قدر سوريا أن تعيش سنوات عجافاً أرخت بثقلها على أهلها، وطاولت بنكباتها المتتالية على أراضيها من دون نهاية متوقعة أو واضحة المعالم. وبعيداً عن الحرب التي ألمت بالبلاد، كانت لنوائب الطبيعة حصة من أوجاع السوريين بموسم جفاف قض مضجع الجميع.
ويكد الفلاحون تحت لهيب شمس حارقة، وبما تبقى لديهم من سنابل ذهبية لم يلتهمها "غول" الجفاف، بالسعي الدؤوب إلى حصادها علها تفي بتغطية جزء وبما تيسر من تكاليف الإنتاج الزراعي لهذا الموسم "الخاسر"، بحسب المزارعين.
وهذا ما دفع الحكومة إلى فتح باب تسلمها للمحاصيل بأسعار تشجيعية زادت عن العام الماضي، من 500 ليرة إلى سعر وصل لنحو 900 ليرة للكيلوغرام الواحد، أي ما يعادل 25 سنتاً.
غلال في مهب الريح!
عوامل عدة كالجفاف وانخفاض منسوب نهر الفرات والحرائق المفتعلة في الأراضي الزراعية، أبرز ما يواجهه المزارعون، بل وانعكس على الأمن الغذائي للسوريين، فيما اليوم يتحسسون مخاطر ذلك بعد انخفاض كمية هطول الأمطار إلى نسبة بين 50 و75 في المئة، وهي سابقة من نوعها لم تحصل منذ عقود في كل المحافظات السورية.
وبحسب المعلومات الواردة، فإن الجزيرة السورية، وهي مركز الثقل للغلال الغذائية والاستراتيجية من قمح وقطن وشعير وحبوب، انخفض مردودها أقل من النصف، وبعضهم أطلق أراضيهم لـ"التضمين" بأسعار متدنية جداً، في وقت يعتقد فيه أحد المزارعين ويملك عدة دونمات مزروعة بالقمح، أنه "من المجدي بيع محصول الأرض لمربي الأغنام لتأكلها الماشية بما فيها من سنابل يابسة، أفضل من صرف تكاليف لا طائل منها. إنها خسارة، بل كارثة لا يمكن تعويضها".
القمح خرج من المعادلة
ويضرب الجفاف ضربته القاصمة مخرجاً مساحات واسعة من الأراضي الزراعية خارج معادلة الأمن الغذائي التي كانت تعول عليها حكومة النظام السوري، ولتهوي كل الحسابات والمراهنات على أن يكون 2021 "عام القمح" بعد زراعة واسعة لكل شبر من الأراضي بهدف التخفيف من وطأة استيراد القمح والطحين.
وفي هذا الشأن، يرى الباحث في الاقتصاد الزراعي، حسام محفوض، أنه من الضروري أن تؤمن سوريا قرابة مليوني طن من القمح سنوياً حتى تتمكن من تلبية احتياجات مواطنيها من مادة الخبز، قائلاً "لعل هذا الجفاف الذي أصاب كافة محاصيل المحافظات السورية هذا العام لم تشهده البلاد منذ عقود". ويشبه إلى حد ما جفافاً أصاب البلاد في عام 2008 قبل الحرب بسنتين حين "ترك انخفاض الهطولات المطرية تأثيرات واسعة على المزارعين، وعلى الحياة الاقتصادية الزراعية والحيوانية على حد سواء، وهذا ما دفع بعضهم لزيادة أسعار المواشي، أو اللجوء إلى التهريب طمعاً بزيادة الأسعار".
