبتها في الحروب عندما تنقطع الكهرباء، ويرتفع ثمن البترول أو يتعذر وجوده، تقف الشمعة بتاريخها عكازاً في الأيام المظلمة.
تقول بتول كركوز إنها تكره الشموع، لأنها تسبب لها الخوف، وتذكّرها بالحرب وقطع الكهرباء والظلال المخيفة، كما تربطها بأحد المسلسلات اللبنانية المرعبة "عشرة عبيد زغار"، حيث يقول أحدهم في جو مرعب "بدك شمعة؟ هيدي شمعة"، قبل أن يقتل المرأة التي تبحث عن الشمعة، وكان أخوها يخيفها بهذه الجملة.
ومثلها كميل غسطين يخبر أن الشموع تسبب له الضيق حتى لو كانت تلك المعطرة ذات الألوان الزاهية، فمجرد رؤية ضوء الشمعة يتذكر الملجأ في الحرب، والخوف على وجوه الكبار، ويربطها بصوت القذائف والركض إلى أسفل المبنى للاختباء تحت بيت الدرج الذي كانوا يسمونه ملجأ. ويقول إنه عندما بدأ الحديث أخيراً عن أزمة كهرباء وقطع موتورات الإضاءة في لبنان، بدأ يحضر بطاريات تضيء المنزل وتُشحن من السيارة.
ومن الأقوال الراسخة في عقول الناس "بدل أن تلعن الظلام أضئ شمعة". وعلى رغم المعنى المجازي للقول، فإن الشمعة فعلاً متجذرة في الأذهان كفكرة إيجابية وشاعرية ورومانسية أيضاً. فهي موجودة في مراكز الاسترخاء والتدليك لتُشعر الناس بضرورة التمهل قليلاً، وتضفي أجواء من الراحة والاطمئنان لدى كثيرين.
وتقول زهراء ستيورات إن عشاءها دائماً على ضوء الشموع، لأنها تعطيها راحة وهدوءاً بعد صخب يوم العمل. كما تخطط لأن تكون ولادتها لطفلها الأول في مغطس المنزل وحولها الشموع والموسيقى، لتشعر بالراحة والسيطرة على جسمها وعلى الألم.
محمد نور الدين من جهته يخبر أنه أضاء يوم عرسه وفي عيد العشاق الذي صادف بعد أسبوع منه الشموع الحمراء، وما زال يضيئها في ذكرى زواجه وعيد العشاق وعيد ميلاد زوجته تهاني المغرمة بالشموع ذات الرائحة الشذية.
وتتحدث آلاء حيدر أيضاً عن حبها للشموع التي يشكل وجودها ديكوراً للبيت والحمام، على رغم أنها نادراً ما تشعل شمعة، لكن وجودها يريحها.
بُعد آخر للشموع
في سياق آخر تتحدث سمية توما عن سرّ في الشموع يمكن استخدامه من قبل الجميع. وكانت قد تعرضت لتشتت ذهني كبير بسبب حادث منذ نحو 10 سنوات، وكان لديها امتحانات في الجامعة بعده، ولم تستطع التركيز، فنصحتها إحدى المعالجات بالطاقة أن تضيء شمعة، وتنظر إليها بتركيز كبير وتتنفس ببطء لخمس دقائق ولا تفكر إلا في ضوئها، وكررت هذا التمرين 4 مرات في اليوم مدة أسبوع، فوجدت أن تركيزها بدأ يعود تدريجياً. وهي تمارس هذا التمرين كلما احتاجت إلى التركيز.
قد يكون هذا الإجلال للشموع آتياً من استمرار حياتها في المعابد والكنائس على رغم سباتها في الحياة اليومية، حيث تنعكس إضاءتها بشكل مهيب في نفوس المصلين والزائرين. فالشموع تضاء لنوايا معينة أو لنذور. ولطالما أضاء السيّاح الشموع في كنائس ومزارات ومقامات دينية حول العالم لجلب الحظ أو الشفاء أو التوفيق.
وتقول جومانة ماجد إنها تحب الشموع الكبيرة بمختلف ألوانها وأشكالها ورائحتها. وتحب أن تضيء الشموع لتحقيق الأمنيات مثل الشفاء من المرض. كما تحب إضاءتها في المناسبات الدينية كذكرى المولد النبوي الشريف.
