لن يكون الصاروخ الصيني الذي حير وأربك العالم قبل أن يسقط في المحيط الهندي الأسبوع الماضي هو الأخير من نوعه، فمن المتوقع أن يتكرر سيناريو سقوط حطام القمامة الكونية كثيراً بسبب ازدحام الفضاء بالأقمار الصناعية وبقايا الصواريخ التي يتوقع أن يتجاوز عددها 100 ألف قمر صناعي بحلول عام 2030 مع تزايد عدد الشركات الخاصة الفضائية وتنامي حجم استثماراتها بشكل مذهل. وما يزيد من المخاطر أن أجهزة رصد واستشعار الفضاء لا تستطيع أن تواكب الطفرة الهائلة في نشر الأقمار الصناعية التي صغر حجمها وتراجع سعرها، ما جعل الفضاء أشبه بالغرب المتوحش حيث لا قانون يحكمه، فهل من سبيل لمعالجة فوضى الفضاء؟
المقبل أسوأ
في وقت حبس العالم أنفاسه ترقباً لسقوط بقايا وشظايا الصاروخ الفضائي الصيني على سطح الأرض، قبل أن ينتهي القلق بسقوطه في المحيط الهندي قرب جزر المالديف، كانت كل الدلائل تشير إلى أن المقبل أسوأ، فقد أصبح الفضاء مجالاً خصباً للدول والشركات الخاصة على حد سواء التي تنفق كل عام مليارات الدولارات لإطلاق المزيد من الصواريخ والأقمار الصناعية والمحطات الفضائية لأغراض مختلفة، حتى أصبح الفضاء مزدحماً بعشرات الآلاف من القطع الفضائية التي لا بد أن يتساقط بعضها على الأرض بين حين وآخر.
وتشير نظرة متفحصة إلى حجم الاستثمارات الفضائية الأخيرة إلى ما سيحدث من زحام فضائي أضخم مستقبلاً، ففي الفترة بين الربع الأول من عام 2020 والربع الأول من هذا العام، ضخ المستثمرون 8.7 مليار دولار في شركات الفضاء الخاصة وهو معدل يزيد بنسبة 95 في المئة عن العام السابق على الرغم من تفشي جائحة كورونا وما رافقها من أزمة اقتصادية عالمية.
استثمارات خاصة
كما تستعد شركة تجارية فضائية في كاليفورنيا متخصصة في الخدمات المكوكية التي تساعد في نقل الأقمار الصناعية بين المدارات الفضائية، في طرح أسهمها للاكتتاب العام بقيمة مليار دولار خلال الفترة المقبلة على الرغم من أنها لم تبدأ تقديم خدماتها بعد، في وقت عقد المستثمرون الأميركيون 68 صفقة أخرى للاستثمار في مشاريع فضائية تبلغ قيمة كل منها نحو 50 مليون دولار أميركي على الأقل، وبعضها يتجاوز 100 مليون دولار مثل مشروع شركة "أكسيوم سبيس" التي تريد بناء محطات فضائية خاصة، وشركة "أيه بي أل سبيس سيستمز"، وهي إحدى الشركات المتخصصة في تشييد وتشغيل الصواريخ الصغيرة في الفضاء.
نجوم الفضاء
وهناك سبب آخر لحالة انجذاب كثير من رجال المال والأعمال للاستثمارات الفضائية وهو تسابق نجوم الفضاء الذين أصبح لهم أتباع ومريدون مثل إيلون ماسك مؤسس شركة "سبيس أكس"، وجيف بيزوس مؤسس شركة "بلو أوريجين" على تحقيق اختراقات جديدة في هذا العالم الفضائي الجديد.
وإضافة إلى انضمام شركة "سبيس أكس" إلى وكالات الفضاء الحكومية الرائدة في بناء الصواريخ ونقل الأشخاص إلى الفضاء، أطلقت الشركة 1500 من أقمارها الصناعية من فئة "ستارلنك" ذات النطاق العريض ما زاد من عدد الأقمار الصناعية في الفضاء.
والحكومات أيضاً
ومن الواضح أن حكومات البلدان المختلفة تضع أعينها على مشاريع الفضاء المستقبلية، فقد ضخت حكومة المملكة المتحدة 500 مليون دولار في شركة "وان ويب" ومقرها لندن، لخدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعية لإنقاذها من الإفلاس، بينما اشترت الحكومة الألمانية، ولأول مرة خدمات إطلاق صواريخ صغيرة من شركة "إيسار إيروسبيس تكنولوجي" وهي شركة ناشئة في ميونخ.
