بعد مرور نحو 15 شهراً على الحادث، لا يزال الغموض يحيط بعملية اغتيال قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، ونائب رئيس الحشد الشعبي العراقي، أبو مهدي المهندس، على أيدي القوات الأميركية، لا سيما أن الغبار لم ينقشع بعد عن تفاصيل النقاشات التي سبقت التنفيذ و"خطة اصطياد" أحد أبرز "الأعداء اللدودين" للولايات المتحدة في المنطقة.
وبحسب تقرير حديث، نشره موقع "ياهو نيوز"، واستند وفق ما أوضح لشهادات أكثر من 15 مسؤولاً أميركياً حالياً وسابقاً، فقد كانت خطة اغتيال سليماني في الثالث من يناير (كانون الثاني) من العام الماضي، التي اعتبر أحد مسؤولي إدارة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب، أن "البنتاغون ساوى في تقييم تداعياتها بالحرب النووية"، "شديدة السرية والتعقيد"، وأن ثلاث فرق من مشغلي قوة "دلتا" الأميركية اطلعت على مواقع سرية ومخفية في مطار بغداد الدولي تمهيداً للقيام بتلك العملية. فما الذي حدث ليلة "الانقضاض على أحد أهم الشخصيات العسكرية في الشرق الأوسط والرجل الثاني في النظام الإيرانى بعد المرشد الأعلى للبلاد" وفق توصيف صحيفة "نيويوركر" الأميركية؟.
قبل التنفيذ
وفق تقرير "ياهو نيوز" الذي كتبه كل من جاك مورفي وذاك دورفمان، فإن عملية اغتيال سليماني تم التخطيط لها قبل حدوثها بأشهر، على الرغم من أن النقاشات التي مهدت لقتل قائد فيلق القدس، بدأت في البيت الأبيض خلال صيف 2018، بالتزامن مع إعلان إدارة الرئيس الأسبق دونالد ترمب انسحاب بلاده رسمياً من الاتفاق النووي في مايو (أيار) من العام ذاته.
ويستهل التقرير قصته التي عنونها بـ"داخل خطة إدارة ترمب السرية لقتل سليماني"، إن ليلة تنفيذ العملية في الثالث من يناير (كانون الثاني) كانت باردة وملبدة بالغيوم، وفي هذه الأثناء، كانت الفرق الثلاث من قوات "دلتا" الأميركية، متنكرة في زي عمال صيانة على جانبي الطريق وفي المركبات أو في مبان قديمة وقريبة من مطار بغداد الدولي، بالتزامن مع إبلاغ الحكومة العراقية بإغلاق الجانب الجنوبي الشرقي من المطار، لفترة زمنية قصيرة لإجراء، ما قالت عنه حينها، "تدريبات عسكرية".
وعلى بعد ما بين 600 و900 ياردة من "منطقة القتل" (ترميز طريق الوصول من المطار)، كانت فرق القناصة "دلتا" الثلاث قد تمركزت لتجهيز مثلث اصطياد هدفهم عند مغادرته المطار، كما كان لدى أحد القناصين منظار رصد مزود بكاميرا كانت تبث مباشرة إلى السفارة الأميركية في بغداد، حيث كان يتمركز قائد قوة دلتا الأرضية مع طاقم الدعم. مشيراً بحسب "ياهو"، إلى أن عضواً في مجموعة مكافحة الإرهاب (CTG) وهي وحدة كردية نخبوية في شمال العراق لها "صلات عميقة" بالعمليات الخاصة الأميركية ساعدهم في العملية، الأمر الذي نفته وحدة مكافحة الإرهاب الكردية لاحقاً، وردت على التقرير، في بيان لها قائلة، "في ما يتعلق بنا كقوات مكافحة الإرهاب، فإننا ننفي أي علم أو مشاركة لقواتنا في مثل تلك العمليات".
وفيما كانت الأجواء جاهزة لـ"انتظار وصول الهدف"، ومع منتصف ليل الثالث من يناير، يذكر التقرير، هبطت تلك الطائرة القادمة من دمشق، المقلة لسليماني، متأخرة عدة ساعات عن الموعد المحدد، ومع ذلك التوقيت حلقت ثلاث طائرات أميركية من دون طيار في سماء المنطقة أثناء تحرك الطائرة بعيداً من المدرج، باتجاه الجزء المغلق من مطار بغداد.
وبحسب المصادر التي نقل عنها التقرير، فمع وصول طائرة سليماني إلى مطار بغداد، كان أحد العناصر الكردية المتنكرين بزي طاقم أرضي وجه الطائرة إلى التوقف على المدرج، وعندما نزل الهدف من الطائرة كان أعضاء مجموعة مكافحة الإرهاب الأكراد الذين تظاهروا بأنهم حاملو أمتعة حاضرين للتعرف عليه والتأكد من هويته.
