لنواجه الأمر ومفاده أنه لا أحد يحب المصرفيين. فمن خلال جشعهم وغطرستهم، أضاعوا ما لديهم من رأس مال ضئيل مخصص للعلاقات العامة مع اندلاع أزمة عام 2008، إضافة إلى فشلهم المؤسف في تقبل المسؤولية.
وبالنسبة إلى كثيرين في القلب التجاري للندن، عاد العمل بعد ذلك كالمعتاد، بل شمل أن منح المصرفيون أنفسهم مكافآت ضخمة. ولم تلق المزاعم بأن مكافآتهم قُلصت، آذاناً مصغية. فحتى حين تراجعت رواتبهم، استمرت مستوياتهما مرتفعة تماماً عن تلك الخاصة بالناس العاديين.
واستطراداً، لقد ازداد الشعور بالغطرسة والازدراء مع عدم استعداد أي منهم لمواجهة الانتقادات وإعطاء تفسير عن دوره (في أزمة 2008 المالية). ولا أزال أتذكر جيداً تلك الحيرة إزاء بنك "غولدمان ساكس" حين تعرض للسخرية بسبب كلمات رئيسه حول "أننا نقوم بعمل الإله". إنهم لم يفهموا.
ويستمرون في عدم الفهم.. وجاءت المحصلة فراغاً، إذ إنهم لن يتحدثوا عن أنفسهم (وفي المناسبات النادرة حين يفعلون ذلك، تنصت إليهم قلة من الناس)، وكذلك فإن الساسة ووسائل الإعلام والجمهور ليسوا مهتمين بالقدر الكافي.
في المقابل، من شأن ذلك كله أن يتسبب في مشكلة خطيرة. ففي الوقت نفسه الذي يتعين علينا فيه كبلد الترويج للقلب التجاري للندن، إذ نواجه تحديات من شركائنا السابقين في الاتحاد الأوروبي ويتعين علينا أن نمضي قدماً في الترويج لقدرتنا على تقديم الخدمات المالية في مختلف أنحاء العالم، ليس هناك سوى اللاشيء.
وفي الوقت نفسه، على المستوى المحلي، لدينا حكومة ملتزمة بتحقيق "المساواة"، لكن هناك علامة ثمينة تشير إلى كيفية تحقيق هذه الغاية. وكي تحظى عملية إعادة التوازن الكبرى هذه بفرصة ما، نحن في حاجة إلى ازدهار وتوسع مؤسساتنا الصغيرة والمتوسطة في المناطق الواقعة خارج الجنوب الشرقي. وبهدف تحقيق ذلك، يتطلب الأمر الحصول على تمويل من المصارف.
إذاً، ثمة فجوة متسعة، في لحظة حاسمة يجب على الحكومة والقلب التجاري للندن أن يعملا فيها معاً.
في ذلك السياق، يتولى تقرير جديد بعنوان "الخدمات المالية في القلب التجاري للندن والمملكة المتحدة: ورقة استراتيجية"، صدر عن المؤسسة البحثية "بوليسي إكستشاينج"، توضيح المخاطر التي يتضمنها الوضع الراهن. إذ يشير كاتبه الدكتور جيرارد ليونز، المستشار الاقتصادي لبوريس جونسون حينما شغل منصب رئيس بلدية لندن وكبير الاستراتيجيين الاقتصاديين في مؤسسة "نت ويلث"، إلى أن القلب التجاري للندن "عانى إهمالاً حميداً، ويتطلب الآن من الحكومة خوض معركة في سبيله". ويضيف ليونز، "في الوقت نفسه، يحتاج القلب التجاري للندن إلى مناصرته من قبل مزيد من الأصوات الداخلية".
واستكمالاً، يؤيد التقرير تبني نهج من مسارين هما استخدام القلب التجاري للندن في تحقيق نمو اقتصادي للمملكة المتحدة، ودعم القدرة التنافسية العالمية للقلب التجاري وتعزيزها.
ويستلزم المسار الأول نهوض القلب التجاري بقسطه في ذلك النهج، عبر امتداد عمله إلى ما هو أبعد من تمويل المصارف المشاريع الصغيرة والمتوسطة، على الرغم من أن هذا يشكل عنصراً بالغ الأهمية. إذ ينبغي لتلك السياسة أيضاً أن تتضمن إنشاء مراكز إقليمية للوظائف الإدارية في مجال التمويل وغير ذلك من الخدمات، وأن يقدم القلب التجاري دعماً ضخماً لمشاريع البنية التحتية (مبالغ كبيرة تحدث فارقاً، فقد اكتفينا من المدفوعات الصغيرة الرمزية)، إضافة إلى شمول الخدمات المصرفية الشخصية مزيداً من المواطنين، بمعنى "توفير الخدمات المصرفية لمن لا تتوفر لهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشمل المسار الثاني تدخل الحكومة كي تساعد في ضمان احتفاظ القلب التجاري بجاذبيته الدولية، وكذلك تناسب البيئة التشريعات التنظيمية مع السوق التي تتسم بالمنافسة الشرسة، بهدف منح المملكة المتحدة ميزة تنافسية، وإبقاء أسواقنا سيالة وعميقة.