غيض من فيض
ولا يمثل هذا الاستثمار الحكومي والخاص في مشاريع الفضاء المستقبلية سوى غيض من فيض، إذ تعمل شركات التكنولوجيا في "وادي السيليكون" في كاليفورنيا ومعاقل الفضاء الجديدة مثل مدينة ميونخ الألمانية على بناء قاذفات صواريخ وأقمار صناعية ومركبات لنقل الأقمار الصناعية وأجهزة استشعار وأنظمة اتصالات ومحركات الدفع ومركبات فضائية لخدمة الأقمار الصناعية، بينما يعرض البعض الآخر التصنيع في الفضاء، ويخططون لصنع كل شيء بدءاً من الصواريخ إلى الأنسجة البشرية، بل ويحاولون حتى بناء أدوات للبحث عن المعادن في الفضاء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا تحول الفضاء الذي كان في الماضي القريب حكراً على الحكومات والمنظمات الحكومية الدولية بسبب الاستثمار الرأسمالي الضخم اللازم للعمل في الفضاء، إلى مجال واسع ومفتوح للجميع بسبب التطور التكنولوجي الذي جعل الأقمار الصناعية أصغر حجماً بكثير عما كانت عليه في الماضي، ما جعلها أرخص في الإطلاق، وأصبح من الممكن تجميع هذه الأقمار الصناعية معاً على صاروخ واحد، وبالتالي تقل التكاليف بشكل أكبر.
مخاطر الاصطدام
وعلى الرغم من اتساع الفضاء، فإن هذه المساحة باتت تزداد ازدحاماً وهذا من شأنه أن يزيد من مخاطر الاصطدامات، بما في ذلك المركبات الفضائية السريعة التي يمكن أن تسبب ضرراً هائلاً للأقمار الصناعية التي يعتمد عليها كل فرد من البشر الآن في الملاحة الأرضية وفي الاتصالات وفي كثير من الشؤون الأخرى الحيوية في الحياة اليومية، فإذا وقع هذا الاصطدام، فمن المرجح أن يتسبب في كارثة بيئية تملأ الفضاء بالحطام وتحرم الأجيال المقبلة من الاستفادة منها، وبالتالي تواجه البشرية الآن خطراً مزدوجاً يتمثل في فضاء مكتظ قد يعجز عن أداء وظيفته، وكون مزدحم ستتساقط بقاياه مثل قطع الخردة، على غرار القمر الصناعي الصيني.
وبينما تتوافر أجهزة استشعار الفضاء، فإنها لا تستطيع مواكبة الطفرة الهائلة في عدد الأقمار الصناعية التي نمت بشكل سريع في الآونة الأخيرة ما جعل الفضاء أشبه بالغرب المتوحش الذي شهدته مناطق الغرب الأميركي خلال استكشاف الأراضي الجديدة بينما لم تكن القوانين قد أرسيت بعد لتنظيم شؤون الحياة.
تاريخ من الحطام الفضائي
ولا يشكل الصاروخ الصيني الذي سقط الأسبوع الماضي في المحيط الهادي سوى دليل آخر على الأخطار التي تحيق بالأرض يضاف إلى دلائل أخرى بارزة، ففي مايو (أيار)، 2020، أطلقت الصين صاروخاً من نوع "لونغ مارش 5 بي"، وضع نموذجاً أولياً لمركبة في مدار فضائي، لكنها في النهاية سقطت فوق المحيط الأطلسي، كما سقطت قضبان معدنية بطول 33 قدماً (10 أمتار) فوق ساحل العاج، وتسببت في إلحاق بعض الأضرار بأحد المباني من دون أن يصاب أحد بأذى.
وفي عام 2018، عادت أول محطة فضائية صينية (تيانغونغ-1) إلى الأرض وتحطمت فوق المحيط الهادي، بعد ما فقدت بكين السيطرة على المحطة الفضائية التي يبلغ وزنها 8.5 طن، ولم تعد قادرة على زيادة ارتفاعها حتى تتمكن من الحفاظ على مدارها.