في الأثناء، يضيف التقرير، "استقل سليماني والوفد المرافق له، بعد وصوله سيارتين لمغادرة المطار، وتوجهوا نحو منطقة القتل، حيث كان قناصة مجموعة دلتا الأميركية في الانتظار، وذلك في وقت كانت ثلاث طائرات من دون طيار (أميركية) تحلق في سماء المنطقة، بينها اثنتان مسلحتان بصواريخ هيلفاير". موضحاً، "كانت فرق قناصة دلتا فورس الثلاث جاهزة، ممسكة بنادقها الطويلة ومستقرة أصابعهم برفق على أسلحتهم وفوقهم حلقت الطائرات المسيرة في السماء، اثنتان منهما مسلحتان بصواريخ هيلفاير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفيما كانت الأجواء تسير باتجاه "اصطياد الهدف"، ذكر التقرير، أن نقطه مهمة قبل وصول سليماني إلى بغداد قادماً من دمشق، كادت تصعب من فك شفرات العملية، موضحاً أنه "في الساعات الست التي سبقت صعود سليماني إلى الطائرة من دمشق، قام الجنرال الإيراني بتبديل الهواتف المحمولة ثلاث مرات، وفقاً لمسؤول عسكري أميركي في تل أبيب، حيث عمل مسؤولو الارتباط في قيادة العمليات الخاصة الأميركية المشتركة مع نظرائهم الإسرائيليين للمساعدة في تتبع أنماط الهواتف المحمولة لسليماني، ومررها الإسرائيليون الذين تمكنوا من الوصول إلى أرقام سليماني إلى الأميركيين الذين تتبعوا سليماني وهاتفه إلى بغداد".
وتابع التقرير، إن مسؤولاً عسكرياً قال، إن أعضاء من وحدة الجيش الأميركية السرية "تاسك فورس أورانج" كانوا أيضاً على الأرض في بغداد في تلك الليلة، حيث قدم عناصر الاستخبارات إشارات للمساعدة في العودة إلى إلكترونيات سليماني لتنفيذ الجزء التكتيكي من العملية.
لحظة اصطياد الهدف
مع وصول سليماني والوفد المرافق له إلى مطار بغداد الدولي، وتحرك سياراتهما إلى ما سمي في الخطة "منطقة القتل" بدت الأجزاء الأولى من مرحلة التنفيذ تسير كما ينبغي، حتى جاءت لحظة "الاستهداف".
وبحسب ما ذكر التقرير، فعندما وصلت المركبتان اللتان تقل سليماني ورفاقه إلى المنطقة المحددة خارج مطار بغداد، أطلقت إحدى الطائرات المسيرة صاروخين من طراز هيلفاير على سيارة سليماني حطماها كلياً، فيما حاول سائق السيارة الثانية الفرار، وعلى الرغم من ضغطه على مكابح الوقود وقطع نحو 100 متر هرباً من الموقع، كانت قوات دلتا قد فتحت النار عليه بالتزامن مع انطلاق صاروخ آخر من طراز هيلفاير من طائرة مسيرة أخرى على السيارة ذاتها، الذي فتت في الحال السيارة لأجزاء.
وتابع التقرير، "اقترب أحد المشاركين في العملية من موقع الحادث بعد مقتل سليماني، والتقط صوراً، كما أخذ عينة من الحمض النووي، للتأكد لاحقاً من مقتله"، وذكر أنه بعد أكثر من عام على مقتل سليماني، الذي كان يعد على نطاق واسع في المرتبة الثانية بعد المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي في التسلسل الهرمي للحكومة الإيرانية، لا تزال عواقب تلك الضربة تتكشف، ومع ذلك فإن كثيراً من التفاصيل وراء الأحداث التي أدت إلى مقتله تكتنفها السرية.
وذكر التقرير، أنه يستند في معلوماته إلى مقابلات مع 15 من المسؤولين الأميركيين الحاليين والسابقين، لكشف عملية "اغتيال سليماني" ومداولات إدارة ترمب طويلة الأمد حول قتله وغيره من كبار المسؤولين والوكلاء الإيرانيين.
أي تداعيات شابت مراحل الإعداد؟
وفق ما جاء في تقرير "ياهو نيوز"، الذي أشار في فحواه إلى عدم الحصول على ردود رسمية، سواء من الجانب الأميركي (البنتاغون ووزير الخارجية الأميركي آنذاك مايك بومبيو)، ولا الجانب الإسرائيلي، فقد شهدت النقاشات التمهيدية طوال الأشهر السابقة لعملية "اصطياد سليماني"، التي بدأت في البيت الأبيض خلال صيف 2018، تباينات في آراء كبار المسؤولين الأميركيين آنذاك بين من حذر من تداعيات الخطوة على المنطقة التي تشبه في خطورتها "حرباً نووية"، وبين من أيد إتمامها لخطورة بقاء سليماني ذاته حياً، وفي ذلك التوقيت كان مخططو مجلس الأمن القومي يتطلعون إلى وحدات العمليات الخاصة التابعة للبنتاغون لتنفيذ العملية، مستبعدين الاعتماد على القوات شبه العسكرية التابعة لوكالة المخابرات المركزية أو وكلائها.
