تضيق حلقات الحصار المطبق على سوريا سنة تلو أخرى، وما زال السوريون بعد عقدٍ من السنوات العجاف يستشعرون ضرورة البحث عما يمكن أن يشكل "طوق نجاة" لكن دون جدوى.
وفيما يكتوي المواطنون بلظى الحرب، ويتكبدون مزيداً من الخسائر عقب استفحال الأزمة المالية في بيروت، وانسداد آخر متنفس اقتصادي لهم مع تداعيات جائحة كورونا على البلاد، وإغلاق الحدود في بلد بالأصل يعيش حالة حصار، زاد استمرار العقوبات والحصار لعام إضافي "الطين بلة".
بين السياسة والاقتصاد
صحيح أن العقوبات التي لاحت منذ عام 2011 بعد اندلاع النزاع المسلح في سوريا، استهدفت وما زالت لتوها شخصيات وكيانات حكومية وغير حكومية، ووضعتها على لوائح العقوبات، وصل عددها إلى 283 شخصية جُمدت أصولهم في أراضي دول الاتحاد الأوروبي، ومُنعت من السفر إليها، إضافة إلى 70 كياناً، إلا أن الاستهداف خرج من الدوائر الضيقة ليطال كل الشارع السوري.
ويرى باحثون في مجال الاقتصاد السياسي، أن قرار الاتحاد الأوروبي الأخير الذي صدر في 27 مايو (أيار) الماضي، والمتعلق بتمديد العقوبات على سوريا، جاء متمسكاً بالموقف السياسي حيال دمشق، المتمثل في قرار مجلس الأمن رقم 2254 والمرتبط بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية كمخرج وحيد لإنهاء حالة الحصار ورفع العقوبات.
واللافت أن قرار التمديد الذي ظهر عشية إعلان نتائج انتخابات الرئاسة السورية، يوحي ببعض التناقض وفق بعض السياسيين، فقد تبعته إشارات بدأت تلوح في الآونة الأخيرة مؤشرات إلى حلحلة سياسية، لا سيما دبلوماسية، منها الاستعداد بشكل خجول لفتح أبواب السفارة القبرصية في العاصمة السورية. وذلك إن حصل، سيشكل تناقضاً في سياسة الاتحاد تجاه سوريا.
وورد في بيان مجلس الاتحاد الأوروبي أن الحظر يشمل استيراد النفط وتقييد الاستثمارات وتجميد أصول البنك المركزي السوري في دول الاتحاد وتقييد تصدير المعدات والتكنولوجيا إلى سوريا.
انكفاء الاستيراد وندرة التصنيع
في غضون ذلك، تعيش الحركة التجارية في البلاد أسوأ حالاتها بعد القرار الأوروبي، بعد ما راهنت كيانات اقتصادية على تحسن الأوضاع عقب الانتخابات الرئاسية.
ويعني هذا التمديد بالنسبة إلى الوسط التجاري السوري مزيداً من البحث عن القطع الأجنبية، وعن شركات توفر البضائع والمواد الخام للاستيراد، في ظل ضآلة الإنتاجين الزراعي والصناعي في البلاد.
ورأى الباحث الاقتصادي، رضوان مبيّض أن "الواقع الاقتصادي إذا ما ظل على ما هو عليه، فستشهد البلاد مزيداً من المعاناة بعد غياب البضائع عن الأسواق وتقلصها، وصعوبة تأمين المواد الأولية المشغلة للمعامل، وتدني مستوى القدرة الشرائية". وحذر مبيض من مغبة عدم اتخاذ إجراءات اقتصادية داعمة للصناعة بكل أشكالها لأنها "ستكون العماد الأول لبقاء الاقتصاد واقفاً على قدميه، ودونها ستأتي موجات انهيار على الرغم من تحسن سعر صرف الليرة، من 5 آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد، إلى 3 آلاف في سوق الصرف غير الرسمي".
تمويل الواردات
في المقابل، أصدرت الحكومة السورية قراراً مطلع يونيو (حزيران) الحالي، سمح بتمويل الواردات، وأهمها المواد الاستهلاكية الأساسية وفق سعر الصرف الرسمي المحدد بـ2525 ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد، وعمولة لا تتجاوز 10 في المئة. وستمول 70 إلى 80 في المئة من المواد الأساسية الاستهلاكية حصراً.
ومن الملفت بحسب الباحث مبيض أن "القرار بتمويل الواردات جاء بعد القرار الأوروبي بتمديد العقوبات، ما يعكس سعياً إلى مداراة الصدمة الجديدة بعد ما خابت الآمال بفتح الأبواب المغلقة مع أوروبا". وأضاف أن "أبرز التأثيرات التي سيشهدها الاقتصاد السوري بعد تمديد العقوبات، فهي تحديات صعوبة تأمين الوقود المشغل للمعامل والسعي للحصول على المزيد من الواردات النفطية من إيران، التي إن خرجت من قائمة الدول المصدرة لسوريا فستواجه البلاد كارثة في ظل تمديد الحظر الأوروبي على شراء النفط من قبل سوريا، وحظر بيع المعدات المتعلقة بالقطاع النفطي".
تجدر الإشارة إلى أن إنتاج سوريا من النفط انخفض من 80 ألف برميل يومياً إلى 72 ألفاً، وفق بيانات صدرت في أبريل (نيسان) الماضي، بينما تقدر حاجة سوريا اليومية بـ150 ألف برميل.
