لم يحدث في تاريخ الدولة اللبنانية أن ادعى قاضٍ على مسؤول أمني رفيع بجرم مخالفة قرار قضائي. إذ اشتعلت المعركة مجدداً بين مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس، المقرّب من رئيس الجمهورية ميشال عون وتياره السياسي، والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان المحسوب على رئيس الحكومة سعد الحريري، بعد ادعاء جرمانوس على عثمان لعدم تلبيته طلباً صادراً عن السلطة القضائية بوجوب تسليمه ﻻئحة الأذونات المتعلّقة باﻵبار والبناء والكسّارات والمرامل والمقالع والزفاتات والهنغارات والمشاغل، التي هي من اختصاص قوى الأمن الداخلي، بعدما كانت تُوزّع بشكل فوضوي، عندما كانت هذه الأذونات لدى السلطة السياسية.
تحقيق في تلقي رشى
بدأت المسألة بين القاضي واللواء عندما وقع في يد شعبة المعلومات التابعة لقوى الأمن الداخلي ملفّ أحد مرافقي النائبة العامة اﻻستئنافية في جبل لبنان القاضية غادة عون، الذي أوقف بتهمة تلقي الرشى والفساد.
وفي التحقيقات معه، بدأت تظهر أسماء سماسرة ومساعدي قضاة. ثم أوصل التعمق بالتحقيق إلى جوزف عازار، رجل القاضي جرمانوس، فجرى التحقيق معه وكشف معلومات بقيت سرية عن تورط جرمانوس وغيره من القضاة في ملف الفساد.
ووفق الأصول، أرسلت شعبة المعلومات إلى وزير العدل تقريراً مفصلاً عن الموضوع وتركت له حرية التصرّف بهذه المعلومات. فبادر وزير العدل إلى توقيف خمسة قضاة عن العمل، باستثناء جرمانوس الذي حظيَ بغطاء سياسي فرض عدم التعرض له.
ادعى جرمانوس في 8 أبريل (نيسان) الماضي على شعبة المعلومات بجرم تسريب محاضر تحقيق على الرغم من أنها ﻻ تتمتع بالشخصية المعنوية. ثم حرّك في مواجهتها ملف اﻵبار والمقالع، الذي يشمل وفق المعلومات كماً كبيراً من المخالفات المغطاة بأذونات منحت في وقت سابق، منها 160 ألف رخصة بئر ارتوازية و180 ألف مرملة في كسروان وحدها.
وسطر جرمانوس استنابة قضائية إلى الأجهزة الأمنية كافة، طلب فيها إبلاغه عن أي رشى يتقاضاها عسكريون في مواضيع حفر آبار ارتوازية من دون ترخيص، إضافة إلى أعمال بناء ومخالفات بناء في الأملاك العامة، خصوصاً في قضاء المنية، شمال لبنان، حيث اﻷكثرية المؤيدة لتيار المستقبل، الذي يترأسه الحريري.
ما طلبه جرمانوس بقيَ من دون جواب. فاللواء عثمان أوعز إلى الجهات المختصة في قوى الأمن بعدم تزويد أي مرجع ذي صلاحية أي معلومات أو مستنداتٍ أو الرد على طلبات ﻻ تدخل ضمن اختصاصه، على أن يتم الرجوع إلى القيادة في الحاﻻت المماثلة كافة.
واستند عثمان في تعميمه هذا إلى نص قانوني يعتبر أن النيابة العامة العسكرية، أي القاضي جرمانوس، هي سلطة قضائية بحتة غير مكلفة بأي مهمات في إطار الضابطة الإدارية، وأنها ليست سلطة وصاية على المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، وﻻ تتمتع بأي صلاحية رقابية على الأعمال الإدارية في قوى الأمن الداخلي.
غطاء سياسي
في المحصلة، رفض عثمان تسليم جرمانوس ﻻئحة الأذونات للآبار والمقالع وغيرها متسلحاً بالقانون وبعدم اختصاص القضاء العسكري بها، في حين تسلح جرمانوس بغطاء سياسي أمّنه له رئيس الجمهورية ووزير العدل السابق سليم جريصاتي، لعدم المثول أمام هيئة التفتيش القضائي للإدلاء بإفادته وتبديد الشبهات حوله انطلاقاً من نتائج التحقيقات مع جوزف عازار المقرّب منه، الذي حاول جرمانوس منذ توقيفه سحب ملفه من شعبة المعلومات، عبر التصويب على عدم قانونية مكان توقيفه، لكنه لم ينجح. وتسلح جرمانوس بضرورة مخاطبة وزارة الدفاع، وهي الجهة التي يتبع لها القضاء العسكري.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمفارقة أن وزير الخارجية جبران باسيل دخل أخيراً على خط التجاذب الحاصل بين جرمانوس وعثمان، مصوباً على الأخير بحديثه عن "ضابطة عدلية يجب مواجهتها تتولى الترخيص فوق الوزارة وفوق الإدارة، من حفر آبار وحماية كسارة ومرملة وتتباهى بتوقيع رخص".
أما الدعوى بحق عثمان، فهي غير ذي قيمة طالما أن مرجعيته، أي وزارة الداخلية، لم تمنح بعد الإذن بملاحقته، وهي لن تفعل.
بالتأكيد ﻻ يمكن فصل هذا الكباش عن المشهد السياسي في لبنان. ولعل ما قاله الرئيس عون أمام زواره يفسّر كل ما يحصل. إذ اعتبر أن الإمساك بكل مفاصل الدولة يتطّلب إمساكاً بالأمن والعسكر وبالمال، أي مصرف لبنان، وبالقضاء. وهنا بيت القصيد.