وتوضيحاً، يكمن قدر كبير من جاذبية القلب التجاري بالنسبة إلى المستثمرين الخارجيين، في أساس القانون العام الإنجليزي. فمراراً وتكراراً، يحل نظامنا القانوني الفريد في رأس قائمة الأسباب التي تجعل الناس يضعون أموالهم هنا. إنه ورقتنا الرابحة، ويحتاج إلى التعزيز والترويج في شكل متكرر.
وبالتالي، بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي، بتنا قادرين الآن على التحلي بقدر أعظم من المرونة والواقعية في التعامل مع تشريعاتنا. ويتعين علينا أن نغتنم هذه الفرصة. وبحسب ليونز، "لا ينبغي أن يكون التركيز على مجرد تحسينات شكلية أو خفض التكاليف، بل التنظيم الذكي الذي يكون منطقياً في المجالات التي ينطبق عليها".
وبطبيعة الحال، يستطرد ليونز، "لا بد من أن يشمل ذلك حماية حقوق المستهلك، لكن قواعدنا يجب أن تقاس بالمقارنة مع تأثيرها في الاقتصاد والقدرة التنافسية للندن، فضلاً عن تحقيق الاستقرار المالي".
في ستينيات القرن العشرين، أصبحت لندن موطناً للسوق الخارجية للدولار المعروفة باسم سوق "الدولار اليورو"، حين كان مصطلح "اليورو" يعني الدولي. وحاضراً، يختار الاتحاد الأوروبي سلوك مسار يتضمن إنشاء أسواق مجزأة في مختلف منتجاته من المشتقات المالية. حسناً، فليكن.
وفي ذلك الصدد، يلفت ليونز إلى أنه "ينبغي للقلب التجاري للندن الآن أن يصبح مكاناً جذاباً للأسواق الموازية في الأدوات المالية المقومة باليورو، بمعنى أن يكون المركز التجاري الشرعي الخارجي للأوراق المالية المقومة باليورو. فمن شأن ذلك أن يجعل سوق "اليورو اليورو" (بمعنى وجود قيمة باليورو من المشتقات المالية المرتبطة بالاتحاد الأوروبي صاحب عملة اليورو) تنمو الآن في لندن، على غرار سوق "الدولار اليورو" خلال تلك العقود من الزمن كلها".
وبكلمات أخرى، فإن القلب التجاري للندن في وضع يسمح له بالاضطلاع بدور رائد في الأسواق النامية الجديدة كأسواق التكنولوجيا المالية، والتمويل الأخضر، والمصارف الإسلامية، والتجارة الإلكترونية والمؤتمتة، والـ"بيتكوين". في المقابل، يتعين علينا أن نضمن توفر الأدوات والتنظيمات الضرورية اللازمة للتخصص في شكل كامل في كل من هذه المجالات.
في إطار واسع، يبدو ذلك كله عظيماً ومشجعاً. لكن المسألة هنا تكمن في عدم وجود عدد كاف ممن يقولون به ويدفعون إلى تحقيقه. إذ يكاد يكون مستحيلاً العثور على مناصرين للقلب التجاري للندن في البرلمان، مع ملاحظة أن أغلب الساسة، بل حتى المحافظين، ينظرون إلى دعم العمل المصرفي باعتباره منفراً بشكل رئيس للناخبين، ونادراً ما يقرون بالإعراب عن موافقتهم.
في سياق مغاير، من المؤسف أيضاً أن استفراد القلب التجاري بكل أشكاله أصبح متورطاً في شعار "إن كل ما يهم يتمثل في شمال "واتفورد غاب" (ضاحية تربط وسط البلاد مع جنوب شرقي إنجلترا)" الذي ترفعه الحكومة. ولا يجري الحديث عن مكان مبهج في لندن حيث لا يزال الناس ينغمسون في عادات غريبة، وعديد من سكانه يزدهرون. في المقابل، إن ذلك يتسم بقصر النظر. وما لا يقال بقوة كافية يتمثل في الحجة التي تفيد بأن بقية البلاد قادرة على الكسب والاستفادة من قلب تجاري للندن يكون قوياً ومتسعاً ونابضاً بالحياة.
ويتعين على أهل القلب التجاري، في لندن، أن يتحدثوا أكثر وأن يظهروا اهتمامهم.
ويفيدنا التاريخ بأنه لا شيء من هذا سهل. لكن في الوقت الحالي، عبر عدم فعل أي شيء، نهدر أصلاً ثميناً متفوقاً على مستوى العالم (= القلب التجاري للندن).
© The Independent