إعادة الإعمار
في السياق، يرى مراقبون اقتصاديون أن الواقع سيكون سوداوياً أمام فرص إعادة الإعمار التي تحتاجها البلاد. وتوقع الأكاديمي في جامعة دمشق، محمد حاج عثمان أنه "لن يكون بمقدور روسيا والصين الولوج إلى ملف الإعمار إلا من البوابة الأوروبية". وأردف قائلاً إن "استمرار العقوبات يعني تأخراً في الإعمار، وبالنتيجة بطء في عودة اللاجئين إلى الديار، الأمر الذي تضغط به دمشق وموسكو حيث تشكل قضية اللاجئين ورقة ضاغطة في البلاد الأوروبية".
ورجَح عثمان في الوقت ذاته "دخول شركات روسية وصينية إلى مدن سورية استقرت أمنياً من باب المساعدة في إعادة الحياة إليها ولو بشكل جزئي، لكن الواقع لا يغير من أن كلفة إعادة إعمار ما دمرته الحرب السورية تبلغ 400 مليار دولار، ووجود ضرورة لتوفير البنية التحتية لعودة نحو 6 ملايين لاجئ سوري. وهذه الفاتورة الباهظة لن يكون بمستطاع الدول الحليفة لسوريا تسديدها، إذ إن الأمر يرتبط بإنهاء النزاع أولاً، لأن ما سيُعاد إعماره سيُدمر مجدداً في حال لم تنته الحرب، ولم يتم التوصل إلى حل سياسي".
هجرة رؤوس الأموال
من جانبه، قال رجل أعمال سوري يعمل بين سوريا ومصر، إنه يحاول الخروج بأقل الخسائر المالية بعد ما نقل جل أعماله ومصانعه إلى بلد عربي حاول على الدوام استقطاب رؤوس الأموال ونجح في ذلك.
وكان حجم التبادلات التجارية بين سوريا والاتحاد الأوروبي، انهار بنسبة 60 في المئة في عام 2012 مقارنة بعام 2011، بينما وصل إلى 10 في المئة عام 2018، علاوة على تضييق كبير في التحويلات المالية بالنسبة للشركات والأفراد، ما يحد من الحركة التجارية، ويعرض الوسطاء من خارج سوريا للعقوبات أيضاً.
وصرح الباحث الاقتصادي عمر محمد بأن "تركيا صاحبة الرقم الأفضل في حجم الاستثمارات بالنسبة لرؤوس الأموال المهاجِرة من سوريا". وقال إنه "في ضوء بيانات حديثة لمركز أبحاث السياسات الاقتصادية التركية "TEPAV" صدرت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، تبين أن عدد الشركات السورية التي تأسست في تركيا خلال العام الحالي ارتفع بنسبة 85 في المئة، وباتت تشكل 11.8 في المئة من إجمالي عدد الشركات الأجنبية في تركيا".
وتعزف الشركات الأجنبية ورؤوس الأموال المهاجرة عن العودة إلى سوريا، مع استمرار العقوبات الأوروبية، كما أنها تحتاج إلى بيئة آمنة للعمل في المقام الأول، وهذا الأمر لا يتوفر بالقدر الذي يحتاجه صاحب رأس المال.
قوانين بين السطور
في سياق آخر، ترتبط العقوبات الأميركية والأوروبية ببعضهما كتوأمين على الرغم أن لكل منهما قوانينه ومبرراته، لكن المحامي المتخصص في القانون الدولي في جامعة هارفرد الأميركية هاروت أكمانيان، تحدث عن القدرات القانونية وكيف تتظهّر هذه العلاقة بين القانونين الأميركي والأوروبي. وقال أكمانيان إن "مجلس الاتحاد الأوروبي يتمتع بسلطة تقديرية واسعة لرفع العقوبات عن سوريا بموافقة جميع دوله الأعضاء. عملياً، اتفاق القوى الكبرى في الاتحاد يضمن تأمين اتفاق على مستوى دوله عامةً، إضافة إلى ذلك، يتم تجديد العقوبات الأوروبية على سورية سنوياً، مما يوفر آليةً منظمة للاتحاد الأوروبي لتقييم العقوبات وتعديلها".
زوال الأعباء الاقتصادية
ولفت أكمانيان إلى أن "تجديد الاتحاد الأوروبي في السنوات الأخيرة العقوبات دون أي نقاش، أمر ملحوظ، وهو نتيجة فرض عقوبات أميركية إضافية على سورية وفق قانون قيصر. وستمتنع معظم الشركات الأوروبية متعددة الجنسيات عن التعامل مع سورية في إطار سعيها إلى عدم مخالفة قانون قيصر طالما ظلت العقوبات الأميركية سارية، وذلك حتى ولو عُلّقت العقوبات الأوروبية المفروضة على سورية أو رُفعت".
وتوقع "مركز كارتر" في دراسة له صدرت في سبتمبر (أيلول) 2020، إمكانية رفع العقوبات الأميركية والأوروبية بمعزل عن بعضهما البعض. وذكر البحث الذي تناول العقوبات على سوريا أن "قرار الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى رفع العقوبات حتى وإن أبقت الولايات المتحدة قيودها على التجارة الأميركية مع سوريا، كما سيخفف العبء الاقتصادي بشكل كبير". وأشارت الدراسة أن "الروابط الجغرافية والتاريخية مع سوريا تعني أن الاتحاد الأوروبي قد يكون شريكاً تجارياً أكثر أهمية بالنسبة لسوريا من الولايات المتحدة".
وهكذا يرتبط زوال العقوبات بلا أدنى شك مع تسويات سياسية شاملة تشهدها البلاد للخروج من دوامة الأعباء الاقتصادية التي تنتجها العقوبات، أو ما يصفها السياسيون الموالون لدمشق بـ"الإجراءات أحادية الجانب"، التي انعكست بحسب رأيهم على معيشة المواطنين، بينما تراها أوروبا وأميركا مساندة لهم.