وفي أواخر مارس (آذار) الماضي، تحطم صاروخ "فالكون 9" الذي أطلقته شركة "سبيس أكس"، ويبلغ وزنه أطناناً عدة فوق شمال غربي المحيط الهادي وسقط الحطام في ولاية واشنطن.
أشهر مثال
ولعل أشهر مثال على كوارث الحطام الفضائي، هو أول محطة فضائية للولايات المتحدة "سكاي لاب"، ففي عام 1979 كانت وكالة "ناسا" تعتزم تعديل مدار المحطة الفضائية التي يبلغ وزنها 75 طناً، لكنها سقطت فوق المحيط الهندي وانتشر الحطام في أجزاء متفرقة من غرب أستراليا.
وفي عام 2001، ألغت روسيا مسار محطتها الفضائية "مير" عن عمد، لكنها احترقت في الغلاف الجوي وتحولت إلى 1500 شظية سقطت في المحيط بالقرب من جزيرة فيجي، وهبطت قطع أخرى من المحطة الفضائية المتساقطة في أماكن أخرى، بما في ذلك البرازيل والأقاليم الشمالية الغربية الكندية وفي جنوب الولايات المتحدة، حيث تساقط أيضاً بعد عامين فقط حطام مكوك الفضاء الأميركي "كولومبيا" بعد تفكك المكوك أثناء العودة عام 2003 وقتل رواده جميعاً في حادثة مفجعة.
من المسؤول؟
وقعت العديد من البلدان بما فيها الولايات المتحدة والصين على معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967 التي تحدد ما هو مسموح للدول القيام به قانوناً في الفضاء، واتفاقية المسؤولية الفضائية لعام 1972 التي تحدد المسؤول عن الأجسام الفضائية التي تسبب أضراراً على الأرض، لذلك فمن الناحية النظرية يمكن للدولة المتضررة أن تطلب تعويضات من الدول التي سببت أضراراً لها نتيجة سقوط أجسام فضائية، وإن كان الالتزام بها أمراً نسبياً وفقاً لبعض السوابق التاريخية.
فعلى سبيل المثال، تفكك قمر استطلاعي سوفياتي "كوزموس 954"، في يناير (كانون الثاني)، عام 1978 فوق أقاليم شمال غربي كندا، تاركاً وراءه حطاماً مشعاً على الأرض، وعلى مدى نحو عام جاب فريق أميركي كندي مشترك أكثر من 48000 ميل مربع من الغابات بحثاً عن أجزاء من المركبة الفضائية، وفي النهاية أرسلت الحكومة الكندية إلى الاتحاد السوفياتي فاتورة بقيمة ستة ملايين دولار كندي، دفع الاتحاد السوفياتي نصفها تقريباً.
قلق مستقبلي
وعلى الرغم من التطور الذي شهدته برامج الفضاء الصينية خلال السنوات الأخيرة، فإن ما يثير قلق علماء الفضاء الأميركيين والغربيين بصفة عامة هو استراتيجية الصين الواضحة في إطلاق مركبات فضائية كبيرة تشمل السماح للأجزاء المرتبطة بمراحل إطلاق الصواريخ بالعودة إلى الأرض بطريقة لا يمكن السيطرة عليها، فعندما لا تصل أجزاء المرحلة نفسها إلى المدار، تسقط الصواريخ على الأرض، وهي استراتيجية مختلفة عن تلك التي تستخدمها بقية وكالات الفضاء على الكوكب، والتي تخرج مراحل الإطلاق من المدار لتسقط فوق المحيط أو تترك أجزاء إطلاق مراحل الصواريخ في المدار الخارجي، وفي حالة شركة "سبيس أكس"، فإنها تعيد هذه الأجزاء إلى منصات الهبوط وتعيد استخدامها.
ولهذا طالب جيم بريدنشتاين مدير وكالة "ناسا" السابق، الحكومة الصينية العام الماضي بضرورة توافر إطار عمل متفق عليه لتنظيم العمل الفضائي بأمان، في وقت اعتبر مدير "ناسا" الحالي بيل نيلسون عقب سقوط الصاروخ الأخير، أن الصين فشلت في تلبية المعايير المسؤولة في ما يتعلق بالحطام الفضائي، ولم تتصرف بمسؤولية وشفافية في الفضاء لضمان سلامة أنشطة الفضاء الخارجي واستقرارها وأمنها واستدامتها على المدى الطويل.