بقوة التسريبات، وتعدد المواقف التي كشفت عنها الإيميلات المتناثرة في الصحف العالمية، يتصدر مدير المعهد الوطني الأميركي للحساسية والأمراض المعدية، أنتوني فاوتشي، الساحة الأميركية، على وقع مواقف قديمة متجددة، كشفت عنها آلاف الرسائل البريدية حول حجم الخلافات بين أفراد فريق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وفاوتشي، للتعاطي مع أزمة جائحة كورنا.
وعلى الرغم من حالة الموثوقية التي تمتع بها فاوتشي الثمانيني، والذي عاصر نحو ستة رؤساء أميركيين، على المستوى الشعبي طوال أشهر تفشي وباء كورونا في الولايات المتحدة، فإن التسريبات الجديدة، التي رفعت عنها السرية، أخيراً، أجلت حجم القلق والارتباك الذي عم الولايات المتحدة نتيجة الجائحة، لا سيما على صعيد صراع العلم بين الجمهوريين والديمقراطيين، وتبني نظرية تسرب الفيروس ونشأته في مختبر صيني، إضافة إلى تعاملات فاوتشي مع الحكومة ومسؤولي الصحة المحليين ووسائل الإعلام والمشاهير والأميركيين العاديين.
وما عزز من أهمية التسريبات الجديدة، وفق مراقبين، هو الحالة التي وصلت إليها الولايات المتحدة، كأكثر دول العالم تضرراً من كورونا، منذ ظهوره في الصين نهاية عام 2019، وبداية تفشيه حول العالم مع بداية عام 2020، وذلك على الرغم من تمسك الرئيس السابق دونالد ترمب، بفتح الولايات وعدم التقيد بالإجراءات الاحترازية والوقائية التي دعت إليها لجنة إدارة كورونا في حينها، ما عدد أسباب الخلاف بين الرئيس آنذاك، ورئيس اللجنة العملية المشرفة على الأزمة، فاوتشي، وقاد في النهاية إلى إحصاء البلاد، حتى الآن، نحو 20 في المئة من إصابات العالم وحدها، إذ سجلت أكثر من 34 مليون إصابة وما يفوق عن 600 ألف وفاة، من إجمالي نحو 172 مليون إصابة حول العالم، وأكثر من ثلاثة ملايين و730 ألف وفاة، وفق أحدث الإحصاءات العالمية التي نشرتها جامعة "جون هوبكنز".
بدايات الوباء وتضارب المعلومات
وبحسب ما نقلت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، فقد أظهرت آلاف الرسائل المسربة من بريد فاوتشي الإلكتروني، حجم الاتصالات والاستفسارات من كبار متخصصي الأمراض المعدية في الولايات المتحدة، لتعكس حينها حجم الذعر والخوف اللذين سيطرا على الأوساط العلمية الأميركية مع بدايات انتشار كورونا في الولايات المتحدة أوائل العام الماضي 2020، موضحة في الوقت ذاته، وفيما كان يسعى فاوتشي، لبحث سبل مواجهة تفشي الوباء "علمياً"، كان البيت الأبيض والرئيس ترمب، يقللان من أهمية المخاطر ويطالبانه بتصوير تفشي المرض وفقاً لشروطه.
وفي شهادة تلفزيونية لاحقة، بعد وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، في 20 يناير (كانون الثاني)، خرج فاوتشي عن صمته في حوار مع برنامج The Rachel Maddow Show حين قال إن "ضغوطاً مخيفة مورست على العلماء" في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، موضحاً أن تلك الضغوط كانت من المسؤولين الذين يسعون إلى تقديم رسائل إيجابية في شأن فيروس كورونا، معتبراً أن الوضع غير العادي شهد تشويهاً ورفضاً للعلم، حيث "مورس كثير من الضغط لتنفيذ ما لا يتوافق مع العلم"، على حد وصفه.
وقال فاوتشي كذلك، الذي أبعد من الأضواء بعد تبنيه مواقف تتعارض مع سياسة ترمب، إنه قدم المشورة لعديد من الإدارات والرؤساء، من الجمهوريين والديمقراطيين، "لكن حتى مع وجود اختلافات في الأيديولوجيا، لم يكن هناك مثل هذه الإهانة الحقيقية للعلم". أضاف، "لذلك، كان انحرافاً حقيقياً لم أره خلال 40 عاماً. إنه أمر تقشعر له الأبدان".
قلق متنامٍ واضطرابات متواصلة
وعوداً إلى التسريبات في شأن البدايات الأولى لتفشي كورونا في الولايات المتحدة، يقول موقع "بازفييد"، إن الإيميلات كشفت عن حجم القلق الذي انتاب الأوساط الأميركية المختلفة، إذ كان البريد الإلكتروني الخاص بفاوتشي يمتلئ باستمرار برسائل المسؤولين والجمهور والمشاهير الذين يقدمون النصائح ويسعون للحصول على معلومات حول الأزمة الصحية، وهو ما عكس حجم الضغط الذي تعرض له رجل الطب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق ما نقلت "واشنطن بوست"، تلقى فاوتشي في تلك الفترة، كل أنواع الأسئلة، معظمها من الأشخاص الذين كانوا مرتبكين قليلاً في شأن البيانات المتعددة التي كانت تخرج من البيت الأبيض، ما اضطره في النهاية للحصول على فريق أمني بدوام كامل وسط تهديدات من المتطرفين والمنتقدين.