وفي الإجمال، ذكر التقرير أن مقتل سليماني، كان أحد أهم قرارات السياسة الخارجية لإدارة ترمب، مستشهداً بالتسجيل المسرب الذي ظهر قبل أسابيع لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، معتبراً أن مقتل قائد فيلق القدس "أكثر ضرراً لإيران مما لو دمرت الولايات المتحدة مدينة إيرانية بأكملها".
وبينما اعتبر مسؤول كبير سابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية، وكان مؤيداً لعملية القتل، أن مقتل سليماني كان "بمثابة إعادة تشكيل دراماتيكية للشرق الأوسط، كما رأينا منذ 50 عاماً (يقصد سقوط الشاه)، وقد حدث ذلك في غضون ساعات. لقد تغيرت قواعد اللعبة".
ونقل التقرير عن فيكتوريا كوتس، التي كانت تشغل منصب نائبة مستشار الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط، قولها، إن "وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) كانت تساوي بين قتل سليماني والحرب النووية، معتبرة أن هذا الفعل سيترتب عليه هناك رد فعل عنيف"، مشيرة إلى المقاومة التي أبداها قادة عسكريون للخطوة.
وذكرت كوتس كذلك، أنه بحلول منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2019، بدأت الأمور تتخذ "منعطفاً أكثر خطورة"، وذلك وفق نائبة مستشار الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط حينها، "مع احتدام التوترات في جميع أنحاء المنطقة، تلقى مسؤولو مجلس الأمن القومي مكالمة من البيت الأبيض تطالبهم بالتأكد من أن الخيارات مناسبة لقتل سليماني في ذلك الوقت تقريباً. وعندها قمنا بتتبع سليماني عن كثب".
وتروي كوتس، في ذلك التوقيت اجتمعت مجموعة صغيرة تضمنت كوتس، ومستشار الأمن القومي روبرت أوبراين، ونائب مستشار الأمن القومي مات بوتينغر، وروبرت غرينواي كبير مساعدي مستشار مجلس الأمن القومي لشؤون أفريقيا والشرق الأوسط، وبرايان هوك المبعوث الأميركي الخاص لإيران، وكيث كيلوغ مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس بنس، وكريس ميلر كبير مسؤولي مكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القوم، وناقشوا الخيارات المحتملة لقتل الجنرال الإيراني".
وذكر التقرير كذلك، نقلاً عن مسؤولين كبار سابقين في الإدارة الأميركية، أن هذه الخيارات أُرسلت إلى مكتب الرئيس الأميركي بعد هجوم صاروخي شنه وكلاء إيرانيون، أسفر عن مقتل متعاقد أميركي في شمال العراق أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2019، الأمر الذي كان يرى فيه ترمب "تجاوزاً لخطه الأحمر، الذي ساعد لاحقاً في ترسيخ قرار قتل سليماني"، وفقاً للمسؤولين السابقين.
ويستطرد كاتبا التقرير قائلان، "أعطى المسؤولون في قيادة العمليات الخاصة المشتركة لمسؤولي مجلس الأمن القومي أربعة خيارات لقتل سليماني، تضمنت استخدام رصاصة قناص بعيدة المدى، أو توظيف فريق تكتيكي على الأرض لمهاجمة سيارته، أو تدبير انفجار باستخدام سيارة مفخخة، أو شن غارة جوية"، وحينها استقر المسؤولون بسرعة على خيار الضربات الجوية، وكانت المعضلة الوحيدة في تنفيذ القرار هي "مكان التنفيذ" الذي استغرق وقتاً أطول للنقاش بين المسؤولين الأميركين من اتخاذ القرار نفسه.
ووفق التقرير كان بعض مسؤولي وكالة المخابرات المركزية قلقين من الرد الإيراني، إذ يتذكر مسؤول سابق في الوكالة، أن "سي أي إيه" لم تكن "خائفة من الإيرانيين"، لكنها اعتقدت أن القتل "يمكن أن يخلق مشاكل أكثر مما يحلها"، منها محاولة فيلق القدس تنفيذ اغتيالات واسعة في المنطقة، أو شن هجمات على البنية التحتية أو حتى إثارة الانقلابات.
وكان سلمياني العقل المدبر لأنشطة إيران في الشرق الأوسط، كما كان يوصف بأنه أقوى شخصية في النظام الإيراني بعد المرشد الأعلى، بصفته قائد جيشه في الخارج، المعروف باسم "فيلق القدس"، كذلك اعتُبر مهندس حرب نظام بشار الأسد ضد معارضيه. والمسؤول عن صعود القوات شبه العسكرية الموالية لإيران في العراق، وسوريا ومناطق أخرى في المنطقة.