ويعتقد أن تحرك دمشق عبر مؤسساتها المعنية مثل مؤسسة الحبوب لشراء القمح ضمن وصوله على شكل مساعدات، كما حدث نهاية العام الماضي حين وصل 100 طن قمح من موسكو كمساعدات إنسانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويلفت الباحث الاقتصادي إلى إجراءات صارمة اتخذتها الحكومة للحد من الهدر والفساد في المخابز عبر توفير بطاقة ذكية لكل عائلة، تمنح بموجبها كميات محددة في الشهر للتخفيف من هدر ما يسمى "الخبز العلفي"، بالتالي تخفيف الهدر بالوقود ومواد التشغيل والطحين.
القمح عبر البحر الأسود
في المقابل، يبدو أنه لا محالة من استجرار القمح من "حلفاء دمشق" بعد هذا الشح، خصوصاً فيما يتعلق برغيف الخبز، ومن أزمات طوابير كانت تمتد السنة الماضية أمام المخابز والأفران، لا سيما مع توقع أن يصل الإنتاج إلى 1.2 مليون طن من القمح البعلي.
من جانبه، أعلن السفير الروسي لدى سوريا، ألكسندر إيفيموف، عزم بلاده عن توريد ما يصل إلى مليون طن من القمح إلى سوريا هذا العام بعد توريد نحو 350 ألف طن من القمح إلى سوريا في مارس (آذار) الماضي، بحسب تصريحات صحافية، وبذلك سيعود الرغيف السوري رهين الطحين المستورد من موسكو مجدداً، على الرغم من كل المحاولات الزراعية الخروج من العباءة الروسية.
سباق الأطراف السياسية
وبحسب المعلومات الأولية الواردة من وزارة الزراعة، فقد بلغت في 30 مايو (أيار) نسبة المساحة المحصودة في دير الزور شرق البلاد قرابة 9500 هكتار من أصل مساحة مزروعة تبلغ 29 ألفاً و460 هكتاراً.
بينما تتنازع السلطات المسيطرة على الأراضي المروية والبعلية بالقمح والغلات المزروعة، على امتلاك الحصة الأوفر من الإنتاج، وترفع من سعر الكيلوغرام الواحد لاستقطابها المزارعين وتشجيعهم على تسليم غلالهم، ونيلها المزيد في صوامع ومخازن الحبوب.
ولهذا رفعت الإدارة الذاتية "الكردية" من سعر تسلم القمح إلى 1150 ليرة، أي ما يعادل 27 سنتاً تقريباً للكيلوغرام الواحد، وهذا سعر منافس تريد به تشجيع الفلاحين على تسليم إنتاجهم المتدني إليها. في حين أعلنت الحكومة السورية عن تخصيص 450 مليار ليرة، أي مليار ونصف المليار دولار، لتسديد ثمن محصول القمح لهذا العام.
سباق محموم
السباق المحموم بين كل الأطراف السياسية للحصول على الغذاء هذا العام بدا جلياً. فهذا الموسم الزراعي ليس كبقية مواسم الخير وما جادت به الأرض على أصحابها، وعزا وزير الزراعة السوري، حسان قطنا، انخفاض محاصيل القمح والشعير إلى الجفاف الذي لم تشهده البلاد منذ سبعة عقود.
فالمساحات المزروعة كانت بحدود مليون ونصف المليون هكتار نصفها بعلي ونصفها مروي، إلا أن 80 في المئة من المساحات البعلية خرجت من الاستثمار، ناهيك بمخاطر جمة ما زالت تلاحق المزارعين وتنحصر بأخطار الألغام في الأراضي التي شهدت نزاعاً مسلحاً، وآخرها احتراق 30 دونماً من القمح وعطب حصادة جراء انفجار لغم من مخلفات الحرب في قرية الجبين في ريف حماه وسط البلاد.
ومع كل الظروف التي تخيم على الإنتاج الزراعي بمشهد سوداوي من جفاف وضائقة مالية، وشح بالموارد المالية الآتية من نهر الفرات، سيكون أمام أهالي البلد والحكومة مواجهة أزمة غذائية تلوح بالأفق ما لم تسعفها الإمدادات من حلفاء دمشق، ستشهد على أثرها أزمة اقتصادية خانقة.