ووصفت الصحيفة كل مراسلات فاوتشي بالمهذبة، والتي كان يختتمها دائماً بكتابة اسمه، كما تخللها بعض الفكاهة، إذ تسلم في إحدى المرات رسالة من مجهول تضمنت خبراً طريفاً وغير صحيح عنه شخصياً، ما اضطره للإجابة بالقول، "سوف يذهل عقلك. مجتمعنا مجنون تماماً حقاً".
خلافات متصاعدة مع البيت الأبيض
وعلى مدار عام الوباء الماضي، عكس أكثر من موقف حجم الخلاف المتنامي بين ترمب ومستشاره العلمي فاوتشي، فيما يتعلق بإدارة أزمة كورونا، وصلت لحد تلميح الرئيس في أكثر من مناسبة بعزمه "إقالة فاوتشي" بسبب إحباطه من استمرار انتشار فيروس كورونا وارتفاع معدلات انتشار الوباء على مستوى البلاد، فضلاً عن آرائه فيما يتعلق بالأزمة.
وفي هذا توضح التسريبات الأخيرة، أن بعض المراسلات بين فاوتشي ومسؤولي البيت الأبيض كانت تعبر عن مدى الاحتقان بين الطرفين في تلك الفترة واتساع هوة الخلاف في شأن التعاطي مع أزمة كورونا.
وخلال أشهر الوباء الأولى في الولايات المتحدة، تحدث أكثر من تقرير إعلامي أميركي، عن تصاعد الخلاف بين الرئيس السابق ترمب وفاوتشي، على وقع رغبات متزايدة من مسؤولين في البيت الأبيض، تتحدث صراحة عن استيائهم من تصريحات فاوتشي المتكررة المتعارضة مع ما يقوله الرئيس، ووفق شبكة "سي أن أن" الأميركية، فإن عديداً من المسؤولين في ذلك الوقت كانوا يشعرون بالقلق من عدد المرات التي كان فيها رجل العلم "مخطئاً" مع بدايات انتشار الوباء، ومن بينها تقليل فاوتشي لأهمية الفيروس في بدايته، ومن ذلك قوله إن الناس لا ينبغى أن تتجول وهي ترتدي الكمامة.
تهميش فاوتشي
وبحسب تصريحات لاحقة نقلها موقع "ذي هيل" الأميركي عن فاوتشي في أوائل يناير العام الحالي، فقد عبر الأخير في أكثر من مناسبة عن عدم رضائه في شأن تناقض موقفه مع موقف الرئيس السابق، والصراع المرافق لهذا الوضع، قائلاً "لا يمكنك أن تقول شيئاً فيما هناك تداعيات، لم يدع المسؤولون العلم يتكلم على الرغم من أنه كفيل بالتحرر من الوباء". وأكد فاوتشي حينها، الذي تجدد دوره في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، أنه على الرغم من ضغوط البيت الأبيض على وكالات مثل مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، وإدارة الغذاء والدواء الأميركيتين، كان هناك مسؤولون قاوموا مثل تلك السياسات، مستغرباً أحد تصريحات ترمب في إحدى المناسبات عندما قال إن 99 في المئة من الإصابات بكورونا في الولايات المتحدة غير مضرة بالكامل، ليرد فاوتشي حينها قائلاً "لا أعرف من أين حصل الرئيس على هذا الرقم"، وفق شبكة "سي أن أن".
وفي يوليو (تموز) الماضي، ووفق ما نقلته حينها صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، فإن البيت الأبيض سعى في أكثر من مرة من عمر الشهور الأولى من الوباء، لتهميش أنتوني فاوتشي، بعد تحذيراته المتكررة من وضع كورونا في الولايات المتحدة. وقالت الصحيفة الأميركية، إنه وعلى الرغم من لعب الطبيب فاوتشي دوراً "قيادياً" على مدار أشهر في أزمة كورونا في البلاد، فإن مع ابتعاد إدارة ترمب عن نصيحة كثير من علمائها والمتخصصين في الصحة العامة فيها، سعى البيت الأبيض لتهميش فاوتشي عبر إلغائه بعضاً من ظهوره التلفزيوني، وهو ما قابله فاوتشي بعدم تقديم إحاطات يومية للرئيس.
ومع إشارات الصراع المتكررة والمستمرة بين فاوتشي والرئيس، إلا أنه ووفق "واشنطن بوست"، لم يستطع ترمب إقالة فاوتشي مباشرة، نظراً لما يتمتع به الأخير من ثقة متزايدة في الشارع الأميركي، فضلاً عن تأييد واسع في الأوساط الحزبية الديمقراطية والجمهورية.