شموع قالب الحلوى
على رغم دراسة أكدت أن إطفاء الشموع تترك على قالب الحلوى بكتيريا ضارة ورذاذ اللعاب المختلف بين شخص وآخر بنوع البكتيريا الذي يحتويه، وقد تنقل العدوى إذا كان الشخص مريضاً، فإن هذا التقليد لم يوقفه سوى انتشار فيروس كورونا.
ويعود تاريخ استخدام الشموع للاحتفال بعيد ميلاد الناس إلى عادة مارسها الإغريق حين كانوا يقدمون الحلوى المستديرة تماهياً مع شكل القمر مضاءة بالشموع لإلهة القمر آرتيميس، مع الاعتقاد أن دخان الشموع يرفع صلواتهم إليها. وكان رجال الدين يشعلون الشموع على اعتبار أنها طريقة فعّالة للتواصل مع الآلهة.
تعليم تصنيع الشموع منزلياً
في سياق آخر تتحدث مارسال بو حمدان لـ "اندبندنت عربية" عن هوايتها بأشغال يدوية متعددة، منها إعادة تدوير الشمع. وهي تمنح دورات لتدريب الناس على استخدام طرق سهلة في التدوير وصناعة الصابون والأشغال اليدوية.
تتحدث مارسال عن خبرة بنتها من موهبة وشغف ومتابعة فيديوهات على "يوتيوب"، فتعلمت طرقاً عدة عن الشموع والتعامل معها، وجربت الكثير حتى باتت على دراية تامة بها.
وعن الشموع تقول إنه يوجد نوع منها ما يباع في القوالب، ويضاف إليها الـ"ستريك أسيد" بعد أن تسيل فيجعلها أكثر صلابة فلا تذوب بسرعة. وأن بعضها يصنع من البترول أو من النباتات أو من شحم الحيوانات.
وتعلم مارسال كيفية تذويب الشمع فتضيف "يسيّل في وعاء من دون نار مباشرة، توضع طنجرة ماء على النار وفوقها طنجرة الشمع من دون أن يغلي، ويسكب في قوالب كرتون ويترك أربع ساعات حتى ينزع منها، ويمكن أن يوضع في أوان بلاستيكية، أو أكواب زجاجية ويضاف الفتيل، وهو خيط قطني مغمس بالشمع إليها بعد 3 دقائق حتى يثبت".
أما تلوين الشمع وتعطيره، فتشير إلى أنه يوضع بعد تسييل الشمع، وتستخدم أقلام تلوين الشمع الموجودة في المكتبات التي يستخدمها الأولاد في المدرسة، وتوضع قطعة منها، وتحرك جيداً ثم تضاف الرائحة ويسكب في قوالب.
وعن شكل الشموع تخبر أنه يمكن اختيار قوالب أشكال متعددة، مثل ألعاب الأطفال كالبطة والوردة وغيرهما، وأوعية بأشكال مبتكرة، يسكب فيها الشمع الساخن وتقص بعد أن تتصلّب المادة تماماً.
وتستخدم مارسال أحياناً فواكه أو خضاراً أو وروداً مجففة أو صدفاً أو عيدان القرفة أو أي شيء في أثناء صب الشمعة، فيدخل في صلب القطعة، أو يلف حولها كبعض العيدان. كما تفرّغ بعض الشموع، وتضع في داخلها شمعة إلكترونية للديكور.
بديل الشموع
وتصنع مارسال بديلاً عن الشموع للديكور أيضاً. وهو عبارة عن الماء والزيت، إذ يملأ الكوب ثلاثة أرباعه بالماء وربع زيت، ويوضع أي قطعة يريدها الشخص مثل أحجار البحر، وزهور بلاستيك، وأصداف ألعاب، مع القليل من السكر، لأنه يعتبر مادة حافظة، كي لا تفسد الماء.
ويمكن أن يختم بطريقتين، فإما أن يذوب القليل من الشمع ويسكب فوق الماء، فتتساقط قطرات الشمع لتصنع أشكالاً داخل الماء ويكون السطح مالساً فيبدو الشمع طافياً على وجه الماء في الكوب الشفاف، ويوضع فيه الفتيل. وإما يوضع فوق الماء والسكر والزيت طبقة بلاستيكية شفافة، مثل حافظة الأوراق، تقص على حجم فوهة الكوب وتفتح من الوسط ويدخل فيها الفتيل وتدوم حتى ينتهي الزيت. وتخبر مارسال أنها لم تجرّب النحت على الشمع، بل اكتفت بالرسم والطباعة والتزيين.